إذا كان الإنتقال من شعار “كلن يعني كلن” الى وضع لائحة مطالب سُميت برنامج خطوة متقدمة تفصح عن مكنونات هذه القوى، فإنّ التسليم ببرنامجية هذه اللوائح يحتاج الى تدقيق في مدى برنامجية هذه “البرامج”، وسيحاول هذا النص تجاوز مضمون كل منها ليعرض معنى البرنامج، اولاً، ومهام المرحلة في لبنان، ثانياً، وعرض البيان الوزاري لحكومة نجيب ميقاتي، كبرنامج للقوى المتحكمة، وبرنامج أحد القوى اللبنانية المعارضة التي يفترض النص أنها الأكثر تنظيماً والأشد فعالية، إذا شاءت، والتي سمت ما اعلنته برنامجاً، الحزب الشيوعي اللبناني، ثالثاً، وتبيان مدى برنامجية كل منهما، رابعاً.
أولاً؛ معنى البرنامج السياسي:
البرنامج program، باللغات الأوروبية الحديثة، من اللاتينية programma ويعود الى اليونانية بمعنى الملاحظة العامة، وأقدم ذكر له بالعربية عند مالك بن أنس (179هـ ـ 795م) بقوله “فهو الذي لم يزل يجيزونه بينهم إذا لم يكن المتاع مخالفا لصفة البرنامج”، وعُرف بالفقه بأنّه ورقة يدوّن فيها التاجر اوصاف سلعه ومكوناتها (معجم الدوحة التاريخي للغة العربية)، وهو – حسب ابن عربي – “مسألة عظيمة للتجار، فهم يتبايعون على ذلك، ولا يختلفون في الأغلب، وهذا مستمد من قاعدة المصلحة في رفع الحرج، والمشقة عن الخلق”. وغَلُب عليه في الإستخدام الحديث معنى خطة لإنجاز عمل أو نشاط هادف خلال فترة زمنية محددة.
وتفكيك هذه المعنى للبرنامج يرده الى أربع مكونات:
- مطلق البرنامج.
- الهدف المبتغى.
- الوسائل والأساليب المستخدمة.
- السياق الذي تجري فيه العملية.
وهذه المكونات واحدة، سواء أكان البرنامج تجارياً أو صناعياً أو تربويا أو إجتماعياً أو..، وأيا كان مطلقه، فرداً أو مجموعة، والهدف والوسائل، فماذا عن البرنامج السياسي؟
يفترض البرنامج السياسي تحديد مكوناته، الآنفة الذكر:
–مطلق البرنامج، في الغالب، هو مجموعة، وقد يكون فرداً، إذا بلغ في موقعه الإقتصادي أو الإجتماعي درجة الشخصية العامة، بكثرة الأتباع أو بسعة الرزق وكثافة التأثير، والمجموعة السياسية قد تكون تحالف شخصيات عامة أو حزبا سياسياً، وقد يكون حاكما أو مشاركاً في الحكم أو معارضاً.
–الهدف المبتغى هو المشاركة في السلطة، إستمراراً فيها أو سعياً اليها، والسلطة في العصر الحديث لا تكون الا في دولة سيدة، بقانون واحد وسلطة واحدة.
والإستهداف في برنامج ما هو استهداف مطلقيه، وهو، بالضرورة، مختلف عن إستهداف برامج أخرى، والإستهداف في الحقل السياسي يندرج ضمن محورين: محور الحفاظ على الوضع الراهن ومحور تغييره، وتتعدد الاهداف في كل منهما.
والإستهداف، من جهة أخرى، متفاوت عند كل قوة من قواه فهو، بالتكوين، هدف مرحلي قد يستبطن أهدافاً ابعد واكبر وأهدافاً ادنى واصغر؛ فكل قوة تطرح برنامجاً لهدف هو جزء من أهداف كبرى لها ويخفي أهدافاً صغرى يتوسل عبره تحقيقها.
والإستهداف، من جهة ثالثة، متفاوت في مدى تجاوبه مع مهمات المرحلة التي يمر بها البلد/الدولة، فقد يتجاوز هذه المهمات نحو المطلق ونهاياته وقد ينحصر بجزء منها فيكون دونها وقد يتوافق، الى حد كبير معها.
-الاساليب والوسائل تتنوع لتحقيق الهدف، وتدرج ضمن نوعين من الاساليب: عنفي وسلمي، والسائد، عالمياً، الأسلوب السلمي ليشكل العنفي استثناء في حالات الإستعصاء؛ إنْ بتعطل آليات إنتاج السلطة السلمية أو السيطرة الأجنبية. وتتنوع السلمي بينهما باشكال متعددة من الخطاب الدعوي الى الإضراب والتظاهر وبناء الهيئات وصولاً الى المشاركة في عميلة انتاج السلطة بالإنتخابات.
–سياق البرنامج يتنوع بتنوع مكونات البرنامج، فبرنامج قوة ما ليس بالضرورة البرنامج، فقد تتعدد البرامج بتعدد القوى وبتنوع اهدافها، أي تتعدد البرامج تبعاً لكل مرحلة من المراحل.
والبرنامج السياسي من حيثه خطة لقوة سياسية يتميز عن نوعين من الخطط لاي قوة، وبخاصة الحزب السياسي، وهما: المشروع والتكتيك.
فالقوة، أي قوة سياسية، وبخاصة الحزب السياسي يطرح برنامجاً له لمرحلة من المراحل، هي، على الغالب، بين مؤتمرين، يُحدد فيها ما يمكن أن ينجزه فيها تبعاً لقوته وتحالفاته، من جهة؛ وتبعاً لظروف البلد والمهمات التي تتطلبها حاجات الناس ومطالبهم، من جهة ثانية؛ وتبعاً لمندرجات فكره وأهدافه ومصالحه، من جهة ثالثة.
وعليه فالبرنامج، كخطة، هو جزء من مشروع الحزب لتحقيق فكره وغاياته؛ ففكره وغاياته غير محددة بزمن وغير مصاغة لتلبي حاجات زمن محدد وظروف محددة، لذا يُشكل مشروع الحزب خطته البعيدة الاجل لتحقيق غاياته، وهي، بمعنى ما، استراتجيته، التي لا تقرن بزمن محدد وظروف محددة، لكنها تقيد البرنامج بأهداف الحزب وتقيد الحزب بالمرحلة الراهنة التي يعمل فيها.
وبرنامج الحزب/القوة لمرحلة هو تلمس، قد يكون دقيقاً وقد لا يكون، الأمر الذي يفترض خططاً قصيرة تتكيف مع المتغيرات وتفصّل في القطاعات، وهي، بمعنى ما تكتيك الحزب.
يمكن القول إنّ أي برنامج سياسي لبناني لا يستقيم دون لحظ مواجهة الإنهيار ووقف التفكك، ولا يضعف المواجهة والوقف إدعاء حضورهما في التاريخ اللبناني المعاصر؛ فقد بلغت الخطورة فيهما تهديد وجود اللبنانيين، وقد تهدد وجود لبنان، أيضاً
ويقود تفكيك مفهوم البرنامج الى قولين:
- قول في البرنامج، ويلخص بالآتي:
- تتعدد البرامج بتعدد مطلقيها، وهو تعدد على نوعين:
- تعدد القوى المطلقة، وهو تعدد حكمي في كل مجتمع.
- تعدد مضموني، فأوجه النشاط لأي قوة متعددة، فقد تطرح برنامجاً لمواجهة قضايا داخلية تخصها وقد تطرح برنامجاً لحراكها المجتمعي، ككل، أو لجانب من جوانبه.
- برنامج أي حزب/قوة هو في الموقع الوسط بين ما يحمله الحزب من أفكار وما يسعى اليه من غايات يمكن صوغها بمشروع الحزب/القوة وما يعتزم القيام به، ميدانياً، للوصول الى ما يهدف، فهو أقل تجريدا وعمومية من الفكر/الغاية/المشروع وأقل مباشرة وملموسية من التكتيك.
- برنامج أي حزب/قوة هو مرشده في الممارسة المجتمعية، سواء أكان في تطوير أدائها الداخلي أو في نضاله لتحقيق إرتقاء نحو بلوغ ما يبتغي.
- برنامج أي حزب/قوة محكوم بهويته ومصالحه وقدرته، من جهة؛ وبالظرف، المكاني والزماني، الذي طُرح فيه، من جهة أخرى.
- إن هوية الحزب تساهم في صوغ مندرجات البرنامج ويفترض أنْ يكون البرنامج خطوة أو قفزة بإتجاه اقتراب الحزب من تحقيق أهدافه وتجسيد هويته.
- ومصالح الحزب/القوة، كجماعة/تنظيم وكحلقة ممسكة بالحزب/قيادة تُراعى في تحديد البرنامج.
- وقدرة الحزب، إنْ بالتنظيم أو بامكانية استقطاب قوى مجتمعية أو بقدرته المالية ومؤسساته، تلعب دورا في صياغة البرنامج، وهي بين حدين: حد الضعف حيث يميل البرنامج الى المغالاة في مندرجاته وتطلب الأقصى في مطالباته، وحد القوة حيث يميل البرنامج الى التواضع والواقعية.
- والظرف المكاني، طبيعة البلد الجيولوجية وثرواته وموقعه على الخريطة الاقليمية والدولية، ترسم حدود البرنامج وكذا الظرف الزماني الذي يمر بها نظامه وقواه الإقتصادية والإجتماعية والسياسية تحدد مندرجات البرنامج، وهو، هنا، رهن التقاط اللحظة الراهنة التي تتيح له جذب القوى المجتمعية ذات المصلحة في الإنجاز وقيادتها.
- قول في معيار صحة البرنامج: معيار صحة البرنامج قضية نسبية يُحددها، بشكل اساسي، قدرته على التقاط اللحظة الراهنة في واقع البلد وموقعه، ومدى انسجامه مع مشروع مطلقيه.
ويقود هذا التفكيك الى بناء تصور للبرنامج السياسي، يوازن ما فُكك ويرشد الى ما يُبنى، وقوامه:
- الإشتغال في الحقل السياسي الذي يعني السلطة في دولة، إحتفاظاً بها أو نزوعاً للمشاركة فيها، والسلطة منذ القدم، هي واحدة في الدولة، والدولة الحديثة هي الدولة السيدة التي يحكمها سلطة واحدة وقانون واحد.
- وجود قوى متنوعة تتصارع على السلطة وفيها، فالبرنامج لا يكون الإ لقوة هاجسة بالسلطة، دون أنْ يعني ذلك إسقاط اشخاص بلغوا موقعاً مؤثراً في الحياة الإجتماعية من إدراجهم بين القوى السياسية، من جهة؛ وإسقاط مفكرين يطروحون برامج لاسترشاد القوى السياسية بها، من جهة ثانية.
- موضوع إشتغال البرنامج السياسي ذو بعدين:
-بُعد المهام المطروحة في اللحظة الراهنة في البلد المعني؛
-بُعد مشروع القوة الطارحة وتمكنها وهدفها.
لم تفلح محاولات بعض النخب الحديثة تأسيس أحزاب لبنانية عابرة للطوائف، كما لم تفلح محاولات زعماء طوائف في تأسيس أحزاب عابرة للطوائف كما لم تفلح محاولة لبننة بعض الأحزاب المتجاوزة
ثانياً؛ البرنامج السياسي في اللحظة الراهنة، لبنانياً:
يمكن البناء على تفكيك معنى البرنامج تصوراً لمتطلبات برنامج سياسي في اللحظة الراهنة، لبنانياً، والبرنامج، كما ذكرنا، قوامه قوى في دولة تتعاطى في واقعه الراهن.
ولبنان، البلد، محكوم بموقعه وحجمه ونظامه:
– موقع لبنان عرضة للتنافس بين القوى الإقليمية والدولية منذ القرن 19، على الأقل، وقد كان اشتداد صراع هذه القوى ذا تأثير بالغ على لبنان، والامثلة كثيرة ومعروفة في الأعوام 1958 و1969 و1975، فضلاً عن أيامنا الراهنة.
– حجم لبنان الصغير جعله عرضة للتنافس الدولي والإقليمي وحال دون تشكله قوة فاعلة، أو، على الأقل، جنّبه نتائج التنافس والصراع.
– نظام لبنان السياسي قائم على الطائفية ونظامه الإقتصادي قائم على الخدمات، وكلاهما، الطائفية والخدمات، تستدرجا القوى الخارجية؛ تطلباً للمنفعة وإستقواء على الآخر.
وقد أدى الثلاثي الآنف الذكر لأن تكون الدولة فيه قيد التكوين، برغم النص الدستوري على وجودها في الدستور وتعديلاته، وابرزها تعديلات إتفاق الطائف في العام 1990. فقد كان أي إختلال بالتوازن الإقليمي وأي صراع بين الطوائف مدعاة وضعها على الرف.
والقوى السياسية في لبنان، تاريخياً وراهناً، على نوعين:
- قوى دون وطنية تمثل الطوائف، علنا أو ضمناً، وجمهورها طائفي وخطابها طائفي وإنْ حمل إدعاء وطنياً.
- قوى فوق وطنية مثلت نخباً حديثة نازعة للأحسن والأرقى، إلا أنه نزوعٌ متجاوز للوطن-الدولة، إنْ عروبياً او سورياً أو اسلاميا أو أممياً، ولم يحل صوغها مطالب لبنانية ومشاركتها في الإنتخابات دون بقاء هذا التجاوز مقيماً.
ولم تفلح محاولات بعض النخب الحديثة تأسيس أحزاب لبنانية عابرة للطوائف، كما لم تفلح محاولات زعماء طوائف في تأسيس أحزاب عابرة للطوائف كما لم تفلح محاولة لبننة بعض الأحزاب المتجاوزة.
أما اللحظة الراهنة في لبنان، فتختصر بعنوانين: إنهيار إقتصادي وتفكك دولتي:
1-الإنهيار الإقتصاي بادٍ للعيان منذ انطلاق الحراك في 17 تشرين 2019، ولا تظهر المعطيات المتداولة توقفاً له، لا بل شهدت فترة ما بعد 17 تشرين تزايد فيه.
2-تفكك الدولة بادٍ للعيان، أيضاً، إنْ باستباحة الدول الإقليمية والدولية له، علناً وسراً، أو بإنخراط بعض قواها بمشاريع إقليمية وإنخراط بعضها الآخر بتقوقعات مناطقية وطائفية.
بناء على هذا، يمكن القول إنّ أي برنامج سياسي لا يستقيم دون لحظ مواجهة الإنهيار ووقف التفكك، ولا يضعف المواجهة والوقف إدعاء حضورهما في التاريخ اللبناني المعاصر؛ فقد بلغت الخطورة فيهما تهديد وجود اللبنانيين، وقد تهدد وجود لبنان، أيضاً.
(*) في الجزء الثاني والأخير: نقاش في البرنامج السياسي للحزب الشيوعي اللبناني وبرنامج حكومة نجيب ميقاتي