بناء على طلب رئيس الجمهورية المستند إلى نتائج الانتخابات البرلمانية، سوف تحكم إيطاليا وتسيّر شئونها وتمثلها في المحافل الدولية امرأة. كذلك، وإن جرت عملية تنفيذ تكليف الرئيس بدون عقبات غير محسوبة، فإن السيدة ميلوني رئيسة الوزراء المكلفة سوف تشكل أول حكومة يمينية متطرفة منذ سقوط حكم بنيتو موسوليني خلال الحرب العالمية الثانية.
بالفعل لا أذكر أن حكومة متطرفة يمينا أو يسارا حكمت إيطاليا. تداول على قصر الحكم على امتداد حوالي ثمانين عاما الوسط بتياريه؛ يسار الوسط ويمين الوسط. لم يحدث أن وصل للحكم في أي يوم حزب متطرف في يمينيته أو في يساريته. أذكر أن الحزب الشيوعي الإيطالي، وكان من أقوى أحزاب أوروبا لم يفلح في تشكيل حكومة ائتلافية مع حزب الديموقراطية المسيحية أو غيره، برغم أنه كان يستحوذ عادة على نسبة الربع من مجمل نتائج معظم الانتخابات الإيطالية خلال سنوات ازدهار الشيوعية الأوروبية، وهي الانتخابات التي أثمرت تشكيل حوالي سبعين حكومة خلال هذه المدة التي أعقبت الحرب الثانية. أسجل هذه النسبة (نسبة الربع) لأنها نفسها التي حصل عليها حزب “أخوة إيطاليا” بقيادة السيدة ميلوني في الانتخابات المنتهية لتوها.
كان هناك أيضاً وباستمرار حزب يميني متطرف ولم ينكر ميوله الفاشية، هو أيضا لم يصل إلى الحكم إلا ربما ضمن ائتلاف يقوده حزب من أحزاب الوسط. كانت جورجيا ميلوني، منذ صغرها عضوة نشيطة في شبيبة هذا الحزب الفاشي ثم اختارها السنيور برلسكوني وزيرة في إحدى الحكومات التي شكّلها قبل سنوات.
***
ميلوني حقّقت لحزبها نصراً لم تحقق مثله مارين لوبين. ومع ذلك تشابهتا في حجم الحذر في صياغة الخطاب السياسي، وبخاصة في القضايا المتعلقة بمستقبل العلاقة بالاتحاد الأوروبي وفي الموقف من روسيا ومن الدعم لأوكرانيا
تابعت في الأيام الأخيرة بعض الاجتماعات الجماهيرية التي نظمها حزب أخوة إيطاليا. تكرر ظهور ثلاثة أشخاص بصفة تكاد تكون منتظمة. كانت جورجيا بطبيعة الحال صاحبة الصورة الأكثر تردداً بين صور الأشخاص الثلاثة. كانت فرصة لدراسة متأنية لقدرتها على استخدام ما نطلق عليه في الدبلوماسية “لغة الجسد”. اهتمامي مشتق من معرفتي بأذواق الإيطاليين وحساسيتهم الفائقة ضد الابتذال والاستهتار برغم صيتهم الذائع في كثرة استخدام الجسد أثناء الكلام كالأيدي مثلاً لتأكيد منطوق الخطاب.
قارنت بين جورجيا ميلوني ومارين لوبين المرشحة لمنافسة الرئيس إيمانويل ماكرون في آخر انتخابات رئاسية فرنسية، وهي كما هو معروف زعيمة حزب الجبهة القومية في فرنسا. قارنت بين أدائهما مراعياً الاختلاف البين بين الثقافة السياسية في فرنسا والثقافة السياسية للإيطاليين والاختلاف الكبير بين نظامي الحكم في البلدين. المهم أن ميلوني حقّقت لحزبها نصراً لم تحقق مثله مارين لوبين. ومع ذلك تشابهتا في حجم الحذر في صياغة الخطاب السياسي، وبخاصة في القضايا المتعلقة بمستقبل العلاقة بالاتحاد الأوروبي وفي الموقف من روسيا ومن الدعم لأوكرانيا ومن الحرب الدائرة هناك وفي مدى التمسك بالتزامات العضوية في الحلف الأطلسي.
لا أنكر أن ظهور ميلوني المتكرر بحكم الظرف الانتخابي أضاف إلى المسرح السياسي الإيطالي مرحاً كان ينقصه بسبب أحوال القلق التي سادت البلاد تحت ضغط الأزمة الاقتصادية واستمرار تردي مستوى وتصرفات الطبقة السياسية. اشتهرت انتخابات إيطاليا البرلمانية بارتفاع نسبة الاشتراك فيها على عكس الانتخابات في معظم دول أوروبا. تتعدد التفسيرات لهذا الوضع، منها الزعم بأن المرشحين في انتخابات إيطاليا ينفقون هم أو أحزابهم ببذخ لا يعادله إنفاق مرشحين في دول أخرى. من التفسيرات أيضا أن الساحة السياسية الإيطالية ساحة متجددة بأشخاصها. الأسماء السياسية نادراً ما تستمر طويلاً في إيطاليا.
والملفت للنظر في هذه الانتخابات تحديداً كان انخفاض نسبة المشاركين فيها انخفاضاً كبيراً (حوالي عشرة بالمائة) وإن احتفظت النسبة الكلية بمكانتها باعتبارها من أعلى نسب المشاركة الانتخابية في الدول الأوروبية.
***
الصورة الثانية التي لفتت انتباهي، وربما انتباه كثيرين غيري، كانت لشخص غابت صورته لفترة طويلة عن أنظار الرأي العام في موطنه الأصلي، أقصد الولايات المتحدة الأمريكية. إنها صورة ستيف بانون أهم مستشاري الرئيس السابق دونالد ترامب والمُنظر الأهم في الغرب لمنظومة الشعبوية المنتشرة كالنار في هشيم أوروبا المنهكة سياسياً وأمريكا المتقلبة أيديولوجياً. بدأ اهتمامي بهذا الرجل والنشرة التي كان يصدرها منذ بدأت أهتم بتطورات الحملة الانتخابية التي جاءت بترامب إلى البيت الأبيض، وبخاصة لغة الخطاب السياسي للمرشح ترامب ومفردات عقيدته السياسية. كان أسلوب ستيف بانون طاغياً وكذلك كان نفوذه خلال الشهور الأولى من ولاية ترامب، أي قبل أن يختلف الرجلان تحت ضغط ممثلي البيرقراطية التقليدية والمؤسسات الكبيرة وما راح يعرف بالدولة العميقة. جميع هؤلاء تصدوا لسيطرة بانون على عقل دونالد ترامب إلى أن حققوا نجاحهم بإخراجه من البيت الأبيض.
الصورة الثانية كانت لشخص غابت صورته لفترة طويلة عن أنظار الرأي العام في موطنه الأصلي، أقصد الولايات المتحدة الأمريكية. إنها صورة ستيف بانون أهم مستشاري الرئيس السابق دونالد ترامب والمُنظر الأهم في الغرب لمنظومة الشعبوية المنتشرة كالنار في هشيم أوروبا المنهكة سياسيا وأمريكا المتقلبة أيديولوجيا
هذه المرحلة من نشاط بانون، أي المرحلة الأمريكية كانت معروفة للجميع. ما لم يكن معروفاً، وما يزال غير شائع في الأوساط الإعلامية، هو تفاصيل النشاط الذي يقوم به ستيف بانون في دول أوروبا. كان أول ظهور له بعد إخراجه من الساحة الأمريكية في انتخابات جرت في هولندا على ما أذكر، وبعدها في المملكة المتحدة ثم النمسا وفرنسا وغيرها وانتهاء بالانتخابات الإيطالية الأخيرة. تابعت صوره ولم أفلح تماماً في متابعة تأثيره على سير الحملات الانتخابية وتوجيهها نحو زيادة سيطرة اليمين المتطرف على مجريات الحياة السياسية في القارة الأوروبية. لم يفاجئني تصريح أدلى به في جلسة خاصة صديق أوروبي تابع لبعض الوقت نشاط بانون في بلاده سعياً لتحقيق هذا الهدف. جاء في حديث الصديق ما يحمل معنى أنه تأكد من أن ستيف بانون يُعبّر في أكثر من موقف عن ثقته بأن التحالف مع الرئيس فلاديمير بوتين ضرورة حيوية لاستمرار وجود اليمين الأوروبي المتطرف نوعاً ما ولضمان تحييد “الآثار المدمرة” التي يسعى اليسار لفرضها على مجتمعات الدول الغربية، من هذه الآثار والسياسات والتشريعات أو من أهمها تقنين حق المثليين في التزاوج والحق المطلق في الإجهاض والسماح بهجرة الملونين وغيرها كثير. لا شك عندي في نجاح بانون المتزايد في الارتباط بجماعات وأحزاب اليمين وبخاصة تياراته المتطرفة ومنها التيار الذي تمثله وتدافع عنه السيدة جورجيا ميلوني. لقد اختارت جورجيا كلمات ثلاث شعاراً لحملتها اليمينية، الله والعائلة والوطن، هي نفسها الأسبقيات التي يُجدّد اليمين الأمريكي المتطرف تمسكه بها استعدادا لحربه المزمع شنها في الانتخابات النيابية الأمريكية القادمة ضد المهاجرين الملونين والمثليين والليبرالية الأوروبية والعداء المتصاعد ضد روسيا.
***
وجود برلسكوني في حكومة تقودها جورجيا يصنع ثقة بها وبحكومتها في دوائر المال والأعمال المتشككة في قدرتها الاستمرار في تنفيذ سياسات حكومة السنيور دراجي الإصلاحية والملتزمة سياسات منطقة اليورو
الصورة الثالثة المتكرر ظهورها في حملة جورجيا ميلوني الانتخابية كانت لرئيس الوزراء الأسبق السنيور برلسكوني. جدير بالتذكير مرة أخرى أن جورجيا كانت وزيرة في حكومة شكلها قبل حوالي عشرة أعوام. أتصور أن ظهوره المتكرر كان يعني واحدا أو أكثر من الأمور التالية. أولاً؛ عرفان جورجيا بجميله حين اختارها وكانت في الثلاثينيات من عمرها وزيرة. كانت بدون خبرة ولكن سمعتها اليمينية المتطرفة كانت كافية لحصد تأييد واسع بين الشباب. ثانيا؛ أراد برلسكوني أن يكون موجودا في تحالف حكم تقوده جورجيا ليتأكد من أن إيطاليا لن تخذل روسيا وسوف تعتدل إن اضطرت حكومتها لمسايرة سياسات المفوضية الأوروبية والحليف الأمريكي التي تعاقب موسكو. ثالثا؛ وجود برلسكوني في حكومة تقودها جورجيا يصنع ثقة بها وبحكومتها في دوائر المال والأعمال المتشككة في قدرتها الاستمرار في تنفيذ سياسات حكومة السنيور دراجي الإصلاحية والملتزمة سياسات منطقة اليورو.
***
كعادة الائتلافات الحكومية في إيطاليا لا يخلو ائتلاف اليمين الذي شكلته جورجيا ميلوني من بذور خلافات جاءت معها إلى الحكم. يبرز بشكل خاص اختلافات الرأي الشديدة بينها وبين حليفها المؤتلف معها السنيور سالفيني. أتصور أن خلافا بسيطا حول ما تفرضه التزامات تجاه بروكسل أو تجاه واشنطن وحلف الناتو أو تجاه قوى ضغط جماعات داعمة لحقوق المرأة، أي خلاف حول التزام أو أكثر من هذه الالتزامات يكفي حسب تقاليد الحكم في روما ليتسبب في انفراط حكومة اليمين المتطرف بقيادة الحسناء صاحبة الابتسامة الخلابة جورجيا ميلوني والعودة إلى الناخبين.