عون أسير الباسيلية.. وحزب الله أسير الفوقية!

بدت صورة ميشال عون محيّرة جداً اليوم. هل كان يتحدث من باريس في زمن النفي بصفته رئيساً للتيار العوني أم من الرابية في زمن المعارضة أم من القصر الجمهوري في زمن "الرئيس القوي" أم من مستقبل إفتراضي في زمن الإستقالة الآتية من الحكم؟

لو لم تبادر دوائر القصر الجمهوري إلى تأجيل موعد الإستشارات النيابية المُلزمة لتكليف رئيس جديد للحكومة، لمدة أسبوع، لما توفرت الأسباب الموجبة للخطاب الذي توجه به الرئيس اللبناني ميشال عون إلى اللبنانيين اليوم. لو بقيت الإستشارات في موعدها، لكان حجم الخسائر أقل، بدليل أن الخطاب الرئاسي يشي بمفرداته العادية جداً أن التأجيل أسبابه رئاسية بحتة ولا تمت بصلة إلى الميثاقية.

لا الصحوة التي ينتظرها ميشال عون من النواب ستحصل ولا أيضاً “المصلحة اللبنانيّة العليا” ولا “تحكيم الضمير الوطني” ولا “حسّ المسؤوليّة”. ما كُتب قد كُتب. سعد الحريري رئيساً مُكلفاً بما يزيد عن ستين صوتاً نيابياً من أصل 120 (بعد إستقالة ثمانية نواب من المجلس). بطبيعة الحال، سيجعل ذلك ميشال عون أكثر إستشراساً في التعامل مع تأليف الحكومة من أجل فرض شروطه أو محاولة تحسينها بأسوأ الأحوال. هذا ليس بتحليل. قالها الرجل بعظمة لسانه: “قُلتُ كلمتي.. ولن أمشي”.

إنها مسألة منطلقات. كل حزب لبناني له منطلقاته. ثمة تقاطعات في أحيان معينة، لكن الأولويات مختلفة لا بل متضاربة. لنفترض أن حزب الله قَبِلَ مع جبران باسيل بجواد عدرا، على سبيل المثال لا الحصر، مرشحاً لرئاسة الحكومة، وأمكن تأمين ثلاثين أو أربعين صوتاً له، بأحسن الأحوال، هل يكفي ذلك للتكليف أم أن الحريري يستطيع أن يؤمن عدداً أكبر من الأصوات؟

عند أهل الفقه والفلسفة، دائماً تفضي المقدمات الخاطئة إلى نتائج خاطئة. جبران باسيل يخوض معركة الزعامة المسيحية. يريدنا يوماً أن نترحم على بشير الجميل ويوماً ثانياً على كميل شمعون وثالثاً على بيار الجميل الجد. توغل في خطابه المسيحي حتى “إكتشف” أنه لو لبس زي الرهبان، لن يتفوق على سمير جعجع بالخطاب والوجدان، ناهيك عن الأسباب الموجبة للوجود.

بالغ في مخاصمة سعد الحريري، وفجأة قفز من “الإبراء المستحيل” إلى حضن الصفقة الرئاسية وعلاء الخواجة والشراكات!

خاصم سمير جعجع، ثم قرر أن يُبرم معه “تفاهم معراب”، ثم كان “الإنقلاب” وبعده العودة إلى منطق العداء. منطق يذكّر المسيحيين بصفحة كالحة السواد “تنذكر وما تنعاد”. بالغ بالإندفاع إلى القانون الأرثوذكسي ثم النسبي (الحالي)، ولن يكون مفاجئاً إرتداده غداً إلى قانون الستين أو ما يضمن له أكثرية المقاعد النيابية المسيحية المستحيلة.

خاصم وليد جنبلاط الذي لا يحتاج إلى ذريعة للخصومة مع المسيحيين. فجأة قرر باسيل أن يصالحه وأن يحاول إبرام تفاهم معه، لتنقلب الأمور ونصبح أمام مشروع حرب أهلية في بلدة قبرشمون.

يهاجم نبيه بري الذي نعته يوماً ما بـ”البلطجي”، وفي اليوم التالي، يراد وساطة ووسيطاً لأجل التفاهم معه. من بعدها، يقرر باسيل أن يكون رأس حربة معركة المداورة لإنتزاع المالية من حصة حركة أمل!

يهاجم سليمان فرنجية وفي اليوم التالي يقول عنه إنه “صديق وحليف”.. ورجل “صدق وإلتزام”!

لنقل أن جبران باسيل لم يترك له صاحباً، لكنه كان دائماً على حق والكل على خطأ. لو طُلبَ منه إجراء مراجعة نقدية في “التيار” لمنظومة الحلفاء والأصدقاء و”الأعداء”، هل يكفي القول “ما غلطنا بشي أبداً”، أم يحتاج الأمر إلى جرأة نقد الذات، أقله بين أربعة جدران مغلقة؟

من الأسهل رمي الكرة في ملعب الآخرين والتغني بشعارات الإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد وضيق حال الصلاحيات وإنسداد النظام وأزمة النظام العالمي إلخ.. لكن هل يمكن لمرة واحدة أن يقف “التيار” بجرأة للمساءلة والمحاسبة؟ أقله، ماذا سيقول للمسلم العوني الذي يرفض الإنضواء في حزب مسيحي يتبنى شعارات طائفية متطرفة؟ ماذا يقول للمسيحي الذي لا يريد تكرار تجربة التطرف المسيحي الذي جرّ على المسيحيين الويلات في الحرب الأهلية؟ ماذا يقول لمن يريد الشراكة مع مكونات سياسية في صلب البلد؟ هل يعترف “التيار” بحزب الطاشناق وطلال ارسلان والحزب القومي، نيابة ووزارة ووظائف فئة أولى أو عاشرة؟ هل يمكن أن يبرر لآلاف اللبنانيين الذين حُرموا من وظائفهم لأن “التيار” يرفض توظيف مأمور أحراج أو عنصراً في فوج الإطفاء أو خفيراً جمركياً إلا على أساس المناصفة؟ ثم هل يمكن أن يقبل بالتوازن الطائفي ضمن “الكوتا” المسيحية نفسها؟ كيف يمكن أن يخاطب شخصيات مسيحية لا تريد الذوبان في حالة الثنائية المارونية (قوات ـ تيار)؟ أنت رفعت لنا شعار المسيحي القوي وحصدت أكبر كتلة نيابية مسيحية في مجلس النواب وحصلت على الثلث المعطل في العديد من الحكومات ووضعت يدك على التعيينات المسيحية من فئتها الأولى إلى الأخيرة، وماذا بعد؟ هل منع ذلك الإهمال في مرفأ بيروت وصولاً إلى تدميره وتدمير العاصمة معه؟ هل يستطيع “تكتل لبنان القوي” أن يوفر الخبز والماء والكهرباء والمازوت وحليب الأطفال وأن يُفرج عن ودائع اللبنانيين في المصارف؟ هل الإستنجاد الدائم بكل مفردات العنصرية البغيضة يكفل فرص العمل للمسيحيين وصمودهم في أرضهم وبلدهم؟

حتى العلاقة مع حزب الله تحتاج إلى مراجعة. للتفاهم بين الحزبين أسبابه الإستراتيجية، وطالما لم يتوفر أي بديل إستراتيجي لن يكون سهلاً على أي منهما، إدارة ظهره للآخر. لكن هل يمنع ذلك من خوض نقاش في تجربة تفاهم سيضيء قريباً شمعة عمره الـ 15؟ هل بقي هذا التفاهم فوقياً أم أمكن تعميقه في قواعد الطرفين وبيئتهما المشتركة؟ كيف يمكن إخراج “التفاهم” من حدوده الطائفية الأقلوية إلى مساحة وطنية أكثر رحابة؟ هل يمكن الفصل بين مشروع المقاومة ببعده اللبناني (حماية لبنان وأحد عناصر قوته ومناعته) وبين مشروع حزب الله السياسي الما فوق لبناني الذي يمكن حتى لنبيه بري أن يتحفظ عليه؟

إلى أي مدى يستطيع عون وباسيل تحمل الضغوط الدولية، وآخرها إشتراط الإدارة الأميركية على باسيل الخروج من “التفاهم”، في معرض تبرير إستثنائه من برامج زيارات الموفدين الأميركيين إلى لبنان (لا يسري ذلك بطبيعة الحال على السفارة الأميركية في بيروت التي تتواصل مع التيار بشكل عادي).

إقرأ على موقع 180  أية تداعيات إستراتيجية ستترتب على الرد الإيراني.. الحتمي؟

إذا كان جبران باسيل قد تحدث في السادس عشر من آب/أغسطس بلغة الحسم عن “سنة صعبة ومفصلية” ستُتوّج بإتفاق إيراني ـ أميركي، سواء فاز الجمهوريون أم الديموقراطيون “وهذا الإتفاق مع اتفاقات السلام (التطبيع) الفرديّة الآتية سيؤدّون إلى رسم معالم شرق اوسطيّة جديدة”، ماذا كان يقصد ميشال عون، اليوم، بحديثه عن “إستحقاقات كبرى” يتخللها “رسم خرائط وتوقيع اتفاقيات وتنفيذ سياسات توسعية أو تقسيمية قد تغيّر وجه المنطقة”؟ وما هو المقصود بالتغيُّرات التي “ستقلب الأمور رأساً على عقب”؟ وكيف يمكن أن تُعطف هذه النظرة على دعوته إلى عقد “إجتماعات متخصصة” في قصر بعبدا، بعد الإنتهاء من تأليف الحكومة، وظيفتها مناقشة الإستراتيجية الدفاعية؟ وهل يمهد بدعوته لهذه الإجتماعات، إلى ما يشبه “إعادة التموضع السياسي” ربطاً بما أسماها “الإستحقاقات الكبرى”؟ وهل يندرج موقف باسيل في 13 أيلول/سبتمبر الماضي بأن حزب الله “بدأ يفكر بالعودة من سوريا وتأمين ظروفها”، في الخانة نفسها؟ وهل هذه المواقف (مناقشة الإستراتيجية الدفاعية والإنسحاب من سوريا) منسقة بين “التيار” و”حزب الله”؟

لا يتشابه حزب الله والتيار الوطني الحر في أمور كثيرة: منابتهما. تكوينهما. مسيرتهما. سيرتهما. أهدافهما إلخ.. هما يتفقان ظرفياً على عناوين كثيرة، لكن تجربة “شهر العسل” بين باسيل والحريري (2016 ـ 2019)، أبرزت إفتراقات كثيرة بين الضاحية الجنوبية وميرنا الشالوحي (ملف الكهرباء نموذجاً)، وحتى في التجربة الوزارية الأخيرة، بدت حسابات الحزبين متباعدة في العديد من المحطات وآخرها الترسيم البحري. قرر باسيل أن يضحي فعلياً بملاحظات حليفه حزب الله وباع الأميركيين بضاعة تبين أنها كاسدة، بدليل أن ثمنها كان صفراً. لم يجد الرجل من يشتري منه حضور المدنيين في الوفد التفاوضي، ولولا ضغط حزب الله، كان يمكن للبيعة أن تكون أكبر بكثير!

مُجدداً، تتصل المسألة بالمنطلقات. وفق حسابات حزب الله، لا بد من صيانة الإستقرار الذي إهتز كثيراً في ضوء تجربة حكومة حسان دياب. كيف تمنع المزيد من الإنهيار الإقتصادي والمالي والإجتماعي؟ كيف تمنع الجوع عن اللبنانيين؟ هذه أولوية لا تتقدم عليها أولوية أخرى. ثمة آية قرآنية تقول “إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ مَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”. إذا كنت جائعاً في الصحراء ولم تجد إلا لحم الخنزير، فحياتك أولى، وإذا هدّد العطش حياتك ولم تجد إلا الخمرة، فإن الحياة أولى من الموت عطشاً. هذا ينطبق على واقع لبنان اليوم. “لا مفر من صندوق النقد الدولي ووصفاته الكارثية، ولا مفر من المبادرة الفرنسية ومندرجاتها الملتبسة، وإلا كان مزيد من الموت البطيء”، كما يقول أحد وثيقي الصلة بالمشاورات السياسية.

بالمنطلقات أيضاً وأيضاً، لو قرر ميشال عون أن يكون ميشال عون وحسب، سيجد نفسه أقرب إلى حزب الله، وهذا هو سره الدفين، لكن كيف الخروج من جبران باسيل وحلمه الرئاسي وزعامة المسيحيين؟

“الحل هو بأن يتسلح باسيل بالآية القرآنية نفسها حتى يبرر قبوله بسعد الحريري، كأمر سياسي واقع لا أكثر ولا أقل”، طالما أن لا أحد يختلف معه بأن الأخير هو جزء لا يتجزأ من منظومة أوصلت البلد إلى ما أوصلته إليه، مع الإقرار، عن سابق تصور وتصميم، بأن باسيل لطالما أبدى شهية مفرطة لأن يكون جزءاً لا يتجزأ من هذه المنظومة.. وكل مشكلته أنه لا يجد الأبواب مفتوحة لتجديد الإنتساب إلى صفقة التسوية الرئاسية، ولو بشروط جديدة.

حتى الآن، لم يقرر لا الحريري ولا باسيل فتح الأبواب للأخذ والرد. مواقفهما تشي بحدة لا أحد يجد تبريراً سياسياً لها. الحريري يخشى الإبتزاز.. وباسيل يريد ضامناً مفقوداً لأية تسوية أو أقله خوض حوار أفقه خريف العام 2022. يمكن لميشال عون أن يلعب هذا الدور، لكن ما طرحه، اليوم، من أسئلة (إنتظر اللبنانيون أجوبة منه، فجاءهم بالعكس!)، لا يبشّر بولادة حكومية سهلة ولا بدور الحكم. على الأرجح، ثمة نسخة جديدة من سعد الحريري، وأبرز نقاط ضعفها أن الرجل يريد العودة إلى السلطة لكن ليس بأي ثمن يدفعه لباسيل تحديداً.. لكن هل سيجد، في المقابل، سجادة حمراء وثيرة، في طريق عودته إلى السراي الكبير، أم دروباً وعرة ومتعرجة؟

لا الصلاحيات الإستثنائية التي طلبها الحريري من ثنائي حزب الله وأمل ستُعطى له ولا الضغط على ميشال عون سيكون ممكناً بالأدوات المحلية. أكثر من ذلك، هل لمصلحة هذا “الثنائي” تكريس التفرد أو الإستفراد، تحت مظلة المبادرة الفرنسية؟ هل للفرنسيين أنفسهم مصلحة في أن تكون يد الحريري مطلقة؟ هل هناك ما يُبرر إدارة ظهر سعد الحريري للمكونين المسيحيين الأكثر تمثيلاً في لبنان (التيار والقوات)، وهل هناك ما يُبرر خصومته مع رئيس للجمهورية يمكن أن يُعطّل ـ لو أراد ـ الكثير من القرارات الحكومية، بما تبقى له من صلاحيات؟

ثمة رهان حريري على تجاوز مطب تقديم أية تنازلات داخلية من خلال التسلح بالمبادرة الفرنسية وأن تشكل كاسحة ألغام له. هناك رهان باسيلي مقابل على مرحلة جديدة تفرزها نتائج الإنتخابات الأميركية..

مع كل إقتراب لـ”الثنائي” من الحريري، سينبري مَنْ يُعيد التذكير بـ”التحالف الرباعي” (2005). فهل نحن فعلاً أمام بداية تشكُل مثل هذا التحالف؟ للبحث صلة.

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  حتى يكون المواطن شريكاً في القرار البيئي