ليس في “منطوق” البيان الختامي ما يشير إلى تغيّر حاسم في السياسة الخليجية إزاء القضية السورية وامتداداتها الاقليمية، لكن بعض “المسكوت عنه”، سواء في البيان الختامي أو في كلمة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لا يمنع من القول إننا ربما نكون أمام إعادة تشكيل البيئة الاقليمية المحيطة بالملف السوري وما قد يترتب على ذلك من متغيرات جذرية في المرحلة المقبلة.
يتمثل “المسكوت عنه” في الخطاب الخليجي الجديد المُعبّر عنه في البيان الختامي، بغياب أية إشارة إلى تركيا والأدوار التي تقوم بها في بعض الدول التي تشهد تجاذبات خليجية مثل ليبيا وسوريا. فقد “سكت” البيان الختامي، على غير العادة خلال سنوات الأزمة الخليجية الثلاث، عن الدور التركي الذي كان يُنظر إليه على أنه ليس أقل خطورة من الدور الايراني الذي توسع البيان في إدانته والتحذير من مخاطره.
وفي الوقت نفسه، تحوّل سكوت ولي العهد السعودي في الكلمة التي ألقاها في افتتاح قمة العلا، عن تركيا وسياساتها التوسعية في المنطقة، إلى ما يشبه اللغز الذي سيجعل من الصعب التكهّن بخفايا ما يدور في أروقة السياسة الخليجية وما يمكن أن يكون له من انعكاسات مستقبلاً على ملفات المنطقة ولا سيما الملف السوري.
وجاء هذا “السكوت” في أعقاب خرق جزئي في جدار العلاقة السعودية – التركية بالتزامن مع انعقاد قمة مجموعة العشرين افتراضياً في الرياض في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وذلك بعد مرحلة متوترة من العلاقات بين البلدين رافقت مرحلة ما يسمى “الربيع العربي” (ملف الإخوان) وبلغت ذروتها مع قضية اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي في مقر السفارة السعودية في أنقرة، في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 2018.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يمثل “المسكوت عنه” في الخطاب السعودي تجاه تركيا، خطوة إضافية على طريق تحسين العلاقة بين الرياض وأنقرة في سبيل إنهاء حالة الخصومة بينهما على غرار ما حصل مع قطر، أم أن الحضور الشخصي لأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني جلسة القمة قد فرض إجراء تغييرات على الخطاب السعودي بهدف إكمال إجراءات المصالحة بعيداً عن الحساسيات الجانبية لكلا الطرفين؟.
سكوت ولي عهد السعودية في القمة عن تركيا يهدف إلى ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: التحشيد ضد إيران كأولوية؛ تشجيع تركيا على إعادة تطبيع علاقاتها مع إسرائيل؛ نزع ذرائع الحصار من أمام الإدارة الأميركية الجديدة التي يعوّل القطريون عليها
من المرجح أن الرياض تنهمك حالياً في إعادة رسم سياساتها الداخلية (ملف حقوق الإنسان تحديداً) والخارجية على نحو يسهّل عليها مواكبة مرحلة وصول الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن إلى البيت الأبيض. في هذا السياق، ثمة توقّعات متصاعدة بأن تشهد العلاقات الأميركية – السعودية في المرحلة المقبلة الكثير من المدّ والجذر نتيجة السقف العالي لمواقف الإدارة الديمقراطية من قضايا حقوق الانسان (بما فيها ملف حرب اليمن)، وبسبب الخشية من عودتها إلى سياسة تعويم تيارات الاسلام السياسي في دول “الربيع العربي” واعتمادها كوكيل حصري لتنفيذ السياسات والضغوط الأميركية على أنظمة بعض الدول.
وبناء على ذلك، فإن سكوت ولي عهد السعودية في القمة عن تركيا يهدف إلى ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: التحشيد ضد إيران كأولوية؛ تشجيع تركيا على إعادة تطبيع علاقاتها مع إسرائيل؛ نزع ذرائع الحصار من أمام الإدارة الأميركية الجديدة التي يعوّل القطريون عليها؛ فضلاً عن ملفات أخرى لها صلة بمجمل الإقليم.
كما أن تحسين العلاقات بين تركيا والسعودية هو مطلب مشترك لسببين: الأول، من أجل إيجاد صيغة مناسبة لطي ملف اغتيال جمال خاشقجي وضمان عدم استخدامه من قبل تركيا في تصعيد الضغوط على المملكة تحت بند انتهاك حقوق الانسان، الأمر الذي يوفر ذريعة للإدارة الأميركية الجديدة التي تلوّح بإعادة فتح الملف. الثاني، توجس تركيا أيضاً من إدارة بايدن وتوجهاتها السياسية تجاه المنطقة (حساسية ملف الأكراد). زدْ على ذلك إنعدام الكيمياء بين بايدن ورجب طيب أردوغان.
هذان السببان وغيرهما جعلا السعودية وتركيا يتجهان إلى التقارب في ما بينهما من أجل محاولة بناء جدار إقليمي في وجه السياسات الأميركية غير المرغوب بها من قبل الطرفين!
عودة المياه إلى مجاريها في العلاقات السعودية – التركية قد يدفع الرياض إلى مراجعة سياساتها تجاه القوات الكردية التي تعتبرها أنقرة بمثابة خطر أول على أمنها القومي
ومن نافلة القول أن أي تقارب بين السعودية وتركيا سوف تكون له تداعياته وآثاره على الملف السوري بكل تفاصيله وتشعباته. وهنا من المفيد التذكير أن الملك سلمان بن عبدالعزيز كان قد بدأ عهده في مطلع العام 2015 بالتقارب مع تركيا، وترجم ذلك على الجبهة السورية بتشكيل “جيش الفتح” الذي اجتاح الشمال السوري واحتل محافظة إدلب بالكامل في ربيع العام 2015، وذلك بالتزامن مع إطلاق السعودية “عاصفة الحزم” في اليمن الشمالي.
وقد كان من تداعيات ذلك أن القوات التركية تنتشر حالياً بكثافة في محافظة إدلب، وأن السياسة التركية لم تقصّر في استخدام ورقة الشمال السوري من أجل توسيع نفوذها ليس في الشرق السوري وحسب، بل أيضاً في ليبيا حيث يعتقد أن روسيا وتركيا أبرمتا تفاهمات ومقايضات سياسية لتبادل النفوذ والأدوار على مسارح سوريا وليبيا لمواجهة نفوذ بعض الدول الغربية والعربية.
ولم تلجأ السعودية إلى اقتحام المشهد في الشرق السوري ومد يدها إلى “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) إلا بعد أن استفحل الخلاف بينها وبين تركيا. ومنذ ذلك الحين أصبح دعم القوات الكردية وسيلة الرياض المفضلة لمواجهة نفوذ تركيا في المنطقة ومحاولة تقويض سياساتها التوسعية. وبالتالي فإن عودة المياه إلى مجاريها في العلاقات السعودية – التركية قد يدفع الرياض إلى مراجعة سياساتها تجاه القوات الكردية التي تعتبرها أنقرة بمثابة خطر أول على أمنها القومي.
كما أن الرياض ما تزال تملك تأثيراً حيوياً في ملف الجنوب السوري من خلال بعض الفصائل المسلحة التي انحلت بعد التسوية عام 2018 ومن خلال بعض العشائر العربية، وقد تجد الرياض أن من مصلحتها تفعيل دورها في الجنوب السوري لمواجهة التمدد الايراني الذي تعتبره واشنطن وإسرائيل خطراً لا يمكن السكوت عنه.
من غير المرجح أن يكتمل التقارب السعودي مع تركيا قبل اكتمال مسار المصالحة الخليجية من جهة، وطي صفحة الخلاف المصري – التركي من جهة ثانية، ولكن مع ذلك يبقى احتمال عودة العلاقات السعودية – التركية من الهواجس التي ينبغي أن تستعد لها دمشق بجدية وأن تعطيها حقها من البحث والاستعداد، والأهم أن تبني حساباتها بشكل دقيق كي لا تضطر إلى دفع الثمن المترتب عن المسكوت عنه في قمة العلا.
يذكر أن بعض العواصم العربية وتحديداً الخليجية كانت قد بادرت في السنتين الماضيتين إلى إعادة تفعيل حضورها الدبلوماسي في العاصمة السورية، وكان مُقدراً أن تبادر بعض العواصم إلى خطوات أكبر لتطبيع العلاقة مع دمشق، غير أن الضغط الأميركي الذي توّج بإصدار “قانون قيصر” أدى إلى “فرملة” هذا المسار، ولعل الأمر الذي يحتاج إلى رصد في المرحلة المقبلة هو مدى إقتراب هذه العواصم أو إستمرار إبتعادها عن دمشق وكيف سيتحرك الميدان السوري في بعض نقاط الإلتقاء بين الخليجيين والأتراك وتحديداً في الشمال.