جو بايدن المرشح الرئاسي هو غير جو بايدن الرئيس الفعلي للولايات المتحدة. رئيس لا يرغب المس بهياكل القوى في الشرق الاوسط. هذا ما يشي به تقرير الـ”سي آي إي” الذي أكد أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان “أجاز خطف أو قتل” جمال خاشقجي. إدارة بايدن التي تعهدت بجعل السعودية “منبوذة” ووضعت حقوق الانسان في صدارة اولوية إعادة النظر بعلاقاتها مع الرياض، تجنبت فرض عقوبات مباشرة ضد بن سلمان، واكتفت بمعاقبة ادوات التنفيذ (76 سعودياً). كأن الرئيس الأميركي الجديد أراد من نشر التقرير التهويل على بن سلمان والاكتفاء بتقليم أظافره، والحفاظ على ديمومة “علاقة الوصاية القذرة” مع الرياض.
العلاقة بين واشنطن والرياض تحكمها عوامل معقدة. لا يمكن تجاهل ملفات حقوق الإنسان وحرب اليمن، وفي المقابل، ثمة عوامل لا يستطيع الطرفان تجاهلها. لم يتوصل الأميركيون إلى إتفاق مع إيران، وفرص تعثر هذا المسار تبدو أعلى حتى الآن. لذلك، لا يريد بايدن الضغط على ولي العهد السعودي أكثر من حدود “الضبط”. الرياض تخدم التوجهات والمصالح الأميركية أكثر من مصالحها نفسها. في الوقت نفسه، يتحدث الديموقراطيون عن “تناقض صارخ في منظومة القيم”. أحد نماذجها قتل معارض مثل جمال خاشقجي بطريقة وحشية لا يمكن لأية دولة أن تبررها.
التناقض نفسه عبّرت عنه حماسة محمد بن سلمان، وأيضاً بنيامين نتنياهو لإعادة إنتخاب دونالد ترامب. إنخرط السعوديون في “حفلة التطبيع”. لم يكن الإماراتيون لينخرطوا إلى حد الإنبطاح الكامل ـ وهذا يسري أيضاً على البحرين والمغرب ـ لولا موافقة القيادة السعودية ومباركتها. مسار جعل إدارة بادين في لحظة معينة تبدو أكثر “قومية” من بعض العرب أنفسهم، بتمسكها بحل الدولتين وعدم البصم بالكامل على قرار ضم الجولان السوري المحتل وإصرارها على وقف حرب اليمن. هذا التناقض الصارخ جعل الإدارة الديموقراطية الجديدة تضع ولي العهد الحالي ـ الملك المقبل، على خط القلق، من أجل أن يتواضع أكثر ويقيس الأمور بطريقة مختلفة، خصوصا وأن الولايات المتحدة لا تتحكم فقط بأمن المملكة، بل حتى بأمن القصور الملكية نفسها! من هنا، شكلت قضية جمال خاشقجي فرصة ذهبية لجعل المملكة تحت وصاية الولايات المتحدة الكاملة، وتاليا فان الاستثمار السياسي والعسكري والاقتصادي سيستمر، من دون المس بمكانة المملكة في ظل “لعبة التوازن” المحفوفة بالمخاطر التي قد تواجه إدارة بايدن في المنطقة، وخصوصا في مسار مفاوضاتها مع إيران.
والرياض ليست مجرد بائع طاقة لواشنطن، ذلك ان الولايات المتحدة باتت من المصدرين الكبار للنفط وتستورد من المكسيك وكندا اكثر مما تستورد من الخليج. لكن ما قدمته المملكة طوال سبعين عاما للاميركين من “هدايا دسمة”، لا تقدر بثمن، لا يمكن لاية دولة اخرى في العالم ان تقدمه او ان تعوضه، ذلك ان حكم آل سعود كان الاداة السرية والمالية والثقافية والسياسية المربحة لتمرير السياسات الأميركية في العالمين الاسلامي والعربي، سواء المباشرة منها أو الخبيثة. ولو لم تكن المملكة السعودية موجودة لصنعت واشنطن مملكة مماثلة من اجل تكريس وتثبيت أحد أبرز أدواتها (بعد إسرائيل) في المنطقة.
ولولا التمويل والغطاء الايديولوجي والمدد البشري والسياسي السعودي، لما نجحت “حرب المجاهدين” في افغانستان التي دبرتها واشنطن وكانت من ابرز اسباب انهيار الاتحاد السوفياتي، ولولا هذا الدعم لما ابصر مشروع “الحزام الاخضر” التابع لـ”سي آي إي” النور. وكان الانخراط السعودي في الاستراتيجية الأميركية المسماة “الحرب على الارهاب” مدخلا لتفكيك الاقليم واعادة بناء نظامه، بحسب المشيئة الأميركية، وكل ذلك حدث غداة الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، وما ترك من تداعيات على صعيد العلاقات السعودية ـ الأميركية ما زال بعضها ماثلاً حتى يومنا هذا.
لا يزال صناع القرار في البيت الابيض يرون ان السعودية شريك إستراتيجي حيوي، لكن عليه الإندراج ضمن اولويات واشنطن الاقليمية والدولية، بدل التشويش عليها، وهذا الأمر يسري على انهاء حرب اليمن واعادة إستئناف الحوار مع طهران
ولولا فتح السعودية أراضيها للقواعد العسكرية الأميركية لاتخذت حربا الخليج الاولى والثانية مسارا مختلفاً، ولما كان غزو بغداد، ولما تم قلب الكثير من المعادلات في المنطقة. ولولا القلق السعودي من الثورات الشعبية العربية والتدخل فيها والعبث بمجرياتها واجهاضها، لربما انتجت ربيعا عربيا يستجيب للتطلعات الحقيقية للشعوب ويضعف القبضة الأميركية على العديد من الانظمة العربية، ولولا “التعاون” السعودي الأميركي لما كان هذا الدمار العظيم في العراق وسوريا واليمن و”الفوضى الخلاقة” في بقية ارجاء الاقليم. ولولا غض النظر السعودي لما كان هذا التهافت العربي على التطبيع مع اسرائيل قبل اعادة الحد الادنى من حقوق الفلسطينيين.
لائحة خدمات الرياض لواشنطن اطول بكثير من ان تعد او تحصى وبعضها صار معروفا واكثرها لا يزال مدفونا في خزائن الاسرار، لذا لا يزال صناع القرار في البيت الابيض يرون ان السعودية شريك إستراتيجي حيوي، لكن عليه الإندراج ضمن اولويات واشنطن الاقليمية والدولية، بدل التشويش عليها، وهذا الأمر يسري على انهاء حرب اليمن واعادة إستئناف الحوار مع طهران.
واذ لا تزال أميركا تحظى بمقعدٍ رئيسي على الطاولة السعودية، إلا أن هنالك عددا أكبر من الضيوف يجلسون حولها الآن. وبالفعل فان علاقات الرياض مع كل من بيجينغ وموسكو تشهد انتعاشا باطراد، لا سيما مع موسكو المنغمسة بادوار سياسية وعسكرية في اكثر من ملف في المنطقة بدءا بسوريا وانتهاء باليمن مرورا بليبيا والسودان والجزائر ومصر، علماً أن الحكومة الروسية أمرت وزارتي الخارجية والدفاع بالخوض في مفاوضات مع السعودية بهدف إبرام اتفاقية جديدة للتعاون العسكري بين الدولتين، لا سيما بعد أن أبدت المملكة اهتمامها بشراء اسلحة روسية وأبرزها منظومة “إس – 400″، وهي خطوة تضمنت رسائل مبطنة إلى الأميركيين الذين لا يخفون تحفظهم على هذا النوع من الصفقات، وهم يثقون بأن الرياض أضعف من أن تبادر إلى لعب هكذا ورقة، لا بل العكس هو الصحيح. فالسعودية بثقلها الاقتصادي وفي إطار علاقتها الاستراتيجية مع واشنطن، مطلوب منها أن تساهم بإنجاح السياسات الأميركية الهادفة إلى محاصرة الصين وروسيا.
وادراكا منها لهذه المعطيات، فان علاقة واشنطن بالمملكة والتي شابتها في السابق نكسات كبيرة على غرار ما حصل بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، ثم ما لبثت ان عادت الى مسارها التقليدي، ستظل مستندة الى ما يعرف بقانون “وحدة وصراع الاضداد”، واغلب الظن ان إدارة بايدن ستكتفي بممارسة ضغوط على المملكة في ملفات محددة منها ملف جمال خاشقجي، برغم النظرة الأميركية الإيجابية الى التحولات الاجتماعية والثقافية “غير العادية” التي حدثت في المملكة خلال السنوات الاربع الماضية، ومنها كف يد “المطاوعين” واعطاء النساء بعض الحريات والسماح بالاختلاط المحدود وانعاش حركة الترفيه والسياحة، وهي خطوات جبارة مقارنة بما كان سائدا في العهود السعودية السابقة.
في الخلاصة، تتحكم بالعلاقة الاستراتيجية بين واشنطن والرياض مصالح عميقة ومتبادلة، فالمملكة بحاجة الى القوة العسكرية والغطاءات التي توفرها واشنطن لعرشها ودورها واستمرار آل سعود في الحكم، وفي الوقت نفسه، فإنّ أي إدارة أميركية لا تستطيع الاستغناء عن “الخدمات الجلى” التي يمكن ان تقدمها لها دولة اسلامية كبيرة كالسعودية.