لم يشأ الدستور اللبناني أن يجعل تكوين السلطة متروكاً لهوى الجهات المنوطة بها هذه المهمة، فأوجب اجراء الانتخابات النيابية العامة خلال مهلة ستين يوماً التي تسبق انتهاء أجل الولاية (المادة 42)، وخلال شهرين من تاريخ شغور المقعد النيابي (المادة 41)، كما أوجب انتخاب رئيس الجمهورية قبل موعد انتهاء ولايته بمدة شهر على الأقل أو شهرين (المادة 73)، وأما إذا خلت سدة الرئاسة فلأجل انتخاب الخلف، يجتمع المجلس فوراً بحكم القانون (المادة 74).
واضح مما تقدّم أن الدستور لم يشرّع للفراغ ولم يكن بوارد أن يترك مؤسسة دستورية شاغرة لأي حجة أو سبب، وما ينطبق على رئاسة الجمهورية ومجلس النواب، ينطبق على تشكيل الحكومة، فبالرغم من أن الدستور لم يحدد أية مهل لإستشارات التكليف والتأليف، إلا أن ذلك لا يعني أن الأمر متروك لهوى القيّمين على الأمر.
إن تشكيل الحكومة له مفتاح دستوري وحيد هو تسمية الرئيس المكلّف، وكانت هذه التسمية في السابق بيد رئيس الجمهورية منفرداً حيث أولته المادة 53 وفق دستور ما قبل الطائف صلاحية تعيين الوزراء وأن يسمي من بينهم رئيساً، غير أن هذه الصلاحية لم تعد قائمة في ظلّ الدستور الجديد.
لقد وضع الدستور الجديد آلية خاصة لتسمية الرئيس المكلف محددة في المادة 53 التي نصّت في فقرتها الثانية على أن يسمي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استناداً إلى استشارات نيابية ملزمة يطلعه رسمياً على نتائجها.
بحسب هذه المادة، فإن سلطة التقرير في تسمية الرئيس المكلف تعود للنواب بالدرجة الأولى، إذ أدخل الدستور ضمن صلاحيات النواب الدستورية صلاحية المشاركة في تعيين رئيس الحكومة، فلقد ألزم الدستور رئيس الجمهورية باستشارة النواب لمعرفة مرشحيهم إلى رئاسة الحكومة، وبعد الوقوف على التوجهات النيابية يتشاور رئيس الجمهورية مع رئيس مجلس النواب في نتائج هذه الاستشارات ويتقرر في الدرجة الثانية وعلى أساس هذا التشاور تسمية الرئيس المكلّف إستناداً إلى رأي الغالبية النيابية، اي أن قرار التسمية للنواب ولبيس لرئيس الجمهورية.
ما يحصل من خلال تأجيل الاستشارات أو التمهل في إجرائها أن رئيس الجمهورية قد تجاوز الأصول الدستورية من خلال تأجيل جلسة تكوين سلطة دستورية، لأن هذا التأجيل ليس حقاً شخصياً يمارسه رئيسه الجمهورية منفرداً ويستطيع تعديله بإرادته المنفردة، بل هو تصرف دستوري تتعلق به إرادة النواب ويتصل بتكوين سلطة دستورية
ما يحصل من خلال تأجيل الاستشارات أو التمهل في إجرائها أن رئيس الجمهورية قد تجاوز الأصول الدستورية من خلال تأجيل جلسة تكوين سلطة دستورية، لأن هذا التأجيل ليس حقاً شخصياً يمارسه رئيسه الجمهورية منفرداً ويستطيع تعديله بإرادته المنفردة، بل هو تصرف دستوري تتعلق به إرادة النواب ويتصل بتكوين سلطة دستورية بحيث لا يمكن تأجيل موعدها بسبب طلب كتلة نيابية أو بعض النواب لأن في ذلك تغليب لإرادة هذه الفئة على الإرادة النيابية الجامعة، ولو بعنوان ميثاقي غير مقنع، في ظل توافر كتلة نيابية تتجاوز العشرين نائباً مسيحياً كانت ستشارك في تسمية رئيس الحكومة المكلف، فضلا عن موقف كتلة أخرى (القوات) كانت ستشارك في الإستشارات، ولكنها لن تسمي من ستتفق عليه الأغلبية النيابية، أي النائب سعد الحريري.
إن أية تبريرات أخرى لا تجيز تأجيل جلسة تتصل بتكوين سلطة دستورية إلا لأسباب قاهرة وظروف طارئة، فالمادة 69 من الدستور تنص في فقرتها الثالثة على أنه “عند استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة يصبح مجلس النواب حكماً في دورة انعقاد استثنائية حتى تأليف حكومة جديدة ونيلها الثقة”، اي أن الدستور يضع آلية لمنع الوقوع في الفراغ.
بهذا المعنى، يصبح التأجيل الذي من شأنه تأخير تكوين السلطة التنفيذية مخالفاً لإرادة المشترع الدستوري، بل إنه إيضاً يصادر الإرادة النيابية من خلال محاولة فرض رئيس الجمهورية لمرشحه أو فرض المرشح الذي يرضى بشروطه مكرّساً بذلك نهجاً واقعياً يعيدنا بالتطبيق إلى الدستور القديم حيث يسمي رئيس الجمهورية منفرداً رئيس الحكومة.
لقد بدا واضحاً من خلال قرار تأجيل الاستشارات النيابية الملزمة، أن رئاسة الجمهورية قررت إلغاء الدور الممنوح دستورياً للنواب، وأرادت الانفراد بالتقرير في مسألة تسمية الرئيس المكلّف، لاغيةً بذلك الإرادة الجماعية في ممارسة النواب وظيفتهم الدستورية بتسمية الرئيس المكلف، فهل المطلوب تقزيم دورهم حتى يقتصر على المصادقة والبصم على الخيار الرئاسي ليس إلا؟
وفق مقدمة الدستور، فإن “الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية”، أي أن إرادة النواب ممثلي الأمة، لا يمكن تفويضها لإرادة ثانية، ثم أن المادة 60 من الدستور أشارت إلى أنه لا تبعة على رئيس الجمهورية حال قيامه بوظيفته إلا عند خرقه الدستور أو في حال الخيانة العظمى، إلا من قبل مجلس النواب بموجب قرار يصدره بغالبية ثلثي مجموع أعضائه ويحاكم أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.
إن “الدور التقني” لرئيس الجمهورية في التكليف لا يغيب أبداً دوره الدستوري الأساسي في التأليف، فالمادة 53 من الدستور، تعطي لرئيس الجمهورية الحق في أن “يصدر مرسوم تسمية رئيس مجلس الوزراء منفرداً (الفقرة 3)”، كما يُصدر يصدر “بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم (الفقرة 4)”.
نحن لا نعيش لا في نظام رئاسي ولا ملكي، وبالتالي، من غير الجائز وطنياً ودستورياً أن يستمر الفراغ، خاصة في ظل الأوضاع الإقتصادية والمعيشية الإستثنائية، ناهيك عن جائحة كورونا التي تشكل خطراً على حياة اللبنانيين، مما يستوجب ملء الفراغ الحكومي بأسرع وقت ممكن بدل ممارسة الدلع والإستنساب، لكأن لبنان يعيش ظروفاً عادية وبحبوحة إقتصادية.. ويمكنه أن يبقى بلا حكومة إلى أجل غير محدد.
لنحترم الدستور، بدل أن يجبرنا الخارج على مواعيد وخيارات تشرّع الأبواب أمام إنتقاص إرادتنا الوطنية.