برغم مشاركة وفود العديد من الدول المتعاطفة أو المؤيدة للدول المنتصرة فى مؤتمر الصلح، إلا أن المحادثات الرئيسية قد اقتصرت على بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة بالأساس بينما انسحب وفد اليابان لعدم تماس نقاط المفاوضات بمصالحه المباشرة، أما محاولة الإمبراطورية العثمانية إرسال وفد لحضور المؤتمر فقد قوبل بالرفض بل وتم طرد الوفد من باريس!
***
لعبت الولايات المتحدة دورا هاما فى هذا المؤتمر وأصر الرئيس الأمريكى ويلسون على طرح مبادئه الأربعة عشر الشهيرة على مائدة المفاوضات والتى تمحورت حول حق تقرير المصير للشعوب المستعمرة، إلا أن هذه المبادئ تم تفريغها من محتواها لاحقا، ونتج عن المؤتمر المعاهدات التالية:
أولاً، معاهدة فرساى، والتى تم توقيعها مع ألمانيا والتى كانت قد تحولت من النظام الملكى إلى النظام الجمهورى بعد الهزيمة فى الحرب، وبموجب هذه الاتفاقية تم تركيع ألمانيا عن طريق فرض تعويضات باهظة عليها للدمار الذى نجم عن الحرب بالإضافة إلى الاستيلاء على أسطولها التجارى والبحرى والجوى ومنعها من تنظيم جيش يتجاوز عدد جنوده مائة ألف جندى، بالإضافة إلى إلغاء نظام التجنيد الإجبارى وتدمير عدد من قواعدها العسكرية، بل وقامت الدول المنتصرة بالاستحواذ على ثروتها الصناعية والكثير من مواردها الطبيعية بما فيها مناجم الفحم فى إقليم السار الذى أعطى لفرنسا حق التنقيب فيه بشكل حصرى لمدة خمس سنوات، مع استيلاء فرنسا وبريطانيا على المستعمرات الألمانية بأفريقيا!
ثانياً، معاهدة سان جيرمان، والتى تم توقيعها مع النمسا والتى أقرت تجزئة الإمبراطورية النمساوية ــ المجرية حيث تم فصل النمسا عن المجر، كما تفككت القوميات والعرقيات التى كانت تسيطر عليها الإمبراطورية، فقامت جمهورية تشيكوسلوفاكيا وكذلك مملكة الصرب والكروات والسلوفينيين (لاحقا يوغسلافيا)، كما تم منع النمسا من اتخاذ أى قرارات مستقلة فى سياستها الخارجية ولاسيما مسألة الاتحاد مع ألمانيا.
ثالثاً، معاهدة تريانون؛ والتى أقرت بانفصال المجر وأجبرت الأخيرة على التخلى عن قطاع كبير من أراضيها لكل من النمسا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا وكذلك تم حرمانها من مينائها الوحيد على البحر وهو ميناء مدينة رييكا (حالياِ فى كرواتيا).
رابعاً، معاهدة نويــسورــ سين؛ والتى بموجبها تم إعادة بلغاريا إلى حدود ما قبل عام ١٩١٤ وخسرت العديد من أراضيها لصالح كل من اليونان ومملكة الصرب، كذلك فقد تم الاستيلاء على أسطولها الحربى وتحديد جيشها بـ٢٠ ألف جندى فقط وإجبارها على دفع تعويضات كذلك للدول المنتصرة!
كانت الحرب العالمية الأولى وتسوياتها بمثابة إعادة رسم لخريطة العالم، وخاصة فى أفريقيا وغرب آسيا، بالإضافة قطعا إلى أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط
خامساً، معاهدة سيفر؛ والتى تم توقيعها مع الدولة العثمانية وبموجبها سيطرت الدول المنتصرة على منطقة المضايق وكذلك خضعت إسطنبول لإمرتهم، بالإضافة إلى حصول إيطاليا على منطقة نفوذ فى الأناضول، وكذلك خسر العثمانيون مجموعة من الجزر لصالح اليونان، كما حصلت أرمينيا على استقلالها من تركيا، بينما خسرت الدولة العثمانية كل نفوذها فى منطقة الشرق الأوسط، حيث تم إخضاع الأخيرة للسيطرة الفرنسية ــ البريطانية! كذلك تم إجبار السلطان العثمانى محمد وحيد الدين على دفع تعويضات وتحمل نفقات جيوش الحلفاء مع تحديد الجيش العثمانى بـ١٥٠ ألف جندى، وكما نعلم كانت هذه هى آخر صفحات الإمبراطورية العثمانية، قبل أن ينهيها مصطفى كمال أتاتورك ويحولها إلى تركيا التى نعرفها حاليا!
***
كانت الحرب العالمية الأولى وتسوياتها بمثابة إعادة رسم لخريطة العالم، وخاصة فى أفريقيا وغرب آسيا، بالإضافة قطعا إلى أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط! فقد تم إعادة تقسيم الشرق الأوسط بين فرنسا وبريطانيا وفقا لاتفاقية سايكس ــ بيكو الشهيرة فى ١٩١٦ والتى تم تعديلها مرة أخرى بعد نهاية الحرب، كذلك فقد ظهرت العديد من الدول مثل فنلندا واستونيا ولاتفيا وليتوانيا ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، بالإضافة إلى بولندا وأيسلندا!
كذلك فقد كان التطور الأبرز الناتج عن الحرب هو إنشاء عصبة الأمم باعتبارها أول منظمة دولية سياسية ليتغير من بعدها شكل التنظيم والقانون الدولى وشكل العلاقات الدولية للأبد. كانت العصبة بالأساس اقتراحا من الرئيس الأمريكى ويلسون والذى حصل بسببه ضمن أسباب أخرى على جائزة نوبل للسلام، لكن تطور المقترح بواسطة لجنة تم تشكيلها خصيصا لكتابة ميثاق العصبة. وقد شهدت هذه المرحلة من الصياغة فى باريس الكثير من الخلافات بين الدول المعنية إلى أن صدر الميثاق فى شكله النهائى ليؤكد على مبادئ الأمن الجماعى وعدم التسليح وعدم اللجوء للقوة فى حل الخلافات الدولية. أسست العصبة ٤٤ دولة ليس من بينها الولايات المتحدة!
وقد تكونت عصبة الأمم من الجمعية العامة التى يمثل فيها كل الأعضاء، بالإضافة إلى المجلس التنفيذى الذى مثل الدول النافذة فقط من الموقعين على الاتفاقية، ولاحقا قام المجلس التنفيذى بإنشاء أول نظام قضائى دولى عبر ما عُرف بالمحكمة الدائمة للعدل الدولى وكانت المحكمة تتألف من ١٥ عضوا (١١ قاضيا رئيسيا و٤ نواب للقضاة) بالانتخاب من الجمعية العامة، ورغم أن المحكمة فى الفترة من ١٩٢٢ وحتى ١٩٤٦ قامت بالنظر فى عشرات القضايا التى كانت محلا للنزاع الدولى، إلا أن معظم قرارات المحكمة كانت استشارية وتعوزها قوة التنفيذ، وهو ما يراه كثيرون أنه السبب الرئيسى فى فشل المحكمة بل وعصبة الأمم بأثرها!
***
كانت هناك ثلاث مشاكل رئيسية واجهت عصبة الأمم؛ أهمها عدم انتظام العضوية حيث دخلت بعض الدول وخرجت من العصبة ثم عادت مرة أخرى مما أظهر عدم الاكتراث الدولى بالعصبة وخاصة فى ظل عدم انضمام بعض الدول القوية مثل الولايات المتحدة! كذلك فقد عانت العصبة من عدم وجود قوة دولية لتنفيذ قراراتها، وأخيرا فقد عانت عصبة الأمم أيضا من أن الدول الأعضاء متى تعارضت مصالحهم مع قرارات العصبة فقد قرروا دائما الانتصار لمصالحهم الذاتية!
وهكذا كانت تعانى العصبة من الضعف دائما، ورغم انضمام العديد من الدول لعضويتها لاحقا ــ مصر كانت آخر دولة تحصل على عضويتها فى ١٩٣٧ قبل قيام الحرب العالمية الثانية ــ فقد كانت قيام الحرب الثانية بمثابة إعلان الفشل الرسمى للعصبة قبل أن تنتهى رسميا وتظهر الأمم المتحدة التى نعرفها حاليا بديلا لها.
ملحوظة: تم الاعتماد على مصدرين فى كتابة هذه المقالة وهما: كتاب «مؤتمر باريس ١٩١٩ــ١٩٢٠ وما لحقه من أحداث» والمحرر بواسطة سورين أرهير وتودور روشو والصادر عن أكاديميى كامبريدج للنشر فى ٢٠٢٠. وكذلك ورقة بعنوان «صعود وهبوط عصبة الأمم» بواسطة دى ال كروسمان والصادرة عن أكاديمية كندا الحربية (مجهول سنة النشر، ومتاحة على موقع الأكاديمية).
(*) بالتزامن مع “الشروق“