في زاويته الأسبوعية في “السفير”، كتب الزميل نهاد المشنوق في نيسان/أبريل 2008 مقالة بعنوان “الطريقة الميقاتية”. في مستهلها، توقف عند الأصل الديني لآل ميقاتي في طرابلس والشمال اللبناني، فـ”فالمواقتة” هم العلماء الذين كلّفوا منذ مئات السنين بمسؤولية توقيت الصلاة في المسجد الكبير في عاصمة الشمال. أضاف أن “الشيخ نجيب” يُحيل نجاحه إلى الفضل الإلهي ودعاء والدته وإلى شراكة أسرية ليس خافياً أن “الشقيق الأكبر” طه ميقاتي يلعب دوراً متقدماً فيها.
عندما يتقدم أحد “الحريصين” سائلاً ميقاتي كيف قرر أن يُغامر بقبول التكليف في هذا “التوقيت”، وهو يدرك أن ثمة تعقيدات ستطيح بمهته، مصدرها الأقربون والأبعدون على حد سواء، يجيب:”إذا وفقني الله، فهذه إرادته وإذا قررت الإعتذار، فهذه أيضاً مشيئة الله.. ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”.
هكذا يختلط الواقعي بالرباني، حتى أن أركان الحلقة الضيقة المحيطة بميقاتي، وهم من العائلة الميقاتية بالدرجة الأولى، ليسوا قادرين على الإلمام بمعطيات الرجل، داخلية كانت أم خارجية ولا بسر توقيته. يسري ذلك على موسم التأليف المستحيل، فكيف قَبِلَ بأصل المهمة؟
لنبدأ من عند التكليف. من أعطى الإشارة الدولية لميقاتي للترشح إلى رئاسة الحكومة قبل شهر من الآن، كان يريده أن يتولى المهمة قبل تكليف مصطفى أديب ثم بعد إعتذاره مباشرة. حسابات سعد الحريري بالعودة إلى السلطة هي التي حتّمت تأخير التكليف وصولاً إلى التوقيت الحالي. ميقاتي صار في صلب اللعبة. لم يعد يرغب بالجلوس في مقاعد الإنتظار. “اللاعب الإحتياطي” رتبة تخطاها، أقله من لحظة صدور نتائج إنتخابات العام 2018 وتكريس حيثيته الشمالية، وتحديداً الطرابلسية. قبل حوالي الشهر، رشّحه الفرنسيون وزكّاه المصريون، فتبناه نادي رؤساء الحكومات.. ولاقاهم حزب الله ونبيه بري ووليد جنبلاط لبنانياً. في الساعات الأولى، لم يتردد جبران باسيل في القول إنه “حلف رباعي جديد”.. وهذه المرة أيضاً ضد ميشال عون!
لولا أن أتت لحظة 17 تشرين القاتلة محلياً ثم لحظة العقوبات الأميركية القاتلة دولياً. لحظتان لا يمكن أن تنتجا أفضل من خطاب رئيس التيار الوطني الحر في جلسة البرلمان اللبناني الأخيرة. لم يكن ينقصه سوى إرتداء ثياب المقاومين مع “رينجر” و”طاسة” عسكرية
إنقضى شهر على التكليف. لا يريد ميقاتي أن يوحي بالندم. “رجل السياسة إذا طُلب منه أن يحاول.. ليس عليه أن يتردد”. الرغبة الميقاتية بقطف اللحظة السياسية واضحة، لكن الرغبة شيء والقدرة شيء آخر. ليس الرجل طليق اليدين. من جهة، هو أسير “البيئة”، وتحديداً نادي رؤساء الحكومات. رباعي يكتسب شرعيته من حضور إثنين لا ثالث لهما: سعد الحريري ونجيب ميقاتي. الإثنان يُفترض أن مصالحهما السياسية لا تلتقي إلا مؤقتاً. أي وريث سياسي لرفيق الحريري يُدرك ـ قبل المقتلة وبعدها ـ أن آل ميقاتي هم الخصم الأول للزعامة الحريرية. الإلتقاء الآني لا يحجب حقيقة الإفتراق السياسي الموضوعي بين الإثنين. من جهة ثانية، من يجلس قبالة ميقاتي هو ميشال عون. الجنرال ـ الرئيس ومن خلفه منظومة فكرية طائفية وسياسية معظم زوادتها من زمن ما قبل الطائف. زدْ على ذلك، وريث سياسي يريد إتباع “الخط” ذاته إلى بعبدا. الخط التاريخي ليس بالضرورة مستقيماً. من حفل تخرج ميشال عون الضابط في الحربية برعاية فؤاد شهاب الآتي لتوه رئيساً في خريف العام 1958 وصولاً إلى تتويجه رئيساً في خريف 2016. فعلها الضابط فؤاد شهاب.. ماذا يمنع أن يفعلها غيره. وبالفعل، آلت إلى إميل لحود ثم ميشال سليمان، فلماذا لا تؤول إلى “الزعيم المسيحي الأول”؟
راهن ميشال عون وكسب الرهان في الحادي والثلاثين من تشرين الأول/أكتوبر 2016. أصغر قائد للجيش اللبناني وأكبر رئيس للجمهورية إحتاج إلى فاصل سياسي ـ زمني جعل الوصول إلى محطة الرئاسة متأخراً حوالي الثلاثين سنة (1988ـ 2016). كل رصيد الجنرال طار في اللحظة التي قرر فيها أن يجيّر وصوله للتوريث. أقصر ولاية رئاسية في تاريخ لبنان. جنرال الوقت صار داهماً. ما هو متاح في حياة الجنرال ليس مضموناً بعده. التوريث ثم التوريث. العدة السياسية موجودة. هل من منتج سياسي وطائفي أفضل من “حقوق المسيحيين”. شعار ـ رافعة. تحالفات محلية وإقليمية تصب في مصلحة الوريث وتقلق الآخرين.. لولا أن أتت لحظة 17 تشرين القاتلة محلياً ثم لحظة العقوبات الأميركية القاتلة دولياً. لحظتان لا يمكن أن تنتجا أفضل من خطاب رئيس التيار الوطني الحر في جلسة البرلمان اللبناني الأخيرة. لم يكن ينقصه سوى إرتداء ثياب المقاومين مع “رينجر” و”طاسة” عسكرية.. حتى كاد أن يُخجِل أعضاء كتلة الوفاء للمقاومة ممن كانوا يرتدون بدلات رسمية أنيقة جداً!
“أعظم دولة في العالم، ماذا بإمكانها أن تفعل مع شخص مثلي؟ بإمكانها أن تقتلَه، ولكن إذا كان لا يخافُ من الموت، تتساوى هي وآخر قنّاص في الشارع”. هذا هو ميشال عون الذي “لا ينكسر”، مهما كان حجم الإغراءات والضغوط و”الدول”. يتماهى باسيل مع خطاب “عدم الإنكسار”.. ولكن ببراغماتية مفرطة وفاجرة. عندما كان سعد الحريري وجبران باسيل يجلسان في أحضان بعضهما البعض، في زمن التسوية الرئاسية، إنتفى خطاب “الحقوق” و”الإبراء”. لاحقاً، بعد سقوط التسوية، عُدنا إلى خطاب التحشيد الطائفي. شيطنة هذه الطائفة أو تلك.
هكذا يأتي نجيب ميقاتي إلى المهمة المستحيلة. ما بعد إعتذاره، خلال عشرة ايام على أبعد تقدير، لن يكون كما قبله. يكفي أن يُحرِّم المسلمون السنة بمرجعياتهم الروحية ـ السياسية أي تكليف جديد. فراغ دستوري مفتوح
الصراع السياسي في لبنان منذ 2005 يتصل بعناوين كثيرة. الموقع الإقليمي للبنان. الصيغة. الكل يخاف من الكل. الكل يشكو من الكل.. البلوكات السنية والشيعية والدرزية شبه مقفلة. بالمقابل، إرتضى المسيحيون، ولحسابات رئاسية وإنتخابية، أن يكونوا وقوداً لمعارك الآخرين. ثمة نقلة مارونية جديدة بإفتراض القدرة على إمساك ساحات الآخرين الطائفية. تصوّروا مثلاً أن سمير جعجع يراهن منذ اليوم على إكتساح أصوات المسلمين السنة في الشمال في إنتخابات 2022. هذا الكلام ليس تهريجاً سياسياً. هذه خلاصات “الحكيم” أمام مناصريه في الآونة الأخيرة!
بالنسبة إلى ميشال عون. الخسارة واقعة. لم يبق من عهده سوى سنة واحدة. لا يعنيه من يكون مُكلّفاً أو رئيساً للحكومة. رُفِعَ الدعم أم لم يُرفع. بقي إحتياطي من عملة صعبة أم تبدد. هو لا ينكسر. قال لسعد الحريري، بلسان أطول مستشاريه في لحظة 17 تشرين: إما أنت وجبران معاً في الوزارة أو لا تكون حكومة برئاستك. بهذا المعنى، تمكن “الجنرال” من هزيمة ليس رئيس تيار المستقبل وحسب، بل كل داعمي الحريري من فرنسا إيمانويل ماكرون دولياً إلى مصر عبد الفتاح السيسي عربياً إلى نبيه بري و”نادي الرؤساء” لبنانياً. الأنسب هو أن تستمر حكومة حسان دياب.. ولذلك حساباته الدستورية والسياسية الدقيقة.
هكذا يأتي نجيب ميقاتي إلى المهمة المستحيلة. إعتقد أنه أقدر من غيره على تدوير الزوايا. ما بعد إعتذاره، خلال ايام على أبعد تقدير، لن يكون كما قبله. يكفي أن يُحرِّم المسلمون السنة بمرجعياتهم الروحية ـ السياسية أي تكليف جديد. فراغ دستوري مفتوح. حتى لو خطر على بال “الجنرال” أن يُسمي طارق الخطيب رئيساً للحكومة، لن يجرؤ الأخير على قبول التكليف أو تمضية دقيقة واحدة في إقليم الخروب!
“بماذا يمكن أن يُهددني هؤلاء”؟ من الطبيعي أن يسأل “الجنرال” نفسه مثل هذا السؤال، وجوابه بديهي وبسيط جداً: أنا ميشال عون. غير قابل للإنكسار. لا أحد يخيفني لا بالدول ولا بالجيوش ولا بالطوائف.
وهل يتحمل ما يمكن أن يترتب على الإعتذار وإنفلات سعر الدولار ومعه الأسعار وفقدان مواد حيوية أساسية من الأسواق؟
حتماً يتحمل. إنه ميشال عون. هي لعبة قمار لا بل اللعبة الأخيرة. إما أن يربح ويربح معه الوريث أو يخسر الإثنان معاً. الوقت ضيق. سنة واحدة. لن يُسلّم السلطة التنفيذية في عهده إلى خصومه: نبيه بري وسعد الحريري وحتى وليد جنبلاط. يريد أن يملك حق “الفيتو”: الثلث المعطل. ثمة تعيينات إدارية لا بد منها في مفاصل الدولة في السنة الأخيرة للعهد. إذا كانت قُدرته على فرض من يريد في الإدارة ولا سيما حاكمية مصرف لبنان بات مستحيلة، إلا أنه لن يتنازل عن حق “الفيتو”، آخر خرطوشة دستورية يملكها.. أي شيء عكس ذلك هو الأمية السياسية بحد ذاتها. أقصى الطموح أن يُزج برياض سلامة في الحبس. “الرجل بات مطلوباً دولياً ولبنانياً”. يقولها “الجنرال”.. وكل من تواطأ معه مصيره السجن، أكان كبيراً أم صغيراً.. ومن إختاره وسيطاً على خط تواصله مع ميقاتي، هو نفسه “الحارس القضائي” (كارلوس أبو جودة) الذي كان مُرشحاً أن يحل محل حاكم مصرف لبنان المركزي، لو إنعقدت الجلسة الشهيرة لمجلس الوزراء قبل حوالي الأسبوعين. في هذه الحالة، كيف يرتضي ميشال عون أن يكون “ظل الحاكم” وزيرا جديداً للمالية، وبوكالة غير قابلة للعزل من نبيه بري الذي لطالما كان يشتهي إقفال بيوتات سياسية جنوبية من صنف آل الخليل تحديداً!
وحده كبير المستشارين لا يشعر بوطأة الأزمة ولا بمعياري “العيب” و”الحرام”، وإلا كيف يتجرأ على القول لهذا الوزير أو ذاك من وزراء حكومة حسان دياب “تصرفوا على قاعدة أن حكومتكم باقية حتى نهاية العهد”!
لا يشي سلوك ميشال عون بالتراجع عما يعتقده حقاً له. يشتهي أن يُسمي جميع الوزراء المسيحيين. يعتبر ذلك حقاً دستورياً. إذا تدلع سليمان فرنجية فلتكن حكومة من دونه. يسري ذلك على القوميين، فإن إحتجوا على حجب حقيبة الإقتصاد عن مرشحهم سعادة الشامي نأتي بغيرهم. يناور الجنرال ولا يتنازل. لماذا يحق للشيعة تسمية وزراءهم ولماذا يفتي رئيس الحكومة بأسماء الوزراء السنة، وهكذا هو حال الدروز مع وليد جنبلاط وطلال إرسلان. بالمقابل، لماذا لا يحق للرئيس الماروني القوي أن يسمي وحده الوزراء المسيحيين. بأي صفة يُسمي رئيس الحكومة وزراء مسيحيين ولا يسمَح للآخرين أن يشاركوه بتسمية نصف وزير من طائفته؟
خطاب “حقوق المسيحيين” يقود إلى النتيجة ذاتها. الثلث المعطل. لن يتخلى ميشال عون عنه. تم تذليل الكثير من العقبات في الإتجاهين. كان ميقاتي ينتظر اللحظة الأخيرة لإختبار جملة قالها له أحد النواب الحاليين في اليوم الأول للتكليف: “إذا كنت مراهناً على ولادة حكومة من دون ثلث معطل لجبران باسيل ما تعذب حالك”!
كل ما نشهده بعنوان فلان إلتزم أو كذب أو وافق ثم إنقلب لا يمت بصلة إلى جوهر الموضوع. كل ما يقال عن خلاف حول حقيبة من هنا أو إسم من هناك. هذا الضابط أو ذاك في الداخلية. هذه القاضية أو زوجها في العدلية. هذا العبقري الإقتصادي أو ذاك في الإقتصاد هو مجرد تحايل على جوهر الموضوع: الثلث المعطل. يُدرك رئيس الجمهورية أن هناك قراراً دولياً بعدم منحه هذا الثلث، ناهيك عن إعتبارات داخلية حدّد سقفها نادي رؤساء الحكومات بشراكة كاملة مع رئيس مجلس النواب الذي يشترط للمشاركة عدم حصول أي طرف وحده على الثلث المعطل.
وماذا يفيد ثلث معطل في لحظة لبنانية مأساوية؟
عندما ينزل ميقاتي من سيارته في القصر الجمهوري، يندفع ضابط أو موظف مدني إلى تكرار السؤال نفسه على مدى 13 جلسة بينه وبين ميشال عون: “خلصونا. متى ستشكلون هذه الحكومة يا دولة الرئيس. أوضاعنا لم تعد تحتمل”. حتماً مثل هكذا همس لا بد وأن يصل إلى مسامع رئيس الجمهورية. تُردّده أمامه بناته أسبوعياً. وكما كانت والدة ميشال عون تقول له دائماً: “يا بنيّ هناك أشياء القيام بها حرام، وهناك أشياء أخرى القيام بها عيب”، ينبري من يقول لـ”الجنرال” من أهل بيته: “عيب” و”حرام” أن لا تتألف حكومة اليوم قبل الغد. إياك ان تفوّت لحظة نجيب ميقاتي. وحده كبير المستشارين لا يشعر بوطأة الأزمة ولا بمعياري “العيب” و”الحرام”، وإلا كيف يتجرأ على القول لهذا الوزير أو ذاك من وزراء حكومة حسان دياب “تصرفوا على قاعدة أن حكومتكم باقية حتى نهاية العهد”!
على مسافة قصيرة جداً من الإعتذار، هل إختار الميقاتي مواقيته الحكومية بدقة هذه المرة؟
لا يبدو أن الفرصة الحكومية الثالثة ستؤول إليه كما كان يعتقد ويطمح. برغم ذلك، يريد أن يربح بالتكليف كما بالإعتذار.. هل للباخرة الإيرانية صلة بالمآلات الحكومية؟ أبداً. الجواب بالمعلومات وليس بالتحليل. لننتظر ونرَ.. حمى الله لبنان وكل من نُحبهم في هذا البلد غير الأمين.. للبحث صلة.