احتلت وتصدعت دول وتقدمت أخرى لملء الفراغ، طرحت سيناريوهات تفكيك وتقسيم وتجزئ ما هو مجزأ، جرت انتفاضات وثورات وصلت إلى طرق مسدودة بالاختطاف، أو الإجهاض.
بدا العالم العربى كمن يواجه مصيره فى التيه دون بوصلة ترشده، ما أن يتبدى أمل حتى يجهض، وما أن يتلقى ضربة حتى تلحقها أخرى.
لم يخطر ببال، مهما جمح به خياله، ما حدث فى (11) سبتمبر/أيلول (2001)، ولا طرأ على فكر ما قد يليه من تداعيات.
بتوقيت متزامن استهدفت بطائرات انتحارية رموز الإمبراطورية الأمريكية الاقتصادية والعسكرية والسياسية، برجا التجارة العالمى فى نيويورك، ومقر البنتاجون، وكادت أن تضرب البيت الأبيض نفسه.
تبدت فى ذلك المشهد مشاعر متناقضة، بعضها تعاطفت مع الضحايا المدنيين الذين لقوا حتفهم دون ذنب، أو جريرة، تحت الأنقاض، وكان صوتها خافتا، وبعضها تملكتها الشماتة في ما لحق بالقوة العظمى الأولى، وكان صوتها مدويا فى أنحاء العالم العربى.
تحت الصدمة تبلورت استراتيجية أمريكية جديدة عَزت الكراهية المتصاعدة للنظم الحليفة التى تدعمها واشنطن.
كانت تلك إجابة على سؤال: «لماذا يكرهوننا؟»، الذى طرأ فى أعقاب أحداث (11) سبتمبر/أيلول (2001).
هكذا أحيلت دواعى الكراهية إلى النظم العربية الموصومة بالاستبداد والفساد، التى تحظى بدعم وإسناد الإدارات الأمريكية، وأعفيت الاستراتيجيات والسياسات من أية مسئولية، لا روجعت، ولا عدلت، ولا اعتذرت عن خطاياها فى الشرق الأوسط.
برغم عشوائية الانسحاب من أفغانستان إلا أنه خط استراتيجى ثابت ومتوافق عليه سوف يعقبه فى مدى منظور انسحاب آخر من العراق
العكس تماما هو ما حدث، توحشت القوة وأفلت عيارها، احتلت دولتين على التوالى: أفغانستان والعراق باسم محاربة الإرهاب والتطرف فى الأولى، ونزع أسلحة الدمار الشامل من الثانية.
كانت النتائج الأخيرة أقرب إلى الهزائم الاستراتيجية، فلا «تنظيم القاعدة»، الذى خطط ونفذ هجمات سبتمبر تقوضت أفكاره وجففت منابعه، برغم النيل من حياة زعيمه «أسامة بن لادن”، فقد خرجت من تحت عباءته بالانشقاق جماعات جديدة أكثر تشددا وعنفا أخطرها «تنظيم الدولة ــ داعش».
عادت إلى السلطة فى أفغانستان «حركة طالبان» حليفته القديمة، التى وفرت الحماية والإسناد والدعم لهجمات سبتمبر.
كان ذلك تعبيرا عن فشل ذريع للاستراتيجية الأمريكية، التى أخذت تتحدث ببرجماتية زائدة عن تغييرات جوهرية طرأت على بنية أفكار وتوجهات «طالبان»، أو أنها لم تعد إرهابية وفق تصنيفها السياسى المعتمد!
أمريكا الحالية ليست أمريكا قبل عشرين سنة، لم تعد قوة عظمى مهيمنة على مقادير العالم عقب نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتى السابق.
هذا زمن انقضى، فأدوارها تراجعت وأوزانها تصدعت داخل التحالفات الغربية، وأزماتها الداخلية تفاقمت تحت وطأة انقساماتها السياسية والعرقية.
ثم إن اليمين المحافظ الجديد، الذى هيمن بأفكاره وتصوراته ومشروعاته فى الشرق الأوسط على إدارة الرئيس الأمريكى «جورج دبليو بوش»، تراجعت بفداحة سطوته.
لقد وجد اليمين المحافظ الجديد، الذى يوصف أركانه بأمراء الظلام، فى هجمات (11) سبتمبر/أيلول فرصته السانحة لإنفاذ أفكاره ومشرعاته بالعمل العسكرى المباشر لإعادة هندسة خرائط العالم العربى تفكيكا وتقسيما.
هناك الآن ميل استراتيجى أمريكى يتوافق عليه الديمقراطيون والجمهوريون للتخفف من أعباء التمركزات العسكرية فى الخارج خاصة فى الشرق الأوسط وتركيز الاهتمام بالشرق الأسيوى حيث الصراع على المستقبل مع الصين.
برغم عشوائية الانسحاب من أفغانستان إلا أنه خط استراتيجى ثابت ومتوافق عليه سوف يعقبه فى مدى منظور انسحاب آخر من العراق.
تجرع العراق مرارة الهزيمة واستغرقته احتراباته الطائفية وسيناريوهات تقسيمه وتوحش جماعات العنف والإرهاب فى جنباته، لكن الهزيمة شملت بالوقت نفسه العالم العربى كله.
ما الذى سوف يحدث فى اليوم التالى للانسحاب الأمريكى المتوقع؟
بعد احتلاله مباشرة كتب «توماس فريدمان» على صفحات الـ«نيويورك تايمز»: «أن السبب الحقيقى لضرب العراق هو أنه كان لابد من ضرب أحدهم فى العالم العربى بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر/أيلول، ولكن العراق كان أسهل».
بعد عشرين سنة من الوعود المخاتلة والتجارب المجهضة والتجاذبات العرقية والمذهبية ما يزال طلب الديموقراطية والدولة المدنية الحديثة يتردد صداه دون يأس فى التيه العربى
لا أسلحة دمار شامل، ولا إيواء منظمات إرهابية، ولا تحرير ولا ديموقراطية، فكل هذه كانت محض ذرائع.
كان تفكيك سوريا هدفا ثانيا، لكنه أفشل.
وكانت مصر الجائزة الكبرى فى نهاية المطاف، كما قالوا طويلا وكثيرا، لكنها بقيت متماسكة بقوة إرثها التاريخى.
لم يكن ممكنا الادعاء بأن «صدام حسين» هو الديكتاتور الوحيد.
طرح وقتها سؤال: من التالى؟
كان ذلك داعيا للاعتقاد بأن النظم العربية الحليفة استهلكت أدوارها ووجوهها، وأصبح وجودها عبئا استراتيجيا مخيفا على حقوق المواطنين العرب فى العدل والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان فأمن الحاكم فوق أمن المواطن، وبقاء العروش فوق حقوق المواطنين.
بدأ التفكير بصوت أمريكى مسموع فى تغييرها وإبداء شىء من الاعتذار العلنى على دعم الديكتاتوريات العربية لعقود متواصلة.
بخطوات متسارعة بدأت نظم عديدة فى العالم العربى تبحث عن مخارج لأزماتها الداخلية بشىء من الاستجابة لما تطلبه وتضغط عليه الإدارة الأمريكية، التى أصبحت قواتها العسكرية متمركزة فى قلب المشرق العربى.
بتعبير الرئيس اليمنى السابق «على عبدالله صالح» فإنه: «لا بد أن نحلق لأنفسنا قبل أن يحلق الآخرون لنا».
كانت تلك استجابة شكلية لوعود الديمقراطية، غابت عنها أية شفافية تمنع التزوير فى صناديق الاقتراع، كما غابت فيها أية منافسات ندية.
على الطريق نفسه مضى الرئيسان التونسى «زين العابدين بن على» والمصرى «حسنى مبارك».
ما هو هزلى فى السياسة لقى مصيره المحتوم، جرت ثورات وانتفاضات لم يكتب لها أن تصل إلى أهدافها، اختطفت فى أول الطريق، أو أدخلت الانفاق المعتمة الاحترابات الأهلية والحروب بالوكالة.
يستلفت الانتباه فى مراجعة ما جرى قدر الرهان الأمريكى على تيار الإسلام السياسى لملء فراغ السلطة عند إطاحة حلفائها السابقين.
أفضى ذلك الرهان إلى اضطرابات وصدامات فى أنحاء مختلفة من العالم العربى خشية أشباح الدولة الدينية.
بعد عشرين سنة من الوعود المخاتلة والتجارب المجهضة والتجاذبات العرقية والمذهبية ما يزال طلب الديموقراطية والدولة المدنية الحديثة يتردد صداه دون يأس فى التيه العربى.
(*) بالتزامن مع “الشروق“