“الأيباك” هي اللجنة الأمريكية – الإسرائيلية للشؤون العامة، وهي أكبر لوبي يستخدمه يهود الولايات المتحدة للتأثير على السياسة العامة الأميركية بهدف دعم مصالح إسرائيل. في فترة بنيامين نتنياهو تلقّت “الأيباك” انتقادات لاذعة من قِبَل أصوات لامعة في الحزب الديمقراطي مثل بيرني ساندرز والسيناتور إليزابيث بيرنر، وقد أثّرت هذه الانتقادات على مكانتها داخل الولايات المتحدة، بسبب انجرارها وراء الأجندة اليمينية المُتطرّفة لنتنياهو وتحالفاته العمياء مع الجمهوريين، خصوصاً في ظلّ وجود إدارة دونالد ترامب في البيت الأبيض.
سنقوم هنا باستعراض خارطة اللوبيات الداعمة لإسرائيل في الولايات المتحدة في العام 2021، والتركيز على التصّدعات التي طالت علاقة “الأيباك” مع الحزب الديمقراطي الأميركي الذي يقود الإدارة الأميركية الحالية، بسبب سياسات نتنياهو خلال العقد المنصرم.
منذ تأسيسها في بدايات الخمسينيات من القرن الماضي، تحوّلت “الأيباك” إلى أكبر لوبي مُنظّم ومُناصر لإسرائيل؛ إذ تعتبر نفسها المتحدّث باسم كافة المجموعات اليهودية في الولايات المتحدة، كالسياسيين؛ المنظّمات؛ مجموعات الضغط؛ مراكز الأبحاث؛ الـ (think tanks) والطلاّب. لا تُعتبر “الأيباك” منظّمة يهودية، لكن معظم أعضائها من الجالية اليهودية في الولايات المتحدة وتحظى بشبكة علاقات تشمل مئات مؤسسات القاعدة، وجيشاً ضخماً من المتبرّعين الأثرياء اليهود وغير اليهود، ولديها حوالي 100 ألف عضو، و17 مكتباً منتشرة في أرجاء الولايات المتحدة، وتمتلك قدرة عالية جداً على تجنيد الأموال وتوظيفها سياسياً داخل الولايات المتحدة، لذلك؛ يعمل كل مُرشّح للرئاسة الأميركية جاهداً لإلقاء خطاب أمام “مؤتمر أيباك السنوي”، والتقرّب من المنظّمة لدعم حملته الانتخابية مُقابل وعود بتقديم مصالح إسرائيل في الشرق الأوسط. أفضل مثال على تغلغل الأيباك في النخبة السياسية العليا في الولايات المتحدة هو عندما استطاعت جمع تواقيع 464 عضو كونغرس أميركي في العام 2011 لحثّ الولايات المتحدة على عرقلة التصويت الأُممي بشكل يحول دون انضمام فلسطين كعضو كامل في الأمم المتحدة.
لدى “الأيباك” حوالي 100 ألف عضو، و17 مكتباً منتشرة في أرجاء الولايات المتحدة، وتمتلك قدرة عالية جداً على تجنيد الأموال وتوظيفها سياسياً داخل الولايات المتحدة، لذلك؛ يعمل كل مُرشّح للرئاسة الأميركية جاهداً لإلقاء خطاب أمام “مؤتمر أيباك السنوي”
تُعرّف “الأيباك” نفسها على أنها لوبي حيادي في ما يخصّ علاقتها مع الحكومات الإسرائيلية وكذلك مع الإدارات الأمريكية المختلفة. فيما يخصّ إسرائيل؛ فهي ملتزمة بدعم ومناصرة إسرائيل بصرف النظر عن الأجندة الخاصة للحكومة الإسرائيلية، سواءً أكانت يسارية أو يمينية، أو ائتلافية. أمّا في يخصّ الولايات المتحدة، فقد نجحت “الأيباك” عبر عقود طويلة في تعريف نفسها على أنها لوبي يقف على مسافة آمنة من الحزبين الكبيرين، الديمقراطي والجمهوري؛ حيث أنها حرصت على عدم احتساب نفسها على أي حزب منهما، وربّما لهذا السبب بالتحديد، تدعم “أيباك” كل سياسات إسرائيل، لكنّها تُصرّ دائماً على تبنًي خطاب حلّ الدولتين، على الأقل في بياناتها وليس في ممارساتها، حرصاً منها على عدم إزعاج أعضاء الكونغرس الديمقراطيين الذي يُشكّلون جزءاً أساسياً من شبكة علاقاتها في القمرة العُليا للنخبة السياسية الأمريكية.
ما حصل في فترة حكم نتنياهو الطويلة نسبياً، هو أن أجندته اليمينية المُتطرّفة، أدّت إلى قيامه بمُعاداة الحزب الديمقراطي، فقد قاد حملة لمُناصرة ترامب، الأمر الذي دفع “الأيباك”، التي تُؤيد أي حكومة إسرائيلية بصرف النظر عن أجندتها إلى الانجرار خلفه. وعندما كان جو بايدن نائباً للرئيس باراك أوباما، قاد نتنياهو حملة شرسة ضدّ الاتفاق النووي الإيراني الذي وقّعه أوباما، وقد شملت الحملة هجوماً يمينياً “نتنياهويا” ضدّ كل الديمقراطيين، و”الأيباك” المُلتزمة بدعم سياسات الحكومات الإسرائيلية، قامت بمُناصرة نتنياهو في حملته هذه، الأمر الذي أغضب العديد من الديمقراطيين الذين اعتبروها مُنحازة سياسياً للخط الجمهوري. في السنوات الأخيرة، هناك تصور داخل النخبة السياسية الأميركية بأن “الأيباك” أصبحت لوبي يهودي مُنحاز إلى حزب الليكود في إسرائيل من جهة، وإلى الجمهوريين والمُحافظين في الولايات المتحدة من جهةٍ أخرى. أمّا الآن، وبعد خروج نتنياهو وترامب من المشهد السياسي، تُحاول “الأيباك”، وربما بجهود من بينيت، ترميم هذه التصدّعات.
لكن على ما يبدو، فإن بينيت الذي سيبذل جهوداً لإعادة تصويب علاقات “الأيباك” بالديمقراطيين، خصوصاً في ظلّ إدارة بايدن، لن يستميت في ذلك؛ فالأيباك لم تعُد الوجهة الأولى لإسرائيل في عصر الانزياح الحادّ تجاه اليمينية والشعبوية والتطرّف الذي يأخذ شكلاً مُحافظاً ودينياً. صحيح أن “الأيباك” تاريخياً شكّلت حصان طروادة صهيونياً داخل الإدارات الأميركية المُتعاقبة، وأعادت تشكيل سياسات أمريكا الداخلية والخارجية بما يخدم الأجندة الإسرائيلية، إلا أنها لم تعُد أكبر لوبي مُناصر لإسرائيل من داخل الولايات المتحدة اليوم. حيث برز إلى اليمين من “الأيباك” منذ عقد تقريبًا ما يُسمّى باتحاد المسيحيين لأجل إسرائيل (أو ما يُطلق عليه كوفي أو CUFI)؛ ويستند هذا الاتحاد إلى قاعدة عريضة من الأفنجيليين، وبالتحديد من المسيحية الصهيونية. والأفنجيلية؛ باعتبارها المسيحية التبشيرية التي تنشر رسالة المسيح بين الشعوب، تضمّ بداخلها تياراً مسيحياً صهيونياً، خصوصاً في الولايات المتحدة، ويرى هذا التيار أن إقامة إسرائيل في العام 1948، وعودة اليهود إلى “أرض الميعاد” مرحلة أساسية لقدوم المسيح المخلص وتدشين نهاية الحياة الدنيا. وعليه؛ تُعتبر المسيحية الصهيونية، والتي أفرزت “الاتحاد المسيحي لأجل إسرائيل”، مُناصرة لإسرائيل الاستيطانية، وتدعم بشدة الاستيطان في الضفة الغربية وإعادة بناء “الهيكل” في القدس. في العام 2006، أعاد المُبشّر الأفنجيلي الصهيوني، جون هيغي، تأسيس الاتحاد الذي ظهر لأول مرة في العام 1975، محولاً إيّاه إلى أكبر لوبي أمريكي داعم لإسرائيل. وفي العام 2012، أعلن “اتحاد المسيحيين لأجل إسرائيل” عن تخطّيه المليون عضو، وتحول بذلك إلى أكبر لوبي مُناصر لإسرائيل في الولايات المتحدة. اليوم يضّم الاتحاد حوالي 7 ملايين عضو ويُعتبر، بكلمات نتنياهو، “الصديق الأول لإسرائيل في الولايات المتحدة”.
على العكس من “الأيباك” التي تُعتبر لوبي يهودي، فإن “اتحاد المسيحيين لأجل إسرائيل” يضمّ الأفنجيليين من تيار المسيحيين الصهيونيين. وحسب السفير الإسرائيلي السابق لدى واشنطن، رون دريمر، والذي يُعتبر من الموالين المُخلصين لنتنياهو، فإن على إسرائيل أن تُركز على الأفنجيليين أكثر من تركيزها على اليهود الذي ينتقدون سياساتها المتطرّفة والمُحرجة دولياً بين الفينة والأخرى. ونتنياهو، الذي يمتلك رؤية بعيدة النظر، استخدم “الأيباك” في العديد من المناسبات قبل أن يُهمّشها ويركنها جانباً كخيار ثانِ، والسبب هو أن “الأيباك” تقوم على لوبي يهودي، وهذا يُشكّل حوالي ثُمن القاعدة الانتخابية في الولايات المتحدة، أمّا الأفنجيليون فيُشكلون أكثر من ربع الناخبين. إضافةً إلى ذلك، فإن حوالي 75% من يهود أمريكا المنضوين تحت منظّمة “الأيباك” يُصوتون للديمقراطيين، بينما 80% من الأفنجيليين يصوتون لصالح الجمهوريين، الأمر الذي تنبّه له كلّ من نتنياهو وترامب مبكراً. والمسيحية الصهيونية لا تدعم فقط سياسات إسرائيل اليمينية المحافظة؛ وإنّما تتخذ موقفاً واضحاً يُؤيد ضمّ الضفة، وترفض قيام دولة فلسطينية، وتموّل الاستيطان وتغطّي على جرائم الحرب الإسرائيلية، كل ذلك اعتقاداً منها أن دعم إسرائيل بشكل مُنفلت العِقال، هو فريضة دينية مسيحية. كما أن المسيحية الصهيونية لا تدعم سياسة الحكومة الإسرائيلية فحسب؛ بل إنها تلعب دوراً محورياً في إعادة تشكيل إسرائيل من الداخل من خلال دعم منظّمات المجتمع المدني الصهيونية المُحافظة، ودعم مؤسسات ومراكز أبحاث وجمعيات استيطانية داخل إسرائيل والأرض المحتلة. جدير بالذكر أن أحد أهم أباطرة المال في الولايات المتحدة هو من المتبرّعين السخيين في “اتحاد المسيحيين لأجل إسرائيل”، وهو شيلدون أديلسون، مالك الكازينوهات الأمريكية وحليف الأفنجيليين وأحد مموّلي مؤسسات اليمين الجديد في إسرائيل.
في العام 2012، أعلن “اتحاد المسيحيين لأجل إسرائيل” عن تخطّيه المليون عضو، وتحول بذلك إلى أكبر لوبي مُناصر لإسرائيل في الولايات المتحدة. اليوم يضّم الاتحاد حوالي 7 ملايين عضو ويُعتبر، بكلمات نتنياهو، “الصديق الأول لإسرائيل في الولايات المتحدة”
عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل اليمينية، فإن “اتحاد المسيحيين لأجل إسرائيل” يُعد اللوبي الأهم وليس “الأيباك”، وهذا تطوّر ملموس على العلاقات الإسرائيلية- الأمريكية لم يأخذ بعد حقّه الكامل من النقاش والبحث، وسيُصدر قريبًا كتاب عن “مركز مدار” يسبر غور هذا الحقل. لكن إذا رغبت إسرائيل بالاعتماد الاستراتيجي على المسيحية الصهيونية، فهذا يعني أنها ستحسم موقعها ضمن الخارطة السياسية الأميركية لصالح الحزب الجمهوري، وستعادي في الوقت نفسه، وكما فعل نتنياهو، كل مرشّح ديمقراطي. يُدرك بينيت أهمية هذا اللوبي المسيحي الصهيوني، لكنه يدرك أيضاً أنّ رضا جو بايدن عن حكومته يُعتبر مسألة حيوية لاستمرار الائتلاف الحكومي الضيّق والهشّ. من هنا، يقف بينيت أمام مهمّة صعبة تتمثّل في الحفاظ على “اتحاد المسيحيين لأجل إسرائيل” في نفس الوقت الذي يُحافظ فيه على علاقة وطيدة مع “الأيباك” الذي يميل أكثر للديمقراطيين.
تجدر الإشارة إلى أن الجيل الشاب من المسيحيين الصهيونيين يبدو أكثر انتقاداً لسياسات إسرائيل، صحيح أن اللوبي المسيحي الصهيوني يُعتبر اليوم قوة عظمى في الحياة السياسية الداخلية في الولايات المتحدة، لكن استفتاء قامت به جامعة نورث كارولاينا قبل أشهر أظهر أن فئة الشباب المُنتمي إلى المسيحية الصهيونية بدأت تُراكم وعياً ليبرالياً، وتستفيق على قيم حقوق الإنسان والمساواة، وبالتالي؛ تبدو أقل تعصّباً من الجيل المُخضرم داخل المسيحية الصهيونية. ويُظهر الاستطلاع الذي أُجري على الأفنجيليين الشباب من فئة 18-29 عاماً؛ أن حوالي 33% فقط منهم أبدوا مُناصرة لدولة إسرائيل وسياساتها، مقابل 24% ناصروا الفلسطينيين وحوالي 42% وقفوا على الحياد. هذه النسب، تُرشّح حدوث تحولات جذرية داخل الأفنجيلية بشكل عام، والتي ستُلقي بظلالها على تيار المسيحية الصهيونية، أي “الصديق الأول لإسرائيل” كما وصفه نتنياهو. وعليه؛ إذا استمرت هذا النزعة الشبابية في التصاعد، فإنّ قدرة كل من “الأيباك” و”اتحاد المسيحيين لأجل إسرائيل” ستتراجع أمام خطر التحولات التي يقودها جيل الشباب.
على اليسار من “الأيباك” و”اتحاد المسيحيين لأجل إسرائيل”، هناك لوبي آخر داعم لإسرائيل، وقد يكون الأكثر حبّاً لها ولكنه الأكثر انتقاداً لأجندتها اليمينية، وهو اللوبي الذي يُطلق على نفسه اسم “J-street”، ويعتبر لوبي “جي ستريت” صغيراً نسبياً مُقارنة بـ “الأيباك” أو “اتحاد المسيحيين لأجل إسرائيل”، وهو يتبنّى سياسة مُخلصة لإسرائيل، لكنه يعتقد أن حماية إسرائيل والدفاع عن أمنها يأتي من خلال حل الدولتين وإنهاء حالة العداء في الشرق الأوسط، ويعارض الاستيطان في الضفة، ويرفض بشدة “صفقة القرن”. ومنظمة “جي ستريت” هي منظّمة صاعدة، وتلهم المزيد من الشباب اليهودي في أمريكا في الآونة الأخيرة، وربّما تكون موطن الجيل الشاب من الأفنجيليين الذي يبدون اليوم أقل تحمّساً لفكرة إسرائيل اليمينية. لكن الافتراض بأن “جي ستريت” سترِث “الأيباك” أو الأفنجيليين، وتتحول إلى أكبر لوبي مُناصر لإسرائيل هو افتراض هشّ لا يُمكن الاستناد إليه، بناءً على حالة التطرّف اليميني المستمرّة في كل من إسرائيل وأمريكا”.
(*) نقلاً عن موقع “مدار“