عن سيرة لبنان ومسيرته.. هل هو قابل للحياة بعد؟

هل لبنان قابل للحياة، مرة أخرى؟ تجربة المائة عام الماضية أسفرت عن نتيجة مبرمة: "لبنان دولة فاشلة". البراهين كثيرة، متتالية، متراكمة، وأوضحها ما وصل اليه لبنان راهناً. انه موجود فقط على حافة موته.

السؤال التأسيسي يعود الى “تركيب لبنان” هذا. جغرافيته ولدت بعد سايكس بيكو. لبنان اللبناني، هو لبنان القائمقاميتين والمتصرفية. سكانه: أقليتان، مارونية (مسيحية) ودرزية. ولكل طائفة حاميها. فرنسا الأم الحنون للموارنة، الدروز تحت عباءة بريطانيا.. انتصر الحليفان البريطاني والفرنسي، ورسما خريطة هذه الدول الناشئة، في بلاد الشام والخليج العربي وسواها من البلدان. يومها، ولدت جغرافية لبنان الراهن بعدما اضيفت اليه مناطق كانت تابعة لولايات متقاربة. ضُمت الأرض ومن عليها. صار لبنان مجمعاً لطوائف. صار لكل طائفة تاريخها وطموحها وأهواؤها وانتماءاتها.

اخرست فرنسا بالقوة من يناوئها. ولد لبنان الكبير، واحتضن ما كان يفترض انهم لبنانيون. لم يكونوا كذلك كانوا طوائف ومللاً ونحلاً، متساكنة على غيرة وعداوة ونكاية. ظلت الاقليات اقليات حتى الاكثرية المسيحية تحوّلت وسط تدفق المناطق المضافة الى اقلية. صار لبنان متحفاً للتناقضات والاقليات. عملت فرنسا على نقل ما تعرفه من الغرب الى المنطقة. انشاء دولة يعني إنشاء دستور وقوانين وادارات وانتقال من اللا دولة الى الدولة. فرنسا في ذلك الدستور لا يشكو الا قليلاً. دستور لا بأس به. اتجاهه قيام دولة مدنية لا طائفية بالتدرج. لذلك نصت المادة 95 على التوزيع الطائفي مؤقتاً.. انما حصلت معجزة جديدة. الدستور غير كاف. نصوصه حبر على ورق. لا بد من شرعية فوق شرعية الدستور. ابتدعوا “الميثاق الوطني”. الذي يتقدم على الدستور. والميثاق الوطني، خرافة غير قابلة للتطبيق. فمتى كان التطبيق سليماً. متى كان لبنان خارج: لا شرق ولا غرب. متى كان لبنان ذا وجه عربي؟ لقد كان اشبه بوجوه البربارة سياسياً. ولا مرة كان لبنان السياسي عربياً أو لا عربياً. لمَ؟ ما هذه البدعة المستحيلة حتى اللحظة؟ الميثاقية. التوزيع الطائفي.

هل نعد الازمات والنكبات والحروب الطائفية؟ ذاكرة لبنان معبأة بالمذابح والمجازر والتهجير. وحوش ضد وحوش. خمسة عشر عاماً من القتل والقتل والقتل. على مرأى حلفائهم في الخارج وبتأييد وتسليح منهم

كان الفرنسيون يتوقعون ان تتطور الامور وفق الخريطة التالية:

الانتقال التدريجي من الطائفية السياسية الى الدولة المدنية، كما نص الدستور. حدث العكس. تطور لبنان بالاتجاه المضاد. من الدولة المدنية المكتوبة، الى الدولة الطائفية. أي تطييف الدولة والمجتمع والمؤسسات.

وكان ما كان، من زمان، حتى الآن. كل عهد من عهود لبنان كان طائفياً. العهد الذي يلي يكون أكثر طائفية وانقساماً وتأزماً. ظلت الأقليات غير المسيحية مغبونة.

دولة لبنان، بعد الاستقلال تضم بيروت والجبل. المناطق الاخرى الملحقة لم يلحقها لبنان بالاهتمام. ثم، وهذا هو الأهم، لم يستطع لبنان، ولا مرة في تاريخه، ان يكون انتماء شعبه له. ليس في لبنان لبنانيون. هناك مسيحيون يميلون في اكثريتهم للغرب. سنة يميلون للعروبة والقومية العربية والدول الاسلامية، والحركات الفلسطينية. الدروز انتقلوا من الحماية البريطانية والفرنسية الى الحضن العربي والى حركات التغيير التي عصفت في المنطقة. ظلوا دروزاً بهويات سياسية مختلفة. الشيعة، كانوا في الاطراف المهملة. محرومون عن جد. عوقبوا عقاباً دامياً ومميتاً، لأنهم قاوموا انضمامهم الى لبنان، كانوا الى جانب فيصل. ظُلموا فرنسياً، ثم ظُلموا لبنانياً. انتظمت اجيالهم الشابة في منظمات عروبية وقومية ويسارية. صاروا ثواراً خارج طائفتهم. مع انطلاقة موسى الصدر، فرض الشيعة أنفسهم كطائفة، فأنعمت عليهم الدولة، بعد عناد وصراع، ببعض المواقع. وهكذا انتظم لبنان.

هل هذا “البازل” اللبناني – الاقليمي – الدولي، قادر على انشاء دولة؟ ظنوا ذلك. لم ينشئوا دولة ابداً. أنشأوا مزرعة موزعة على الطوائف وزعاماتها. السلم العربي يوفر للبنانيين الطائفيين فترة مصالحة، لا تغيب عنها الظنون والشكوك. كل فريق يشك بخيانة شريكه. لم تبارح الدول الخارجية لبنان طوال تاريخه.

هل نعد الازمات والنكبات والحروب الطائفية؟ ذاكرة لبنان معبأة بالمذابح والمجازر والتهجير. وحوش ضد وحوش. خمسة عشر عاماً من القتل والقتل والقتل. على مرأى حلفائهم في الخارج وبتأييد وتسليح منهم. يومها غاب لبنان كله، وحضرت الميليشيات الطائفية، مع حلفائها العرب وغير العرب.

لا. لا يمكن بناء دولة واحدة، لطوائف، تعتبر كل واحدة منها، انها دولة صغيرة متماسكة، في دولة كبيرة مفتتة. دولة الطائفة اقوى بكثير من دولة لبنان ودستوره وقوانينه ومؤسساته.. لذلك، عندما نقول أن لبنان ليس للبنانيين، بل للطائفيين. هكذا ولد، وهكذا كبر، وهكذا تدمر.. لا أمل بدولة مبنية على أقليات تتشارك في ما بينها في قيادة الدولة في كل الاتجاهات المتعارضة.

دولة كهذه، لا مساءلة فيها ولا محاسبة ابداً. كذبة صناديق الاقتراع، للأسف، يصدقها اللبنانيون.. والله عيب.

لبنان الثاني لا يمكن أن يكون الا ديموقراطياً، وديموقراطيته اساسها المواطنة، التي ترى إلى الطائفية انها اثم سياسي فادح. لبنان الثاني عماده الحرية، وتطبيق القوانين واعلاء المساءلة والمحاسبة، وتنفيذ استقلالية القضاء، اضافة إلى استعادة نظام الانتاج

لبنان في مائة عام كان ضحية مثالية للنظام الطائفي الشامل والتام. نظام لا يعترف إلا شكلاً بالدستور والقوانين والمؤسسات. نظام لا يقيم وزناً الا للديكتاتوريات الطائفية التي تجمع على ممارستها الاقليات، وفق تراتب قواها.

إقرأ على موقع 180  موسى الصّدر.. في الطريق نحو بناء الدّولة المعاصِرة (٢)

العدو الأول للبنان، هو الطائفية. وبالتحديد هم القوى الطائفية وعسكرها المدني والاداري والامني والمالي. هذا العدو قوي ومستقوي بغيره دائماً، وهو يربح كل المعارك. بعد كل معركة طائفية يزداد منسوب الطوائفيات. وبالمناسبة، الطائفية تمارس السياسة والتجارة والمال والفساد الذي لا دين يعلو عليه ابداً.

نعود إلى السؤال: هل لبنان قابل للحياة مرة أخرى؟

الجواب ينقلنا إلى منطقة الرجاء وليس إلى واقع التوقع. المتوقع أن يبقى لبنان في نفقه المسدود. أما اذا كان للبنان حياة، فلا يمكن أن نصل إلى دولة، الا اذا كانت مسيرته عكس سيرته في خلال المائة عام المنصرمة. حيث لم نعرف حياة سياسية، بل عرفنا مماحكة سياسية، وحيوية طائفية فائقة.

إن لبنان الثاني لا يمكن أن يكون الا ديموقراطياً، وديموقراطيته اساسها المواطنة، التي ترى إلى الطائفية انها اثم سياسي فادح. لبنان الثاني عماده الحرية، وتطبيق القوانين واعلاء المساءلة والمحاسبة، وتنفيذ استقلالية القضاء، اضافة إلى استعادة نظام الانتاج، لا تسهيل الاستيراد للسلع السهلة والارباح الهائلة. بلد جديد يقوم على نهج تربوي جديد، في كتاب مدني موحد. مدارسنا اليوم ترسانات تخرّج متطرفين طائفيين. والأهم من كل ذلك، معاقبة كل نزوع طائفي سياسي. على أن تكتفي الطائفية بواجباتها الدينية أولاً وأخيراً. “اعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر”. يبقى أن يتفق اهل السياسة على نظام اقتصادي عادل ومنتج ومبدع، اضافة إلى تقليل الفروقات الطبقية.

من يتبنى هذا المنطق وهذه الخريطة السهلة؟

كثيرون.

من منا مستعد لممارسة هذا الفعل بالتضامن والتكافل والتكتل؟

لا أعرف.

لذلك، أُرجِح أن يكون لبنان الثاني نسخة فاشلة لدولة فاشلة لشعب فاشل.

وعليه، لا لبنان آخر في ما بعد. بكل حزن واسف.

Print Friendly, PDF & Email
نصري الصايغ

مثقف وكاتب لبناني

Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  لقاء "الرفيقين" بوتين وكيم.. هجوم روسي مضاد