“فورين أفيرز”: سقوط الأسد يُغيّر وجه المنطقة.. سوريا دولة فاشلة!

إن نهاية نظام الأسد تضع سوريا على حافة أن تصبح دولة فاشلة، وستكون عنصراً أساسياً لتغيير كل موازين القوى في الشرق الأوسط، والعالم أجمع ربما. وعلى الدول الغربية والخليجية التواصل مع "القادة الجُدد" في دمشق وتوجيههم نحو حكم براغماتي، إن لم يكن ديموقراطياً، لمنع وقوع المزيد من المآسي وعدم الإستقرار في المنطقة، بحسب "فورين أفيرز".  

على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان، بدا وكأن نظام آل الأسد يتمتع بقبضة منيعة على سوريا بفضل الاعتماد على قوة جهاز أمني هائل وحلفاء أقوياء مثل روسيا وإيران وحزب الله، صمد في وجه انتفاضات متعددة، بل ونجا من حرب أهلية مروعة قُتل فيها مئات الآلاف وأصبحت أجزاء كبيرة من البلاد خارج السيطرة. وحتى بعد أن عوقبت حكومته ونُبذت إقليمياً ودولياً، منذ العام 2011، استطاع الرئيس السابق، بشار الأسد، أن يستعيد بعض مكانته (جامعة الدول العربية أعادت سوريا إلى عضويتها، ودول عربية وخليجية وغربية بدأت تعيد علاقاتها مع النظام).

ولكن في النهاية، بدا نظام الأسد أشبه ببيت من ورق. ففي فجر يوم الأحد الماضي (8 كانون الأول/ديسمبر)، تابع الملايين من الشعب السوري؛ ومعهم العالم أجمع؛ مشهداً أشبه بالسوريالي، عندما دخلت قوات “هيئة تحرير الشام” المعارضة، بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، إلى العاصمة دمشق، وأعلنت “إسقاط نظام الأسد”، وذلك بعد ساعات قليلة فقط من السيطرة على حمص، عقب سيطرتها على باقي المدن الكبرى في غضون أيام معدودة من دون مقاومة تُذكر من قبل قوات النظام (…).

ثمة تسلسل مذهل للأحداث سمح لـ”هيئة تحرير الشام” بإسقاط النظام: ما تعرض له حزب الله على مدى 14 شهراً من المواجهات المفتوحة مع إسرائيل وتأثير ذلك على سوريا وعلى النفوذ الإيراني في المنطقة؛ انهيار المحادثات بين أنقرة ودمشق حول الإصلاحات التي كانت مطلوبة من حكومة الأسد. أضف إلى ذلك أن الجيش السوري منهكٌ ومحبطٌ معنوياً نتيجة الواقع الاقتصادي المتهالك والظروف التي مرَّ بها طوال السنوات الـ13 الماضية. كما أن روسيا (الحليف الإستراتيجي الأقوى) منشغلة بحربها المكلفة في أوكرانيا. ويبدو أن الهجوم الخاطف لـ”هيئة تحرير الشام” حصل في البداية على ضوء أخضر من تركيا، التي كانت تحمي “المتمردين” منذ فترة طويلة في معقلهم في إدلب (شمال غرب). لكنها كانت في الأساس حملة سورية محلية.

تحول تكتوني في المنطقة

استولى المتمردون على دمشق وباقي مدن سوريا في أقل من عشرة أيام ومن دون أي تدخل أجنبي تقريباً (…)، ما يمثل تحولاً تكتونياً في الشرق الأوسط يترك القوى الإقليمية والدولية الكبرى في حيرة من أمرها. فقبل بضعة أسابيع فقط، كانت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تعمل مع دولة الإمارات على رفع العقوبات المفروضة على سوريا “مقابل تحييد الأسد نفسه عما يجري في قطاع غزَّة ولبنان والإبتعاد عن إيران ومنع وصول شحنات الأسلحة إلى حزب الله”، وفقاً لمصادر متعددة تحدثت إلى وكالة “رويترز”.

لكن سقوط نظام الأسد يظهر أيضاً مدى ترابط الصراعات المختلفة في المنطقة، وبطرق لا يمكن التنبؤ بها. كما يظهر ما يمكن أن يحدث عندما يتم إهمالها أو تطبيعها. كان كلٌ من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي والحرب الأهلية السورية يشتركان في هذا المصير: الحرب التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة رداً على عملية “طوفان الأقصى”، جبهة إسناد الفلسطينيين من قبل جماعة أنصار الله اليمنية (الحوثيون) في البحر الأحمر، حرب إسرائيل على لبنان رداً على مساندة حزب الله لغزَّة، وتبادل الهجمات بين إيران وإسرائيل.

إسرائيل اجتاحت أراضٍ سورية.. تركيا اكتسبت اليد العُليا في النتيجة الحالية.. روسيا تعاني من خسارة مدمرة.. ولكن يبدو أن إيران هي الخاسر الأكبر مع انهيار استراتيجيتها “الدفاعية الأمامية” واحتمال تعرض برنامجها النووي لهجوم إسرائيلي

الزلزال الأخير الذي شهدته سوريا أنهى حقبة نظام الأسد بعد عقود طويلة من الحكم (…). وتُظهر الاضطرابات المتسارعة؛ التي لم يكن أي طرف خارجي مستعداً لها؛ حماقة فكرة الحفاظ على الوضع الراهن (الذي لا يُطاق) من أجل تجنب الصراعات المزمنة في الشرق الأوسط! وبرغم أنه ما يزال هناك العديد من الأسئلة حول كيف ستدير “هيئة تحرير الشام” البلاد – وما إذا كانت ستكون قادرة على التعامل مع مختلف المجموعات المتنافسة على النفوذ – يبدو أن نهاية الأسد ستُغير كل موازين القوى في المنطقة.

الحرب التي نسيها الغرب

تعود جذور حملة “هيئة تحرير الشام” ضد الأسد إلى الحرب الأهلية السورية، التي بدأت عام 2011 (في خضم ما بات يُعرف بـ”انتفاضات الربيع العربي”) ولم تنته أبداً. فحركة الاحتجاجات ضد النظام التي بدأت “سلمية” ما لبثت أن تحولت إلى مسلحة وانخرطت فيها مجموعات مختلفة من المتمردين، منها “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) و”تنظيم القاعدة”، ثم سُرعان ما تحولت إلى صراع دولي، حيث أرسلت قوى خارجية ــ إيران، وبعض دول الخليج، وروسيا، وتركيا والولايات المتحدة على وجه الخصوص ــ الأسلحة والأموال إلى الجماعات المسلحة المفضلة لديها (…).

وكان لهذا الصراع، الذي استمر أكثر من عشر سنوات، تداعيات دولية بعيدة المدى. فقد أدّى وصول أكثر من مليون لاجئ سوري إلى أوروبا، في عام 2015، إلى تسريع صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في العديد من البلدان الأوروبية، ما دفع الحكومات الأوروبية إلى تعزيز علاقاتها مع بعض قادة المنطة لوقف تدفق اللاجئين، مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس التونسي قيس سعيّد. كما حظيت العديد من هذه الأحزاب بتأييد دمشق والكرملين، وهي فائدة إضافية لكلا النظامين. كانت الحرب أيضاً بمثابة انقلاب كبير لموسكو، التي استخدمت تدخلها الناجح في عام 2015 لدعم نظام الأسد في توسيع نفوذها العسكري، وتعزيز وجودها في المياه الدافئة (قاعدتها الوحيدة في طرطوس)، فضلاً عن سيطرتها على قاعدة حميميم الجوية بالقرب من اللاذقية (…).

وبرغم أن التحالف المتنامي بين روسيا والصين يعود في كثير من الأحيان إلى بداية الحرب في أوكرانيا، عام 2022، فإن العلاقات الوثيقة بين البلدين بدأت في الواقع مع الحرب السورية، عندما استخدمت بكين حق النقض الفيتو بالتوازي مع موسكو في مجلس الأمن. وبرغم أن دور الصين في سوريا كان ضئيلاً، فإن تصويتها وخطابها الداعم للنظام السوري كان وسيلة للرد على الهيمنة الأميركية والجهود الرامية إلى تحدي الحكومات ذات السيادة، وبالتالي تقوية التقارب بين بكين وموسكو في ما سيصبح لاحقاً شراكة “بلا حدود”.

إقرأ على موقع 180  بايدن من "الجافلين" إلى "الهاوتزر".. رداً على صمود روسيا إقتصادياً

وبحلول العام 2018، كان المراقبون الخارجيون قد تمكنوا من إدارة الحرب السورية واحتوائها إلى حد كبير. ومنذ صيف عام 2024، أدّت الحرب الإسرائيلية على لبنان والهجمات ضد إيران إلى إضعاف حلفاء الأسد الأقوياء (طهران وحزب الله). في الوقت نفسه، كان أردوغان، وهو خصم الأسد اللدود، يفقد صبره إزاء رفض سوريا التوصل إلى تسوية والمصالحة مع تركيا. حتى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الحليف الاستراتيجي الوثيق، كان محبطاً بسبب عدم رغبة نظام الأسد في إيجاد تسوية مع المعارضة.

قبل بضعة أسابيع فقط، كانت إدارة بايدن والإمارات يعملان على رفع العقوبات عن سوريا مقابل تحييد الأسد نفسه عن ما يجري في غزَّة ولبنان والإبتعاد عن إيران ومنع وصول شحنات الأسلحة إلى حزب الله

في غضون ذلك، تطورت “الهيئة” من مكانتها كفرع سوري لتنظيم “القاعدة” إلى جماعة إسلامية تتنكر للجهادية العابرة للحدود الوطنية، وتركز على مقاتلة نظام الأسد. وفي انتظار الوقت المناسب، عقدت “الهيئة” تحالفات مع جماعات أخرى، وخفَّفت من نبرة خطابها المتشدد، وحصلت على الحماية من تركيا، وأنشأت “حكومة مدنية” في منطقة سيطرتها (إدلب) حتى عندما كانت تحكم بقبضة من حديد. وخلال كل تلك السنوات، لم يغفل المتمردون هدفهم الأساس: عزل الأسد.

في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، انهارت المفاوضات بين دمشق وأنقرة ــ بشأن تهيئة ظروف مناسبة تسمح للاجئين السوريين في تركيا بالعودة إلى ديارهم بأمان ــ وهو الحدث الذي ربما دفع أردوغان إلى عدم الوقوف في طريق “هيئة تحرير الشام” عندما قرّرت الخروج من إدلب (…).

في الوقت نفسه، لم يُبدِ أي مواطن سوري استعداده للتضحية من أجل النظام. ولعل الأهم من ذلك أن “هيئة تحرير الشام” كانت تعلم جيداً أن القوات السورية المنهكة لوجستياً ومعنوياً لن تُبدي أكثر من مقاومة رمزية. وقد تبين أنها كانت على حق. فقد اختفت القوات السورية في معظمها. وعندما شاهد سكان درعا والسويداء (جنوب البلاد) التقدم السريع الذي أحرزه عناصر “الهيئة” شمالاً، انتفضوا وساهموا في طرد قوات النظام من مناطقهم.

ولعل الأمر الأكثر إثارة للصدمة كان انهيار الدعم الدولي للأسد. ففي 6 كانون الأول/ديسمبر، سحبت روسيا قواتها ودبلوماسييها. ومع تضاؤل ​​الخيارات، سحبت إيران أيضاً ميليشياتها المتحالفة، مدركة أن القتال من أجل الأسد سيكون بلا جدوى. وفي الشرق، أبرمت “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد)؛ التي يهيمن عليها الأكراد؛ والمجالس العسكرية التي يقودها العرب صفقات مع قوات النظام للاستيلاء على المناطق التي يسيطرون عليها في دير الزور، وأهمها معبر البوكمال وقطع خطوط الإمداد من إيران والعراق. ومع اقتراب المتمردين من دمشق، انسحبت القوات الروسية والإيرانية وقوات النظام المتبقية أيضاً من مواقعها في جميع أنحاء الشمال الشرقي.

ابتهاج وتوتر

إن حالة عدم اليقين تخيم على مستقبل سوريا والمنطقة. فالاشتباكات مستمرة في الشمال بين الجماعات المسلحة المدعومة من تركيا وقوات “قسد”. وفي حين يشعر معظم السوريين بالابتهاج، بما في ذلك ملايين اللاجئين في أنحاء مختلفة من العالم الذين بدأوا يبحثون عن طريق للعودة إلى ديارهم، يشعر العديد من الأكراد الذين طردتهم تركيا سابقاً من مناطقهم في الشمال السوري، بالقلق والخوف على مصيرهم. فقد أعلن الجنرال مظلوم عبدي، قائد “قسد”، أنه يعمل بالتنسيق مع “الهيئة”، لكن الأكراد وتركيا سيحتاجون إلى التوصل إلى حل وسط يحقن الدماء- داخل وخارج حدود سوريا- وهذا تحدٍ هائل بحد ذاته.

في غضون ذلك، ما يزال الآلاف من مقاتلي “داعش” يقبعون في سجون “قسد”. وإذا تمكن هؤلاء من الفرار، أو إذا عاودت خلاياهم الظهور، فسوف يشكلون عائقاً كبيراً لأي حكومة يمكن أن تتشكل ما بعد الأسد، وللمنطقة ككل. وعلى نحو مماثل، اجتاحت إسرائيل بالفعل المنطقة منزوعة السلاح على طول الحدود مع سوريا، وشنَّت غارات مدمرة على مستودعات الأسلحة ومواقع إنتاج الأسلحة الكيميائية المشتبه بها. وفي الوقت الحالي، اكتسبت تركيا اليد العُليا في النتيجة الحالية، وعانت روسيا، في تراجعها المتسرع، من خسارة مدمرة. ولكن يبدو أن إيران هي الخاسر الأكبر، مع انهيار استراتيجيتها “الدفاعية الأمامية”، واحتمال تعرض برنامجها النووي لهجوم إسرائيلي في أي لحظة.

وفي خضم هذا التوازن المتغير بسرعة بين القوى الخارجية، سيواجه السوريون معركة شاقة لتقاسم السلطة في الداخل. فـ”الهيئة” التي صنَّفتها واشنطن كـ”جماعة إرهابية” لا تحظى بشعبية كبيرة في موطنها الأصلي (إدلب)، وزعيمها أحمد الشرع (الجولاني) حريص على اتخاذ موقف تصالحي، ليس فقط مع الأقليات بل وأيضاً مع مسؤولي النظام السابق. والسؤال حول ما إذا كان هذا ما سيحصل، وما إذا كانت الجماعات المتمردة وفصائل المعارضة الأخرى ستحذو حذوها (…).

الآن أصبحت سوريا على وشك أن تصبح دولة فاشلة. فإلى جانب إرث سنوات من العقوبات الدولية (قانون “قيصر” الذي ستتم مراجعته آخر هذه السنة) وسوء الإدارة الاقتصادية، لا يمكن استبعاد احتمال اندلاع حرب أهلية جديدة والمزيد من عدم الاستقرار في جميع أنحاء المنطقة.

إن منع وقوع المزيد من المآسي في سوريا يتطلب من الدول الغربية ودول الخليج على وجه الخصوص، التواصل مع القادة الجُدد في دمشق وتوجيههم نحو حكم براغماتي، إن لم يكن ديموقراطياً. فبعد سقوط نظام الأسد، لا يتوقع الشعب السوري أقل من ذلك من البلدان التي سمحت لسنوات عديدة باستمرار معاناة بلادهم على حسابها.

– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.

(*) ناتاشا هول، من “برنامج الشرق الأوسط” في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية. وغوست هيلترمان، مدير “برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” في “مجموعة الأزمات الدولية”.

 

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  ثورة لبنان وتفاحة تشي غيفارا (2)