التاريخ لا يعيد نفسه والحقائق تختلف.
هذه حقيقة رئيسية فى أية قراءة موضوعية للمشاهد الهزلية، التى تابعها العالم مستغربا ومشدوها.
لا أمريكا هى ذات الإمبراطورية المتفردة بقوتها وثرائها، التى فرضت بعد الحرب العالمية الثانية قيادتها للعالم الغربى.. ولا روسيا هى الاتحاد السوفييتى، الذى تمكن من فرض سيطرته على أوروبا الشرقية ومناطق واسعة من العالم حين انقسم العالم أيديولوجيا واستراتيجيا وعسكريا واقتصاديا إلى معسكرين كبيرين.
بانهيار جدار برلين فى (9) تشرين الثاني/ نوفمبر عام (1989) انتهت الحرب الباردة وتقوض الاتحاد السوفييتى. بعده، انفردت القوة الأمريكية بالنظام الدولى وحدها ونشأت أوضاع خلل فى التوازنات التى تحكم العلاقات الدولية دفع ثمنها فادحا فى العالم العربى.
بإيحاء الصور بدت ملاسنات «بايدن» و«بوتين» كأنها استعارة لبعض أجواء الحرب الباردة، فالأول يصف الثانى بأنه «قاتل» و«بلا روح» على خلفية تقرير استخباراتى أمريكى جديد ينسب إليه السماح بالتدخل فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، التى جرت الخريف الماضى.. والثانى يوحى بأن الأول فقد سيطرته على عباراته بحكم التقدم فى السن مدعيا أنه يتمنى له الصحة، رغم أنه هو نفسه لم يعد شابا بعدد السنين، قبل أن يزيد بـ«أننا عادة نرى ما بأنفسنا فى الآخرين، ونظن أنهم على ما نحن عليه».
إذا حدث تحالف بين موسكو وبكين، وهو سيناريو مرجح للغاية، فإن المعادلات الدولية قد تميل لغير صالح التحالف الغربى فى عالم ما بعد «كورونا».
يقال إن التاريخ لا يعيد نفسه إلا هزليا
لم تكن الأزمة بذاتها مفاجأة بقدر ما كانت فى الطريقة، التى جرت بها والانحدار الذى وصلت إليه.
على مدى ولاية الرئيس السابق «دونالد ترامب»، دأب الديمقراطيون فى مجلس النواب بأغلبيتهم النسبية على توجيه الاتهامات إلى روسيا بالتدخل فى الانتخابات التى صعدت به عام (2016)، جرت مساءلات مطولة استهدفت عزله غير أنه أفلت بأغلبية جمهورية محدودة فى مجلس الشيوخ، الذى تحول إلى هيئة محاكمة.
نفس الاتهامات تكررت بتقرير استخباراتى جديد عن انتخابات (2020)، التى كسبها «بايدن» وشكك فى نزاهتها «ترامب» وشهدت آخر فصولها اقتحام أنصار الأخير مبنى الكونجرس الأمريكى فى مشهد مأساوى شكك فى الديمقراطية الأمريكية.
باليقين فإن هذا التقرير الاستخباراتى طلبه الرئيس الأمريكى نفسه لأهداف سياسية عملت فى وقت واحد على المضى قدما فى مطاردة شبح عودة الرئيس السابق للبيت الأبيض إذا ما ترشح فى انتخابات (2024) وإعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية الأمريكية فى عصر جديد باستدعاء العدو الروسى إلى مقدمة المشهد، باستعارة «أزمان القيادة والهيبة»، التى توافرت للولايات المتحدة فى سنوات الحرب الباردة.
فى تلك السنوات جرت حروب بالوكالة فى أماكن عديدة بالعالم وأفضى التوازن النووى إلى نوع من الردع المتبادل وكانت الحروب الاستخباراتية والدعائية على رأس العناوين الرئيسية فى ساحات الصراع.
بدت القطيعة شبه كاملة.
لم يعد ذلك ممكنا الآن، لا موسكو بوارد أن تبنى حول نفسها ستارا حديديا جديدا فى عالم السماوات المفتوحة وتدفق المعلومات وتداخل المصالح الاقتصادية.. ولا طاقة لواشنطن أن تعلن حربا تجارية وسياسية ودعائية على روسيا قادرة على حشد الأنصار فى العالم الغربى، الذى كانت تقوده بلا منازع.
أقصى ما يملكه «بايدن» الآن فرض عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا، كطلقات إنذار محدودة لا تتجاوز المناوشات لتحديد مراكز المتصارعين فى عالم جديد يوشك أن يولد من تحت أطلال جائحة «كورونا».
استدعاء «العدو الروسى» من ذاكرة التاريخ يصادم الحقائق المستجدة، فالخطر الأول الذى يتهدد المصالح الأمريكية يأتى من الشرق حيث التنين الصينى، المرجح أن يتساوى ناتجه القومى الإجمالى مع الولايات المتحدة خلال هذا العقد.
إذا حدث تحالف بين موسكو وبكين، وهو سيناريو مرجح للغاية، فإن المعادلات الدولية قد تميل لغير صالح التحالف الغربى فى عالم ما بعد «كورونا».
يقال إن التاريخ لا يعيد نفسه إلا هزليا.
شىء من الهزل السياسى شاب استدعاء الحرب الباردة رغم غياب حقائقها منذ أكثر من ثلاثة عقود.
لا «بايدن» سوف يمضى فى التصعيد إلى أكثر من العقوبات واستثارة ذكريات الحرب الباردة حين كانت لأمريكا الكلمة الأولى فى المعادلات الدولية.
ولا «بوتين» بوارد قطع العلاقات مع الولايات المتحدة
من علامات الهزل السياسى أن تبدأ الأزمة بسؤال فى حديث تلفزيونى عما إذا كان الرئيس الأمريكى يعتقد أن نظيره الروسى «قاتل».. ثم يجد معاونو «بايدن» أنه لابد عليهم أن يوضحوا للرأى العام أن ما قاله الرئيس لم تكن فلتة لسان، وأنه كان يقصد ما قاله تماما وغير نادم عليه حتى لا يطعن فى قدرته الذهنية على إدارة مصالح بلاده.
ومن علامات الهزل السياسى بحث كل طرف فى الأزمة المستجدة عن مسوغات تبرر موقفه، شرعية أو غير شرعية، صحيحة أو منتحلة، داخل الموضوع أو خارجه.
الأمريكيون ينعون على الروس إهدار حقوق الإنسان واضطهاد المعارضين السياسيين، مثل «إليكسى نافالنى»، الذى تعرض للتسميم ثم المحاكمة والسجن، والتدخل العسكرى فى أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، فيما الروس يعتبرون التعريض بـ«بوتين» بهذه الطريقة إهانة جماعية.
الملاسنات تمددت إلى التاريخ بإشارة «بوتين» إلى طبيعة نشأة الولايات المتحدة، حين ارتكب المستعمرون الأوروبيون الذين وفدوا إلى الأراضى الجديدة مذابح جماعية بحق السكان الأصليين فى أمريكا وإلى أن الولايات المتحدة كانت الدولة الوحيدة التى استخدمت سلاحا نوويا ضد دولة أخرى.
إذا دخل العرب فى صياغة لائحة اتهامات القتل فإنها سوف تتمدد إلى ما لا يمكن حصره.
ثم وصل الهزل السياسى إلى حد اقتراح «بوتين» إجراء مناظرة مع «بايدن» عبر وسائل التواصل الحديثة يشهدها ويحكم عليها العالم بأسره!
بمنطق أو بغير منطق استبيح كل شىء، ما هو تاريخى وما يعوزه الدليل، ما هو شخصى وما يتعلق بمصالح الدول العليا، غير أن طرفى الأزمة المستجدة يدركان أن اللعبة لا تتجاوز التوظيف السياسى، كل لأسبابه الداخلية!
لا «بايدن» سوف يمضى فى التصعيد إلى أكثر من العقوبات واستثارة ذكريات الحرب الباردة حين كانت لأمريكا الكلمة الأولى فى المعادلات الدولية.
ولا «بوتين» بوارد قطع العلاقات مع الولايات المتحدة، فقد أكد جازما على رغبة بلاده فى «الإبقاء على العلاقات على النحو الذى تراه».
الملاسنات فى جوهرها تعبير عن أوضاع قلق وتأزم يستبق نظام دولى جديد يوشك أن يولد من تحت ضربات جائحة «كورونا».
«بايدن» يستدعى شبح «ترامب» لإكساب رئاسته ما تحتاجه من شعبية الاقتناع العام بجدارته بالحكم بعيدا عن إرث سلفه الذى نال بفداحة من صورة الولايات المتحدة.
و«بوتين» يوظف ما تورط فيه نظيره الأمريكى من تفلت لفظى لإكساب نفسه شرعية جديدة تبرر طول البقاء فى الحكم.
(*) بالتزامن مع “الشروق”