هل يتَخوَّفَ الغرب من هجرة يهودية معاكسة؟

طرحت عملية "طوفان الأقصى" وستبقى تطرح أسئلة كثيرة.. وجديدة، ومن بينها السؤال حول طبيعة العلاقة بين اليهود من جهة، والأوروبيين والغرب من جهة أخرى، وما إذا كان ما نراه من محاباة بين الجانبين ليس سوى غلالة رقيقة يحاول كلا الطرفين إلقاءها لإخفاء التوجس التاريخي المُتبادل.

لم يكن لعملية “طوفان الأقصى” أن تحوز تلك الرمزية الطاغية والمُكثفة، والمقصود بها تحرير أراضٍ محتلة، لو لم يتوغل الفلسطينيون في الأراضي التي تقع تحت سيطرة المحتل ويُحرّرونها لفترة قصيرة، حتى لو كانت ساعات محدودة. لذلك، ونتيجة التأثير الكبير والعميق لهذه الرمزية على وعي الإسرائيليين، والذي يعرفه قادة الغرب حق المعرفة، سارع قادة هذا الغرب إلى الزحف تباعاً إلى تل أبيب لطمأنة الإسرائيليين أنهم لن يُتركوا وحدهم في “لحظة وجودية”. هنا قفز السؤال الكبير إلى أذهان وألسنة كثيرين: هل يخاف الغرب من عودة اليهود من إسرائيل إلى دول الغرب، خصوصاً دول أوروبا التي كانت قد لفظتهم مرّات عدة عبر التاريخ؟

أكدت عملية “طوفان الأقصى” أن دولة الكيان الإسرائيلي ليست سوى قاعدة متقدمة للغرب الأميركي والأوروبي، وهي القلعة الإستعمارية التي أراد هذا الغرب إيجادها في المنطقة بعدما زال احتلاله عنها، في أواسط القرن الماضي. وإذا كان هذا الكلام قد صُنِّف سابقاً في خانة ما تسمى “اللغة الخشبية”، فإنّ ما بدر من الغرب على مدى أكثر من مائة وثلاثين يوماً يؤكد صحته، ولا سيما لجهة تلمس مدى التزام الغرب بضمان أمن هذا الكيان راهناً ومستقبلاً، مهما كانت تبعات مثل هذا الالتزام. وهو التزام يريد له أيضاً قتل إرادة التحرير لدى الفلسطينيين، والتي ظنّ كثيرون أنها تلاشت قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

من هنا تتأكد القناعة أن الغرب نجح من خلال “زرع” إسرائيل في المنطقة العربية، في تحقيق هدفين، أولهما، أنه جعل له موطئ قدم، يكون بمثابة القاعدة العسكرية والسياسية الاحتياطية المتقدمة التي يُمكن التعويل عليها عند الحاجة (تهديد مصالح الغرب). وثانيهما، التخلص من عامل مجتمعي إشكالي، أساسه التوجس التاريخي الدائم للأوروبيين من اليهود، والذين حامت حولهم، عبر التاريخ، تُهَم جعلتهم منبوذين داخل مجتمعاتهم.

صنّف محلّلون ازدياد مظاهر الكراهية لليهود في دول أوروبية، وبين تعبيراتها رسم شارة الصليب المعقوف على منازلهم ومتاجرهم لإخافتهم ومنعهم من القدوم إلى هذه الدول، لأن المصير ذاته سيكون بانتظارهم، وهو الأمر الذي استدعى صدور بيان عن الإتحاد الأوروبي يُندّد بتزايد معاداة السامية في أوروبا، ويُحذّر من أن يهود أوروبا “يعيشون مجدداً في الخوف”!

ومن تلك المشكلات التي بقيت راسخة في أذهان الأوروبيين، وساهمت في تكوين النظرة المتوارثة إزاء اليهود وممارساتهم، مسألة الربا التي برعوا بها وتسببوا عبرها بأزمات مالية وكوارث اقتصادية لأفراد وعائلات وقطاعات اقتصادية. وهنالك تهمة لا تغادر ضمير أوروبيين كثيرين، وهي تسببهم بقتل المسيح، والتي على أساسها بات تصديق كل التهم الملصقة بهم أمراً مفروغاً منه. كما بقيت قصص مؤلمة لا تبارح خيال الأوروبيين على الرغم من امتدادها في التاريخ البعيد، ومنها اختطاف اليهود أطفالاً مسيحيين وقتلهم لاستخدام دمائهم في طقوسهم السرية، ومنها صناعة نوع من الخبز الذي يحضر في مناسبة دينية محددة. كذلك اتهامهم بالتسبب بنشر مرض الطاعون عبر رمي ميكروبات في الآبار في دول أوروبية كثيرة للتأكد من إصابة أكبر عدد منهم بالمرض، إضافة إلى اتهامهم بالتسبب باندلاع حروب بين الدول الأوروبية المسيحية.

وبدءاً من الألفية الثانية أدت التوترات بين المسيحيين واليهود إلى إجبار اليهود على ارتداء ثياب وشارات محددة تميزهم عن غيرهم، كعقوبة عما يتسبّبون به من مشكلات، وبلغ الأمر في عدد من المجتمعات الأوروبية حد قتل بعضهم وطردهم من هذه الدول، بدءاً من القرن الثالث عشر الميلادي، وعلى مدى قرون لاحقة. فقد سجل التاريخ وقائع طردهم من إنكلترا وفرنسا وإسبانيا والمجر والنمسا والبرتغال.. ونابولي وميلانو (في إيطاليا)، وهو ما أدى إلى تنقلهم بين هذه الدول ثم العودة بعد زوال أسباب طردهم. غير أن هجراتهم المتتالية كانت لها وجهتان رئيستان هما بولندا والمغرب، الدولتان اللتان استقرت فيهما نسبة كبيرة منهم فلا يعودوا إلى الأماكن التي طردوا منها. وقد استمر هذا التوتر حتى ظهور هتلر، والمجازر التي اقترفتها جيوشه بحق معارضيه في ألمانيا والدول الأوروبية التي احتلتها، ومن بينهم اليهود.

في بداية السنة المنقضية، بدأ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وحلفاؤه في التيار الديني اليميني المتطرف، يعدون العدة للتغييرات القضائية التي تساعد نتنياهو في الهروب من المحاكمة بسبب الفساد. وقد توجس إسرائيليون خيفة من هذه التعديلات، ورأوا فيها تقوية للتيار الديني، وبالتالي دخول دولة الاحتلال في قلاقل وتوترات تصل حد دفعها نحو شفير حربٍ أهلية. وهذا أجبر كثيرين على مغادرة الكيان بعدما لمسوا كيف يدعو التيار الديني إلى العنف في مواجهة الفلسطينيين وشن الحروب الدورية على قطاع غزة والهجمات الدائمة في الضفة الغربية، بينما لا يخدم أعضاء هذا التيار في الجيش بموجب القانون الذي يُعفي المتدينين من الخدمة، وبالتالي لا يحاربون ولا يقدمون الضحايا في هذه الحروب. لذلك رأى العلمانيون أن أبناءهم سيكونون هم وقود الحروب التي سيأمر المتطرفون الدينيون بشنها. علاوة على ذلك، رأى هؤلاء العلمانيون بفوز التيار الديني في انتخابات الكنيست وتشكيلهم أغلبية الحكومة، ثم ضلوعهم بمهمة دعم التغييرات القضائية التي قاد نتنياهو لواء إقرارها، تهديداً للديموقراطية وانقلاباً على نظام الحكم عبر زيادة نفوذ السلطة التنفيذية وقوتها، مقابل إضعاف نفوذ السلطة التشريعية والقضاء. كما رأوه بمثابة إعلان قيام الديكتاتورية، وبالتالي التضييق مستقبلاً على الحريات، فما كان من كثيرين منهم سوى الشروع بالهجرة، خصوصاً إلى أوروبا.

إقرأ على موقع 180  البحر الأحمر.. بحيرة إسرائيلية

وقد أفادت سلطة السكان والهجرة الإسرائيلية أنه بعد عملية “طوفان الأقصى”، وبعد شنّ دولة الاحتلال الحرب الجارية على غزة، وصل عدد الإسرائيليين الذين غادروا دولة الاحتلال، حتى 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، إلى 370 ألف شخص. ومن هنا يمكن إرجاع سبب مسارعة قادة الدول الأوروبية إلى زيارة دولة الإحتلال للتضامن مع قادتها، أنه محاولةً للحد من ظاهرة الهجرة العكسية من الكيان إلى أوروبا. وفي هذا السياق، صنّف محلّلون ازدياد مظاهر الكراهية لليهود في بعض الدول الأوروبية، وبين تعبيراتها رسم شارة الصليب المعقوف على منازلهم ومتاجرهم لإخافتهم ومنعهم من القدوم إلى هذه الدول، لأن المصير ذاته سيكون بانتظارهم، وهو الأمر الذي استدعى صدور بيان عن مفوضية الإتحاد الأوروبي يُندّد بتزايد معاداة السامية في أوروبا، ويُحذّر من أن يهود أوروبا “يعيشون مجدداً في الخوف”!

Print Friendly, PDF & Email
مالك ونّوس

كاتب ومترجم سوري

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  بوتين وأردوغان في أوكرانيا.. وبينهما "بيرقدار"!