اللحظة التي صدمت فيها رحلة البوينغ 767 “أميركان ايرلاينز” الرقم 11، البرج الشمالي لمركز التجارة العالمي في نيويورك في الساعة 8:46 من صباح 11 أيلول/سبتمبر 2001، كانت فاصلاً بين مرحلتين في تاريخ الولايات المتحدة. في اليوم التالي للهجمات شعرت أميركا بأن هيبة القوة العظمى التي إنتصرت في الحرب الباردة، تتطلب تغييراً جذرياً في التعاطي مع العالم، في حين أن العدو هنا لم يكن يتخذ “ملامح دولة”، وفق ما يستنتج إيشان ثارور في مقال بصحيفة “الواشنطن بوست”، وإنما جماعات متشددة تحمل فكراً جهادياً يستمد قوته من الإعتقاد بأن من هزم الإتحاد السوفياتي يستطيع أن يهزم أميركا.
وانطلق جورج دبليو بوش من “الحرب على الإرهاب” ليصوغ عالماً كما يراه المحافظون الجدد الذين تلقفوا لحظة 11 ايلول/سبتمبر، ليفرضوا رؤيتهم على العالم غير آبهين بدروس التاريخ، وذلك إعتماداً على الآلة العسكرية الضخمة التي تتمتع بها الولايات المتحدة. صانع الإستراتيجيات في الحزب الجمهوري الأميركي كارل روف قال رداً على تحذير دول مثل فرنسا والمانيا وروسيا والأمم المتحدة وقتذاك من الذهاب إلى حرب في العراق:”نحن إمبراطورية الآن، وعندما نتحرك نفرض حقائقنا الخاصة”.
بعد عشرين عاماً، ثَبُتَ ان حرب العراق فتحت أبواب الجحيم على الشرق الأوسط، ودفعت أميركا غالياً ثمن المغامرة غير المحسوبة للمحافظين الجدد، فأخفقت في إستيلاد الديموقراطية، وسلّمت العراق لأحزاب دينية، وساهمت في تعزيز النفوذ الإيراني بالمنطقة، علماً أن العراق لم يكن يملك أسلحة دمار شامل ولا دخل له في هجمات 11 أيلول/سبتمبر، وإنما أراد بوش فرض رؤيته للشرق الأوسط إنطلاقاً من البوابة العراقية.
في العشرين عاماً الماضية، بعثرت أميركا العالم وقسّمته إلى شطرين “من ليس معنا.. فهو ضدنا”، قالها بوش في مستهل حروبه، تماماً على غرار قسمة أسامة بن لادن للعالم إلى “فسطاطين”
بعد عشرين عاماً على لحظة 11 ايلول/سبتمبر، أخفقت أميركا في إعادة بناء العراق وها هي تسلم أفغانستان لحكم طالبان، الحركة الإسلامية المتشددة، وتجمع قواتها وترحل على عجل من هناك.
كان شعار بوش عندما شنّ غزواته، أن الهدف منها “جعل العالم أكثر أماناً”. لكن هل العالم اليوم فعلاً أكثر أماناً؟ حُكماً لا. فالتنظيمات الجهادية لا تنتشر اليوم في العراق وسوريا وأفغانستان فقط، والذين يستلهمون أفكار “القاعدة” و”داعش” منتشرون في منطقة الساحل بأفريقيا والصومال ونيجيريا وموزمبيق وجنوب الفيليبين وجنوب تايلاند وأندونيسيا، وثمة خلايا نائمة و”ذئاب منفردة” في أوروبا وأوستراليا ونيوزيلندا.
بعد عشرين عاماً على 11 أيلول/سبتمبر، ضحايا “الحرب الأميركية على الإرهاب” أكثر بكثير ممن قتلوا على أيدي التنظيمات المصنفة أميركياً وعالمياً على لوائح الإرهاب. و”القاعدة”، التي نبت منها “داعش” و”جبهة النصرة” قبل أن تصير “هيئة تحرير الشام”، لم تكن موجودة في العراق وسوريا قبل الغزو الأميركي للعراق.
في العشرين عاماً الماضية، بعثرت أميركا العالم وقسّمته إلى شطرين “من ليس معنا.. فهو ضدنا”، قالها بوش في مستهل حروبه، تماماً على غرار قسمة أسامة بن لادن للعالم إلى “فسطاطين”.. والنتيجة كانت موت مئات الآلاف وتشريد الملايين وتوقف دول عن الوجود، ولم تنتج ولا ديموقراطية واحدة.
وبعد عشرين عاماً، صار هدف أميركا إخراج رعاياها فقط من ظلال “إمارة” طالبان في أفغانستان. وطموح أميركا أن تضم الحركة نساء في حكومتها وأن تتسامح مع الأقليات وأن لا تؤوي “القاعدة” وأن تحارب “داعش”، وأن لا تسمح باتخاذ الأراضي الأفغانية منطلقاً لهجمات ضد الأراضي الأميركية.
أميركا بعد عشرين عاماً أضعف مما كانت قبل شن حروبها. دول أخرى في هذه الغضون نمت وكبرت بينما الولايات المتحدة غارقة في الحروب.
أميركا كقوة عظمى، بدأت تفقد الكثير من سحرها على الآخرين، وأنها في تراجع لا يُعزى فقط إلى فشل سياساتها الخارجية، وإنما بسبب تصدعات الداخل أيضاً والإنقسامات الحادة في المجتمع الأميركي
فجأة، إستفاقت واشنطن قبل عامين على أن الصين باتت خطراً وتحدياً لا يضاهيان، فقرر دونالد ترامب ومن بعده جو بايدن، التصدي للتنين الصيني الذي بات قوة إقتصادية تمد أذرعها في مختلف أنحاء العالم، من أميركا اللاتينية إلى أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط والخليج.
إذن، لم يعد ثمة حاجة أمام التحدي الزاحف من الصين، للبقاء في أفغانستان ولا في العراق ولا لنشر قوات أميركية في مناطق غير المحيط الهادىء وآسيا. إنها إستراتيجية جديدة تقلق الحلفاء قبل الخصوم.
لكن ما لا يتنبه إليه المسؤولون الأميركيون أن أميركا كقوة عظمى، بدأت تفقد الكثير من سحرها على الآخرين، وأنها في تراجع لا يُعزى فقط إلى فشل سياساتها الخارجية، وإنما بسبب تصدعات الداخل أيضاً والإنقسامات الحادة في المجتمع الأميركي. غالبية الجمهوريين لا تزال تعتقد بما يقوله لهم ترامب، من أن بايدن “سرق” الفوز في الإنتخابات الرئاسية العام الماضي. ومشهد إقتحام “الرعاع” لمبنى الكونغرس في 6 كانون الثاني/يناير الماضي من أجل منع تثبيت نتائج الإنتخابات، تؤكد أن أميركا تعاني في الداخل أيضاً بفعل تصاعد الإنقسامات الثقافية وتجدد الحرب الأهلية بشكل مستتر. يجب إمعان النظر في رد الفعل الحاد للجمهوريين على إزالة تمثال الجنرال الجنوبي إبان الحرب الأهلية روبرت لي في مدينة ريتشموند بولاية فيرجينيا قبل يومين. ترامب تمنى لو كان تسنى لهذا الجنرال قيادة الجيش الأميركي في أفغانستان “لكنا إنتصرنا منذ سنين عديدة”.
ما تعيشه أميركا من إنقسامات في الداخل يجعل الولايات التي تضم غالبيات جمهورية، ترفض الإغلاق أو التلقيح ضد كورونا، لأن ترامب لم يكن يحبذ هذين الإجراءين أول الأمر للتصدي للجائحة.
زبدة القول، إن أميركا بعد 20 عاماً على 11 ايلول/سبتمبر، ليست على ما يرام.