شكّل جمال عبد الناصر، حامل لواء مقاومة إسرائيل وراية العروبة والقومية، حجر عثرة أمام القوى الإقليمية المذكورة التي كانت تدور في الفلك الأميركي، والمعرقل الأبرز لترجمة سياساتها ومخططاتها على أرض الواقع، سواء تركيا المرتبطة بتحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة والمنضوية في حلف شمالي الأطلسي، أو إيران الشاه والسعودية، وهما لطالما شكّلتا دعامتين في السياسة الأميركية في منطقة الخليج في مواجهة ما يسمى “المد الشيوعي” وكذلك الموجة القومية العربية.
ومع تسلم رجال الدين مقاليد الحكم في إيران ورحيل حكم الشاه عام 1979، تغيّرت خارطة التحالفات بشكل جذري، فإيران الحليفة للولايات المتحدة (شرطي الخليج الأميركي طبعًا) باتت في المقلب الآخر المناوئ والمواجه لسياسات أميركا وحلفائها، وسيطرت عليها عقلية الثورة طيلة عقد الثمانينيات الماضي، ما حال دون تطوير علاقاتها مع جوارها الإقليمي. عقلية جعلت موضوع العلاقة مع “إسرائيل” معيارًا لعلاقة إيران الثورة مع الخارج، ومن ذلك حرّم الإمام الخميني العلاقة مع مصر بسبب تطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني، إلى أن تغيرت الأمور بتوقف الحرب الإيرانية العراقية ورحيل الإمام الخميني ووصول شخصيات إصلاحية برغماتية إلى سدة رئاسة الجمهورية في إيران، افتتحها الرئيس علي أكبر هاشمي رفسنجاني وتلاه الرئيس محمد خاتمي وصولًا إلى الرئيس الحالي حسن روحاني. حيث راحت تتخفف إيران من عقلية الثورة لمصلحة عقلية الدولة.
لو نظرنا إلى أكبر دولة عربية، لوجدنا أن السعودية تفتقد إلى عقلية الدولة، لمصلحة مفهوم القبيلة والعشيرة والسطوة الأبوية التاريخية لآل سعود وسياسة ردّات الفعل بوصفها السمة الغالبة على سياسات المملكة الخارجية مذ تأسست الدولة السعودية الثالثة عام 1932.
وإذا ما أخذنا، وبشكل سريع، قضية الحصار الذي مارسته السعودية على قطر منذ العام 2017، لوجدنا نوعًا من التسرع وقلة الدراية في التعاطي مع دولة شقيقة وواحدة من الدول الست اللواتي يتشكل منهن مجلس التعاون الخليجي. وما لذلك من خسارة للمملكة التي تقود ما يسمى “محور الاعتدال”، في مواجهة غريمها التقليدي المعروف بإسم “محور المقاومة”، والمحور الثالث الطارئ على المنطقة مع بداية الألفية الثالثة، وهو محور تركيا ـ قطر ـ الإخوان، حيث وصلت مديات القطيعة إلى درجة طرد الرعايا القطريين المقيمين في السعودية وقطع أواصر العائلات المتصاهرة بين الدولتين. وظهرت السعودية بمفهوم القبيلة وبعيدة كل البعد عن لغة ومنطق التعاطي الدولتي حتى مع أقرب الدول إليها.
كذلك الأمر في موضوع العراق، فقد أهملته السعودية بعد الغزو الأميركي في العام 2003، ولم تحسن الاستثمار فيه، واعطت مساحة أساسية للمكون السني العراقي ومكونات أخرى محسوبة عليها (نموذج أياد علاوي الشيعي)، بينما كانت الخصومة سمة مشتركة بينها وبين رموز مثل رئيس الوزراء نوري المالكي بحجة “تبعيته لإيران”، بدلًا من أن تفتش على نقاط إلتقاء معه وصولًا إلى محاولة جذبه نحوها، وهذه السياسات خسّرتها الكثير، ولو أنها تحاول إستدراكها في الآونة الأخيرة، بدليل الإستقبال الذي حصل لرئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي، وهو إستقبال غير مسبوق لأي مسؤول عربي، منذ تولي الملك سلمان العرش السعودي.
لم تقتنع السعودية أن الوقت قد حان لتغيير استراتيجيتها وصولاً إلى الحفاظ عمّا تبقّى من تأثير للسعودية في سوريا (مدخله عودة سوريا إلى الجامعة العربية)، وأن تشارك المملكة في ورشة تدعيم الدولة السورية، بدل أن تشترط على الدولة السورية الخروج من تحت العباءة الإيرانية
وفي المقابل، كانت إيران تؤسس لتوطيد علاقتها مع العراق، وتنفق موازنات مالية مهمة وتمد جسور العلاقة بين بلدين تحاربا ثماني سنوات، وعلى بشاعة تلك الحرب ودمويتها وذاكرتها وصورها المؤلمة، حاولت إيران تجاوزها وكسب ودّ كل المكونات العراقية، لكن بقي الثابت (والإشكالي) بالنسبة إليها أن تكون القوى والأذرعة الحليفة لها هي رافعة العلاقات الثنائية وليس العلاقة بين دولة ودولة. في الوقت الذي كان بمقدور السعودية فعل الكثير بما يفوق ما قامت به إيران لاعتبارات مادية وبتوافر بيئة عمل داخل الساحة العراقية تحت الرعاية الأميركية.
أما إيران فقد إشتغلت بالمفرق على أكثر من مستوى، سواء الأمني عندما ناصر الحرس الثوري الإيراني القوات العراقية ولا سيما فصائل الحشد الشعبي في حربها لتحرير العراق من تنظيم “داعش” الإرهابي، او على صعيد تأمين مستلزمات الحياة لا سيما الكهرباء وغيرها، حيث لم تجد الإدارة الأميركية بدًّا من استثناء مد إيران للعراق بالكهرباء من العقوبات الأميركية المفروضة على طهران.
ولكن، كما هو الحال في لبنان، كبر دور حلفاء إيران في العراق، ولو على حساب الدولة العراقية، وهذه هي المعضلة الأبرز التي تواجه الدور الإيراني، الأمر الذي يطرح أسئلة عما إذا كان للجمهورية الإسلامية مصلحة في إعادة قيامة الدولة العراقية المركزية القوية (البوابة الشرقية)؟
ولو أخذنا النموذج اللبناني، فإن المملكة توّجت سياسة ردة الفعل مع قرارها القاضي بإحتجاز رئيس حكومة لبنان سعد الحريري عام 2017 وتأديبه، وإجباره على الاستقالة وإعلانها من المملكة في كلمة متلفزة عبر محطة “العربية” السعودية، وصولاً إلى قرار ولي العهد السعودي بالإنكفاء عن مساعدة لبنان وإقفال الأبواب بوجه الحريري والكثير من حلفاء السعودية (بإستثناء القوات اللبنانية). وفي المقابل، كانت إيران تطلق الحرية لحلفائها في لبنان، لا سيما حزب الله الذي يعتبر أمينه العام السيد حسن نصرالله ركنًا رئيسًا من أركان نظام الجمهورية الإسلامية وليس تابعًا أو متلقيًا لسياساتها في المنطقة. وربما أصبح في صلب دائرة القرار الضيقة في طهران، ولو أن مأخذ الكثيرين، وبينهم حلفاء لإيران نفسها، أن حزب الله قدم إعتبارات الحلفاء، بأبعادها الطائفية أو المذهبية، على البعد الدولتي، بدليل الوضع الذي وصل إليه لبنان حاليًا وعجز حزب الله عن الفعل في مواجهة أزمة تهدد منظومته برمتها.
الطامة الكبرى تمثلت في الحرب التي تقودها السعودية على اليمن، وهي إن دلّت على شيء، مع دخولها عامها السابع، إنما على قصر رؤية في السياسة السعودية وتقديرات خاطئة من الساعات الأولى للحرب عام 2015.
لقد أدخلت المملكة نفسها في مأزق لا يمكن الخروج منه إلا بتنازلات جمّة ومؤلمة لا بدّ أن تفضي إلى نتيجة تصب في مصلحة حركة أنصار الله ومن خلالها تصبح إيران إحدى الدول المقررة في البحر الأحمر من خلال علاقتها الوطيدة بالقيادة الحوثية. وبذلك تكون لطهران الكلمة الفصل في أبرز مضيقين استراتيجيين في المنطقة والعالم هما هرمز وباب المندب.
أما في سوريا التي أمست أزمتها على مشارف النهاية، فلم تقتنع السعودية أن الوقت قد حان لتغيير استراتيجيتها وصولاً إلى الحفاظ عمّا تبقّى من تأثير للسعودية في سوريا (مدخله عودة سوريا إلى الجامعة العربية)، وأن تشارك المملكة في ورشة تدعيم الدولة السورية، بدل أن تشترط على الدولة السورية الخروج من تحت العباءة الإيرانية.
بالمحصلة، يتمسك ولي العهد السعودي محمد بن سلمان برؤيته (2030)، لكن ما كان مأمولًا تحققه من خصخصة في “أرامكو” ومن أحلام خيالية في مدينة “نيوم” المستقبلية، يستوجب إعادة نظر جذرية بمجمل السياسات الإقتصادية. فالسياسات الراهنة، من سياسوية وإقتصادية لم نعهدها في المملكة التي دأبت على النهج المحافظ والنأي بنفسها عن المواجهات والدخول في صراعات، ومقاربة الأمور بهدوء وغالبًا عن بُعد.
إنها سياسة الجيل الثالث من آل سعود، والتي قد تحفل بسيل من المفاجآت والتغيرات التي لم تكن في الحسبان، ولم نكن بوارد توقعها مع الأجيال السابقة.