الأزمة الراهنة التي عنوانها العمل على تشكيل «حكومة مهمة» تقدّم مثالاً حياً على ما ذكرناه. مجمل هذه الأزمات لها روافدها الخارجية. يرجع ذلك لضعف «المناعة الوطنية» التى تجعل البلد منكشفاً، لا بل جاذباً للتدخل الخارجي بأشكاله المختلفة، أياً كانت المسميات أو العناوين لذلك التدخل.
التماهي بمختلف أشكاله وعناوينه ودرجاته مع الخارج، شكّل دائماً «عنصراً أساسياً» فى الصراعات والخلافات والحروب الداخلية. وتزيد الجغرافيا السياسية للبنان ـ إلى جانب ضعف السلطة وانكشافها وطبيعة الاجتماع اللبناني ـ من جاذبية وسهولة التدخل من قبل بعض الأطراف الخارجية. تدخّل يهدف لخدمة إستراتيجيات وسياسات تتخطى لبنان إلى محيطه الجغرافي السياسي المباشر، لما لهذا المحيط من أهمية في لعبة النفوذ الشرق أوسطية للأطراف الدولية والإقليمية المعنية.
نتجت الأدوار الخارجية للإنقاذ في الماضي عن تفاهمات عملت ونجحت على بلورتها أطراف عربية أساسية بغية إطفاء الحرائق واستعادة الاستقرار. وإذا نظرنا إلى العقود الخمسة الماضية من الزمن، وجدنا في المبادرات العربية، وفي الدبلوماسية المتعددة الأطراف، وفي المؤتمرات التى انعقدت في القاهرة والرياض وتونس والطائف والدوحة، خير مثال على ذلك.
التفاهم الخارجي كان دائماً شرطاً «ضروريا» لإطلاق عملية التفاهم الداخلي. تتغير الأطراف وكذلك تحالفات الداخل والخارج وتبقى قواعد اللعبة هي ذاتها.
هذه المرة، اختلفت اللعبة: فالتفاهم الخارجي بين الأطراف الفاعلة فى لبنان، ولو بالحد الأدنى ضروري، ولكن غير كافٍ، بسبب طبيعة الأزمة الاقتصادية وحدّتها والحاجة إلى أكثر من مراهم إصلاحية لإنقاذ المركب اللبناني من الغرق.
وقد حذّرنا وحذّر الكثيرون «مراراً» من أننا نشهد مساراً «متسارعاً» للانهيار الاقتصادي الكلي بتداعياته المأساوية المختلفة والشديدة الخطورة على المجتمع وعلى الدولة، في ما لو استمرت الأمور على ما هي عليه، وهي مستمرة.
طبيعة اللعبة السياسية بقيت هي هي عند الطبقة الحاكمة؛ التطلّع إلى الخارج حيث الرهان على التفاهم مع الآخرين أو الانتصار الذي سيحققه الحليف أو الصديق الخارجي لترجمته في الداخل/ ولو بشكل مؤقت، «حفاظاً» على مكتسبات خاصة أو زيادة في مكتسبات خاصة لكل من أطراف اللعبة تُقدم على أنها مكتسبات للمكون المذهبي أو الطائفي الذي يمثله هذا الطرف أو ذاك في نظام فدرالية الطائفيات السياسية التي تحكم وتتحكم بلبنان بالفعل مستغلة ومطوعة نظام الديموقراطية التوافقية؛ التوافقية الطائفية التي يقوم عليها النظام اللبناني. أضف إلى ذلك، أن الطبقة السياسية الحاكمة غير متحمسة لولوج باب الإصلاحات البنيوية الضرورية لأنها تضعف مصادر سلطتها وتسلطها.
أرى من الضروري، للخروج من حالة الجمود القاتل الحامل للمزيد من التوترات، أن يدعو الوسيط الفرنسي إلى مقاربة مختلفة من خلال الدعوة إلى طاولة حوار وطني للأطراف ممثلي المكونات السياسية التي كان قد جمعها وحاورها الرئيس الفرنسي في بيروت، لتجتمع برعاية ومواكبة فرنسية
لقد حذّرنا أكثر من مرة أننا لم نعد أمام أزمة تشكيل حكومة، كما لو كنا في ظروف طبيعية، بل صرنا في أزمة حكم، كما نشهد كل يوم في التراشق السياسي المتصاعد وفي الشلل الحاصل على مستوى السلطة التنفيذية والذي يحمل في بعضه لغة طائفية لم تعد خافية. أوصلنا ذلك إلى مرحلة الدخول في أزمة نظام في وقت لا نستطيع فيه تحمل «ترف» فتح هذا الملف حالياً «مع ضرورة البحث لاحقاً»، بعد إنقاذ المركب من الغرق، في النموذج السياسى الذى نريده لتطوير النظام وتحصين وتنمية المجتمع على جميع الأصعدة وتعزيز اللحمة الوطنية في لبنان.
ولا بد من التذكير بأن أهم دروس «لعبة الكراسي الموسيقية» للطائفيات السياسية، هي لعبة التنافس على الهيمنة وتقاسم منافع السلطة تحت عنوان “حماية حقوق الطائفة”. إن هذه اللعبة باتت منتجة بإستمرار لأزمات تشل الدولة وتمنع عملية النهوض الوطني في جميع أوجهه.
إن استمرار اللعبة التقليدية حول تقاسم السلطة في تشكيل الحكومة باسم حقوق الطائفة عند كل طرف، «أياً» كان العنوان الذي يحمله كل طرف، يساهم في تسريع الانهيار ومن ثم الانفجار، بسبب الشلل السياسي الحاصل.
إن تجربة الأشهر الماضية والثمن الذي دفعه ويدفعه المواطن اللبناني تستدعي إعادة نظر في المقاربة القائمة والمستمرة لتشكيل «حكومة المهمة Gouvernement de Mission» بعد أن وصلت إلى حائط مسدود مع ازدياد «المواجهة السياسية والإعلامية» بين من يفترض أن يكونا الشريكين الأساسيين في تشكيل الحكومة وإدارة عملية الإصلاح لاحقاً.
هنا، أرى من الضروري، للخروج من حالة الجمود القاتل الحامل للمزيد من التوترات، أن يدعو الوسيط الفرنسي إلى مقاربة مختلفة من خلال الدعوة إلى طاولة حوار وطني للأطراف ممثلي المكونات السياسية التي كان قد جمعها وحاورها الرئيس الفرنسي فى بيروت، لتجتمع برعاية ومواكبة فرنسية في «حوار عملي»، ونذكّر بهذا الخصوص بحوار «سان كلو» (إسم مكان اللقاء في فرنسا) عام ٢٠٠٧ الذي إستضافته فرنسا للأطراف اللبنانية في خضم الأزمة اللبنانية حينذاك. ويمكن أن تشارك الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية إلى جانب فرنسا في رعاية ومواكبة هذا الاجتماع. يجب أن يكون هدف «الحوار العملي» المطلوب، إذا انعقد في إطار زمني محدد، بلورة ما دعونا إليه منذ أكثر من شهرين ــ وقد ردّ علينا البعض حينذاك أنه يجب البدء بتشكيل الحكومة بغية عدم إضاعة الوقت، وقد ضاع الوقت الكثير منذ ذلك الوقت ــ وهو برنامج الإصلاح الشامل في خطوطه وعناصره وخريطة طريق للتنفيذ وجدول زمني واضح.
إن اتفاقاً من هذا النوع يُلزم أصحابه، كل أمام جماعته أساساً، بالإصلاح المطلوب لوقف الانهيار ويسهّل تشكيل «حكومة المهمة» لأجل وضعه موضع التنفيذ، إذ يشكل عنصر ضغط على هذه الأطراف باعتباره، بإعتراف الجميع ومشاركتهم، الشرط الضروري لوقف الإنهيار المتسارع. فهل نسلك هذا الطريق وأمامه الكثير من الصعوبات ولكنه الوحيد الممكن أم نبقى أمام الطريق المسدود، أمام ما يبدو كمهمة مستحيلة لتشكيل «حكومة المهمة”.
(*) ينشر بالتزامن مع “الشروق“