أعطت ثورات “الربيع العربي” أسامة بن لادن بعض الأمل في بداياتها. واشاد بنجاح من أسماهم “الثوار” الذين أسقطوا الأنظمة الاستبدادية في تونس ومصر وليبيا. لكن سرعان ما أصبح مضطرباً. ففي محادثات مع عائلته، أعرب عن قلقه من أن “الثورات ولدت قبل الأوان”. وأسف لأن “القاعدة” والجماعات الجهادية الأخرى كانت في الغالب على الهامش. لقد بدا مستسلماً وهو يقول: “لا نستطيع إلا تكثيف الصلاة”.
برغم ذلك، كان بن لادن مصمماً على “حماية هذه الثورات”، وكان عازماً على تقديم المشورة للمحتجين من خلال تصريحاته العامة. وكان رده الوحيد والأوحد على ثورات الربيع العربي قد ورد في ما لا يقل عن 16 مسودة مكتوبة قبل أن يقوم بأول تسجيل صوتي. وقد قامت ابنتاه سمية ومريم، اللتان شاركتا فعلياً في تأليف معظم الرسائل العامة التي نقلها بن لادن على مرّ السنين، بالكثير من العبء الثقيل في تأليف النص. في أواخر نيسان (أبريل) 2011، كانت إبنتاه تخططان لمنحه جولة أخرى من التعديلات قبل التسجيل النهائي، لكن الوقت نفد: داهمت قوات البحرية الأميركية مجمع أبوت آباد قبل أن تُتاح لهما الفرصة تلميع صورة والدهما. كانت الحكومة الأميركية هي التي أصدرت البيان، ربما لإثبات أن الغارة قد حدثت بالفعل، من أجل تقويض مزاعم أصحاب نظرية المؤامرة.
تم التخطيط للغارة وتنفيذها ببراعة. أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما وفاة بن لادن، قائلاً: “العدالة تحققت”. مع القضاء على الرجل الذي يقف وراء هجمات 11 أيلول (سبتمبر)، ومع وجود محتجين سلميين وعلمانيين في الغالب في مسيرة ضد طغاة الشرق الأوسط، بدا للحظة أن الحركة الجهادية قد نفذت مسارها. لكن تلك اللحظة أثبتت أنها عابرة.
الخليفة قصير العمر
بالعودة إلى واشنطن، أسقطت إدارة أوباما لقب “الحرب على الإرهاب” الذي أطلقه جورج بوش الإبن. لكن أوباما حافظ على تركيز سلفه المفرط على “القاعدة”، وفشل فريقه في تمييز الانقسامات داخل الحركات الجهادية، وهي الإنقسامات التي ثبت أنها ذات أهمية. باختيارها خوض الحرب في العراق، بالغت إدارة بوش في تضخيم علاقات “القاعدة” بهذه البلاد، وبالغت في تقدير فوائد مكافحة الإرهاب للإطاحة بنظام صدام. إدارة أوباما، من جانبها، بالغت في تقدير الآثار الإيجابية لمقتل بن لادن وانسحاب الولايات المتحدة من العراق. زعم أوباما في تشرين الأول (أكتوبر) 2011، قائلاً: “لقد سمح لنا الانسحاب من العراق بإعادة تركيز معركتنا ضد القاعدة وتحقيق انتصارات كبيرة ضد قيادتها، بما في ذلك أسامة بن لادن”. لكن في تلك اللحظة بالذات، كان تنظيم الدولة الإسلامية، الحليف السابق لتنظيم “القاعدة” في العراق، يُنشّط جيلاً جديداً من القادة. فشلت إدارة أوباما والحكومات الغربية الأخرى في رؤية هذا الخطر المتزايد.
في عام 2010، أصبح تنظيم الدولة الإسلامية بقيادة عراقي كان مغموراً في السابق، أطلق على نفسه اسم أبو بكر البغدادي. وفرت الطائفية والفساد في الحكومة العراقية أرضاً خصبة لإعادة بناء المجموعات الجهادية
في عام 2010، أصبح تنظيم الدولة الإسلامية بقيادة عراقي كان مغموراً في السابق، أطلق على نفسه اسم أبو بكر البغدادي. وفرت الطائفية والفساد في الحكومة العراقية أرضاً خصبة لإعادة بناء المجموعات الجهادية. في 2010-2011، شنَّ البغدادي موجة من الاعتداءات الإرهابية على الشيعة والمسيحيين العراقيين. أثارت هذه الحملة حفيظة قادة “القاعدة”. “لا أفهم”، غضب أيمن الظواهري في رسالة كتبها إلى بن لادن قبل بضعة أشهر من غارة أبوت آباد. “ألا يكتفي الإخوة بعدد أعدائهم الحاليين؟ هل هم متحمسون لإضافة أشخاص جُدد إلى قائمتهم؟”. وحثَّ بن لادن على الكتابة إلى قادة المجموعات الجهادية العراقية وإرشادهم بوقف “استهداف الشيعة عشوائياً، وإنهاء هجماتهم ضد المسيحيين”. لكن بن لادن لم يعد له أي تأثير على هذه المجموعات. كانت المجموعة العراقية قد تحركت.
بين عامي 2011 و2013، توسع تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، وأقحم التنظيم نفسه في الحرب الأهلية الدموية التي بدأت هناك بعد أن سحق نظام بشار الأسد انتفاضة الربيع العربي. في حزيران (يونيو) 2014، وبعد أن احتل تنظيم الدولة الإسلامية مساحات شاسعة من الأراضي في كل من العراق وسوريا، أعلن المتحدث باسم الجماعة، أبو محمد العدناني، أن البغدادي هو زعيم الخلافة الجديدة، وأعاد التنظيم تسمية نفسه “الدولة الإسلامية”. دفع هذا التوسع الإقليمي الجماعات الجهادية في أكثر من عشر دول إلى مبايعة الخليفة الجديد. وبدوره، صنَّف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) هذه الجماعات على أنها إما “محافظات” أو “جنود الخلافة”.
بعد مقتل بن لادن، استمرت “القاعدة” في العمل تحت قيادة الظواهري. لكن “داعش” طغى عليها بالكامل. ومع ذلك، مثلما كان بن لادن يجهل حدود الإرهاب، أثبت البغدادي أنه جاهل عندما يتعلق الأمر بإدارة “دولة”، ناهيك عن “الخلافة” التي تهدف إلى احتلال دول أخرى دون امتلاك طائرة مقاتلة واحدة. في أيلول (سبتمبر) 2014، شكَّلت إدارة أوباما تحالفاً من 83 دولة “لإضعاف داعش وهزيمتها في نهاية المطاف”. وبحلول عام 2016، بدأ “داعش” في الانهيار. واصلت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب القتال، وانتزع التحالف في النهاية السيطرة على كل أراضي “داعش”. لقد رفض البغدادي استراتيجية بن لادن “القتال في الظلّ” لصالح بناء الإمبراطورية وتمكن من استبدال بن لادن كوجه للجهاد العالمي. لكن الرجلين كان لهما المصير ذاته. ففي تشرين الأول (أكتوبر) 2019، داهمت القوات الأميركية مجمع البغدادي في محافظة إدلب (شمال غرب سوريا). طاردت الكلاب البوليسية الأميركية البغدادي في نفق مسدود. وعند محاصرته، فجَّر “الخليفة” سترة ناسفة. أعلن ترامب بعد ذلك أن “العالم بات الآن أكثر أماناَ”.
مصير الإرهاب
في العامين اللذين تليا سقوط البغدادي، كان المشهد الجهادي لا يزال منقسماً. تستمر التنظيمات الجهادية في الانتشار. لكن لا توجد جماعة تهيمن على النحو الذي كان يفعله تنظيم “القاعدة” و”داعش” من قبل. وتتراوح قدراتهم من مجرد “عواء التهديدات” وإلقاء قنابل المولوتوف وتنفيذ عمليات انتحارية أو تفجير سيارات، إلى السيطرة على الأراضي – على الأقل لبعض الوقت.
مثلما كان بن لادن يجهل حدود الإرهاب، أثبت البغدادي أنه جاهل عندما يتعلق الأمر بإدارة “دولة”، ناهيك عن “الخلافة” التي تهدف إلى احتلال دول أخرى دون امتلاك طائرة مقاتلة واحدة
عندما يتعلق الأمر بالمرحلة التالية من الصراع، فإن كل الأنظار تتجه نحو أفغانستان. تحتفظ “القاعدة” و”داعش” وعدد من الجماعات الأخرى بعملياتها في هذه البلاد، لكن الصراع الأكبر سيكون بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان، اللذين يتصارعان من أجل السيطرة على البلاد في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة. في مطلع عام 2020، توصلت الولايات المتحدة و”طالبان” إلى اتفاق سلام في الدوحة تعهدت فيه الأخيرة “بمنع أي جماعة أو فرد، بما في ذلك “القاعدة”، من استخدام أراضي أفغانستان لتهديد أمن الولايات المتحدة وحلفائها”.
هل ستفي طالبان بوعدها؟
استناداً إلى أوراق أبوت آباد (بن لادن)، لم يكن كل أعضاء “طالبان” متساوين في نظر “القاعدة”، التي لطالما اشتبهت في أن بعض فصائل طالبان كانت تسعى إلى التقارب مع الولايات المتحدة. في وقت مبكر من عام 2007، كتب عطية عبد الرحمن (يشار إليه عموماُ باسم عطية)، الذي أشرف على الاتصالات والعلاقات الخارجية لـ”القاعدة” إلى بن لادن يقول إن “طالبان تنأى بنفسها عن القاعدة لتفادي تهمة الإرهاب”. وفي عام 2010، أعرب الظواهري عن قلقه في رسالة إلى بن لادن من أن طالبان تبدو “مستعدة نفسياً” لقبول صفقة من شأنها أن تجعل “القاعدة” عاجزة. وبسبب النزعة الفئوية لطالبان منذ 11 أيلول (سبتمبر)، قد يكون من الصعب على قادة الجماعة فرض الامتثال لشروط اتفاقهم مع الولايات المتحدة.
قد يتبين أن نزعة طالبان مُشكلة مُستعصية على الحل بالنسبة للولايات المتحدة. لكن تجارب “القاعدة” بعد 11 أيلول (سبتمبر) تشير إلى أن الفصائل نفسها ستعقد الأمور بالنسبة للإرهابيين الذين يبحثون عن ملاذ في أفغانستان. حتى النظام المُضيف المتعاطف لا يضمن الملاذ الآمن. تعلم بن لادن هذا الدرس بطريقة صعبة، واكتشف البغدادي لاحقاً أن السيطرة على الأرض كانت أصعب. لكن واشنطن وحلفاءها أدركوا (أو على الأقل ينبغي عليهم أن يدركوا) أن حرباً مفتوحة على الإرهاب لا طائل من ورائها، وأن سياسة مكافحة الإرهاب الناجحة يجب أن تُعالج المظالم السياسية المشروعة التي تدعي “القاعدة” أنها تناصرها – على سبيل المثال، الولايات المتحدة تدعم الديكتاتوريات في الشرق الأوسط.
لا يمكن لواشنطن أن تدعي النصر الكامل على “القاعدة” وأمثالها، الذين يحتفظون بالقدرة على أنهم مصدر الإلهام بالنسبة للهجمات القاتلة، وإن كانت صغيرة الحجم. ومع ذلك، أوضح العقدان الماضيان مدى ضآلة ما يمكن أن تأمل الجماعات الجهادية في تحقيقه. لديهم فرصة أفضل بكثير لتحقيق الحياة الأبدية في الجنة من جعل الولايات المتحدة تركع على ركبتيها.
(*) الترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز” عدد أيلول/ تشرين الأول.
(**) الجزء الأول من الدراسة؛ الجزء الثاني من الدراسة بالعربية.