ترامب.. تأسيس نظام أميركي جديد؟

دونالد ترامب لا جو بايدن هو التأسيس لنظام جديد في الولايات المتحدة والعالم. لماذا؟

شعبية ترامب في اليوم الأخير قبل مغادرته البيت الأبيض كانت 34% من الرأي العام. رأي عام واسع إذا تم تنظيمه يسيّطر على الحياة السياسية في الولايات المتحدة. رأي عام يعتبر أن الانتخابات سُلبت من ترامب.

 بتعبير آخر: من حقه أن يحكم. هو يمثل العرق الأبيض. بقية السكان مجلوبون لخدمة الرجل الأبيض. هؤلاء يعيشون على العمل المتقطّع وما يستفيدونه من الضمانات الاجتماعية والطبية؛ يعيشون على تعويض العطالة. السود مهاجرون قدماء. هُجّروا من أفريقيا. لكن قدمهم لا يعوض عن كسلهم ودونيتهم كبشر. اللاتينيون مهاجرون من أميركا الوسطى واللاتينية والمكسيك. يأخذون مكان الفقراء في الأعمال الدنيا المتاحة. وحدهم الأوروبيون أرقى وأكثر قدرة على الفهم والإدراك، ويحق لهم الاندماج في المجتمع الأميركي. هذا العداء يؤصل موقف فقراء البيض في الولايات المتحدة، والفاشية المتحولة الى عنصرية. والعنصرية المتحولة الى عنف.

الولايات المتحدة بلاد غنية تحكمها ايديولوجيا نيوليبرالية. نظرية مؤداها أن لا تتدخل الدولة في شؤون الأغنياء وأن تقمع الفقراء من جميع الإثنيات. لا يسأل هؤلاء لماذا اختفى الدولار من السوق الأميركية، وقفزت البطالة وأصبح الفقراء من البيض وغير البيض بحاجة الى إحسان من جمعيات خيرية مثل “جيش الخلاص”، و”مطابخ الشورباء”، وغيرهما.

وصلت النيوليبرالية الى آخر أيامها، خاصة بعد أن “طهرها” ترامب من بقايا الليبرالية. صار ديْدنها تهريب المال الى الجنات الضريبية في الخارج وخفض الضرائب في الداخل، بما يفاقم صعوباتهم في عذاب العمل من أجل البقاء

أدى وباء الكورونا خدمة كبرى. أُقفلت الكثير من المطاعم ومرافق الخدمات والأعمال الصغيرة. حتى شركات كبرى كالطيران والفنادق أصيبت وسرحت العديد من عامليها. تصاعدت البطالة. توسع الفقر. شاع نزع البيوت من أصحابها. صاروا غير قادرين على دفع الأقساط. الأغنياء معظمهم من البيض. الفقراء معظمهم من البيض. تنشأ بينهم علاقات تتجاوز التناقضات الطبقية، وترتكز على لون البشرة أو ما يسمى العرق. تتوحد الأكثرية من فقراء البيض مع أغنيائهم. تجمعهم ايديولوجيا معادية في الظاهر للدولة. الدولة بنظرهم سلطة مهمتها قمع غير البيض فقط؛ حماية الأغنياء فقط. يتقدم عند الفقراء لون البشرة على الوضع الطبقي. يتضامنون مع البيض الأغنياء على أساس أن ما يجمعهما هو التفوّق. ايديولوجيا التفوّق العنصري مهمتها تمويه، وحتى إزالة، خطوط التناقض الطبقي بين البيض الأغنياء والبيض الفقراء. مؤدى الأمر أن يصير الفقراء أداة بيد الأغنياء بسبب لون بشرتهم.

وصلت النيوليبرالية الى آخر أيامها، خاصة بعد أن “طهرها” ترامب من بقايا الليبرالية. صار ديْدنها تهريب المال الى الجنات الضريبية في الخارج وخفض الضرائب في الداخل، بما يفاقم صعوباتهم في عذاب العمل من أجل البقاء. يزدهر شعار “أميركا أولا”. هو شعار معناه أن البيض هم “فوق”؛ لون بشرتهم يتيح لهم التفوّق الذي يجعلهم فوق غيرهم؛ هم أولاً؛ أميركا أولاً. تصير الضمانات الاجتماعية ومن بينها إعانات العاطلين عن العمل ومعاشات التقاعد عبئاً على الدولة. لا يعرفون أنهم جُردوا من وظائفهم قسراً. هذا هدف النيوليبرالية منذ ما قبل الكورونا. يتفاقم الأمر مع كثرة هؤلاء. هم في غالبيتهم من السود واللاتينيين. هؤلاء بينهم أكثر من 8 ملايين بشري، يعملون، أو لا يعملون، دون وثائق إقامة، في المواسم الزراعية وخاصة في قطاف العنب والتفاح والبرتقال والخوخ وبقية مزارع الكروم، وفي قطاع الخدمات، في أعمال الخدمة الفندقية؛ هم دوماً في دائرة خطر الإبعاد لأنهم دون وثائق وأوراق ثبوتية للإقامة. خطر الإبعاد يجبرهم على القبول  بأجور متدنية. وظائف العمل الدائمة انخفضت بسبب نقل قسم كبير من الصناعات الى الخارج حيث الأجور متدنية بسبب أنظمة الاستبداد.

الفاشية أو العنصرية البيضاء والميول النازية لا تحقق هدفها إلا عن طريق القوة العسكرية، مهما كان لها من تنظيمات مدنية. هي أساس تحوّل أحزابها الى ميليشيات، تنظيمات شبه عسكرية. وتسيطر على القوات المسلحة، وتجعل من الميليشيات جيشاً موازياً. هي تحتقر الدولة بمعنى “أنها ليست الحل بل هي المشكلة” كما قال رونالد ريغان. ليس بمعنى أنها لا تحتاج الى الدولة والى العسكر للسيطرة على الدولة. هي تدعو الى تصغير الدولة، والى خفض الضرائب كنتيجة حتمية لذلك. لكنها في كل تاريخها كانت النيوليبرالية أكثر من زاد النفقات، وبالتالي ميزانية الدولة. الزيادة تكون من أجل تكبير حجم القوات المسلحة. كانت النيوليبرالية في أواخر الثمانينيات، ومنذ أكثر من عقد من السنين قبل ذلك، تستخدم المحافظين الجدد كذراع ايديولوجي من أجل الضغط داخل الكونغرس لزيادة النفقات العسكرية. وعندما حصل ذلك، لم يعد لمثقفي المحافظين الجدد عازة. أصبحت النيوليبرالية حركة لا تحتاج الى منظرين لها. هي بحاجة الى رئيس يبدو أهبلاً، برغم أنه ليس قليل الذكاء، والى العسكر لحماية ثرواتها، وحمايتها من النظام كي لا تدفع ما عليها من الضرائب، والى العنصرية لدعمها شعبياً مع أدواتها، وتصميمها على أن هؤلاء العامة وإن رفعوا شعارات لصالحهم في البداية، سيجدون أن لا لزوم لهم أمام أولياء أمرهم.

كشف ترامب عورات النظام الأميركي. عظمة أميركا الآن قائمة على المال، وهو إله الرأسمالية المالية، والعسكر هم إله الحرب. تحاول الاستابلشمانت لملمة أطرافها. لكن بقيادة ديموقراطية أصبحت هي نفسها “مفوخرة”

ما حصل في 6 كانون الثاني/ يناير 2021 كان بتحريض من ترامب، الذي تخلى عن المتحمسين العنصريين له عندما وجد أن الاستابلشمانت أقوى منه ومنهم. حتى نائب الرئيس مايك بنس تخلى عن ترامب في اليوم الأخير وأخذ الدستور مجراه.
كانت العادة أن يُؤتى بمدني دوما على رأس وزارة الدفاع الأميركية. عندما أتوا بالجنرال كولن باول وزيرا، كان ذلك على رأس وزارة الخارجية لا وزارة الدفاع. الذي فعل ذلك (جنرال متقاعد على رأس البنتاغون) كان ترامب أولا ثم جو بايدن الآن. كان بايدن يقول الجيش عندنا لا عندكم. لا يستطيع ترامب الاتكال إلا على غوغاء البيض. وهم قوة لا يستهان بها، حتى فئة المتشددين البروتستانت، من التبشيريين وغيرهم. هؤلاء يمثلهم مايك بنس. هؤلاء لديهم شكوك في أن يكملوا المشوار مع ترامب في سعيه الى الرئاسة، مرة أخرى. لا ننسى أن هؤلاء كانوا مع جيمي كارتر الديموقراطي قبل أن ينقلبوا ويصوتوا مع ريغان في عام 1981.

إقرأ على موقع 180  مفاوضات فيينا.. "النقلة الأولى" للأمريكيين!

ما فعله ترامب ليس قليل الأهمية. دمر العلاقة بين النظام وأهم ركائزه من الوطنيين البيض. جعل المركز، واشنطن، تبدو وكأنها بؤرة فساد وليس فقط مركز النظام. أنهى علاقة الدولار بالاقتصاد، أو ساهم في ايصال العلاقة الى صفر. أليس أمراً يسترعي الانتباه أن بورصات نيويورك، وهي مراكز المتاجرة بالمال كسلعة، لم تتراجع برغم الوباء وما أصاب الاقتصاد الأميركي.

منذ عقود، توزّع الاقتصاد الأميركي في العالم. الصناعة على الخصوص. أهم صادرات الولايات المتحدة هي المواد الزراعية المنتجة صناعياً كالقمح والصويا وغيرهما. قطاع الخدمات مصاب بفعل الوباء. البطالة تتفشى. إنتعشت شركات منصات التواصل الاجتماعي إذ هي الوسيلة الوحيدة للاتصال بسبب الحجر الصحي. ثروات المنصات الكبرى (غوغل، فايسبوك، زووم، ياهو، تويتر وإنستاغرام وغيرها) تُناطِح السحاب؛ إذ تزايدت بسرعة في عام الوباء.

كشف ترامب عورات النظام الأميركي. عظمة أميركا الآن قائمة على المال، وهو إله الرأسمالية المالية، والعسكر هم إله الحرب. تحاول الاستابلشمانت لملمة أطرافها. لكن بقيادة ديموقراطية أصبحت هي نفسها “مفوخرة”.

صارت أميركا بحاجة الى نظام جديد. يصعب كشف ملامح هذا النظام. أهل الفكر من أكاديميين ومثقفين، وكلهم عملوا وتربوا على ايديولوجيا النظام النيوليبرالي ليس لديهم القدرة على صياغة أسس لنظام جديد. لا أحزاب تضبط غضب الجماهير. التناقضات داخل النظام تتفاقم. الحريات في خطر، لا بسبب رقابة الأجهزة الرسمية وحسب. منصات التواصل الاجتماعي أقوى من أجهزة القمع الرسمية. الحرب الأهلية ممكنة، لكنها مستبعدة (حتى إشعار آخر). ضبط الفوضى الحاصلة بأجهزة القمع الرسمية لم يعد ممكناً. تدخل العسكر يتنافى مع الأسس التي قامت عليها الدولة ومع الايديولوجيا المنغرزة في العقول والغرائز. حالة تفلت اجتماعية وسياسية؟ ممكن. لكن الحياة لن تعود الى الولايات المتحدة والعالم كما في السابق.

Print Friendly, PDF & Email
الفضل شلق

مثقف وكاتب لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  التوغل الأوكراني في روسيا.. يفتح الطريق للتفاوض أم لحرب أوسع؟