في ماهيّة الإسلام.. قرآنٌ خارج القرآن؟ (12)

عندما ننظر إلى التاريخ الإسلامي كمؤرخين (وهذا مختلف عن النظرة الإيمانية للتاريخ)، علينا طرح أسئلة محرجة، ليس بهدف التشكيك في الدين بل لأجل تقييم قدرتنا كمؤرّخين على فهم الأسس الاجتماعية والمعرفية (بما في ذلك الثقافة والفكر واللغة والسياسة) التي بُني عليها الدين ومساهمة البشر في ذلك ودور العلماء في بناء الإسلام وتأسيس سرديات أصبح المسّ بها من المحرمات.

موضوع القرآن ودور البشر في نقله وجمعه يُعتبر من المحرمات، لكن الغوص فيه ضروريٌ (بل إجباريٌ) من أجل تأسيس سرديات جديدة تمكّن المسلمين (مؤمنين أو علمانيين) من إعادة إحياء الديناميكية التي كانت موجودة في العصور الأولى للإسلام والخروج من الفكر الخضوعي إلى فكر أكثر إبداعاً وانفتاحاً.

ليس المسلمون وحدهم من يؤمن أنّ كتابهم المقدّس هو وحي من الله. اليهود أيضاً يؤمنون أنّ كتب التوراة هي وحي من الله إلى موسى وأنبياء بني إسرائيل، والمسيحيّون كذلك يؤمنون أنّ العهد القديم والأناجيل هي وحي من الله. موضوع الوحي لا يمكن للمؤرّخ كمؤرّخ أن يعالجه بأي شكل من الموضوعية، وعندما يقوم بذلك فهو يتعدّى على كار آخر ويخلط السيكولوجيا أو فلسفة اللاهوت بالتاريخ، فيَضيع ويُضَيّع.

في القرآن تحديداً، يمكن للمؤرخ معالجة النصّ بذاته وكيف أصبح نصّاً (أي كيف جُمع ومن جَمعه)، ولغته وأفكاره التي تدلّنا على المجتمع الذي ظهر فيه القرآن، الخ.

وللتذكير، لم يُعطِ الله أيّاً من الأنبياء كتاباً أو لوحاً كُتب عليه أو فيه الوحي. أعطاهم الوحي، وقام تلامذتهم وأتباعهم بكتابة ذلك الوحي وتجميعه في كتاب مقدّس. من هنا، لا يمكن للمؤرّخ أن يتغاضى أو يتجاهل اليد البشرية في صناعة القرآن، لا سيما مع وجود سردية شائعة مقبولة طوباوياً ـ أتطرق إليها في مكان آخر من هذا النص ـ  والمسّ بها من المحرمات، ومشكلتها أنّها جعلت القرآن حاجزاّ في وجه الإبداع والتغيير، فكان الحلّ الديني عبر فنّ التفسير والذي هو مجال يتحايل فيه المُفسّر على النصّ بلباقة مذهلة ويأخذ منه ما يريد. كذلك الأمر مع عادة الأخذ بآية من هنا أو من هناك والزعم أنّها وحدها تعبّر عن مغزى الله الصحيح والإسلام الحقيقي، وهو ما أنتج وينتج الاختلاف والتخبّط بين المفكرين المسلمين كون أي شخص يمكنه التلاعب بالقرآن بهذا الشكل للوصول إلى مبتغاه. كلّ هذه الأمور هي اعتراف صامت بمشاكل النصّ القرآني ككتاب.

يجوز أن تكون هناك آيات نزلت على النبي ولم تُجمع في المصحف. عند أهل السنّة، معظم هذه الآيات الإضافيّة نجدها في أحاديث منسوبة للصحابة. عند الشيعة، نجدها في أحاديث الائمّة (ومفهوم الإمام كقرآن ناطق). إذاً، المصحف هو ليس كلّ القرآن

تقول السردية الشائعة أنّ القرآن أُنزِل على النبي محمد في الفترة ما بين سنة 610م وسنة 630م. بعد وفاة النبي، قام المسلمون بتجميعه في مصحف، والأرجح أنّ ذلك حصل في فترة حكم عثمان بن عفّان (644-656). وهناك روايتان أولى تقول إنّ أبا بكر كان أوّل من جمع القرآن، وثانية تنسب المهمة أولاً إلى عمر بن الخطّاب.

هذا الاختلاف ليس ببسيط ومن غير السهل للمؤرخ تجاهله أو ترقيعه وفقاً للرواية الإسلامية السائدة التي عالجت التناقض عبر جمع الروايات في تسلسل زمني مفاده أنّ عمر نصح أبا بكر بعد حروب الردّة ومقتل الكثير من حفظة القرآن بأنّ عليه أن يجمع القرآن قبل أن يضيع، وقام أبو بكر بذلك، ثمّ جاء عثمان ورأى الخلاف بين الصحابة، كلّ له مصحفه، فقام بجمع القرآن وفرضه على المسلمين وأحرق المصاحف الأخرى.

إذا دقّقنا في رواية جمع أبو بكر للمصحف وسلّمنا جدلاً أنّه قام بذلك، أولاً ما فعله أبو بكر لم يكن انتاج مصحف بل محاولة جمع آياته من دون أي ترتيب لها أو للسور القرآنية. ثانياً، لم يكن لجمع أبو بكر للمصحف أي دور في وقته أو أثناء ولاية عمر، وكأنّ ما فعله كان حفظه في ما يشبه الصندوق لم يُسمح لأحد بقراءته أو الاطلاع عليه، وأعطاه أبو بكر لعمر، ثمّ بعد وفاة عمر ذهب الصندوق إلى ابنته حفصة (زوجة النبي).

ثالثاً، تروي لنا كتب الحديث عن عمر بن الخطّاب أنّه قال في خطبة له من على منبر النبي في المدينة (في موضوع نسخ آية الجلد بآية الرجم): “قرأناها ووعيناها وعقلناها.. وقد قرأتها: “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله، والله عزيز حكيم”. [راجع مقالتي السابقة: في ماهيّة الإسلام.. نسخ القرآن قولاً أم صمتاً؟]. إذا كان هذا صحيح، لماذا لم يُبادر عُمر – إذا كان وراء فكرة جمع القرآن – إلى إعلام أبا بكر أنّ لديه آية من القرآن يجب أن تضاف إلى المصحف؟ ولماذا لم يضفها هو إلى المصحف إذا كان هو أوّل من جمع القرآن أو إلى الرقاقات التي أعطاه إيّاها أبو بكر ليحفظها إذا صحَّ أنّ أبا بكر كان أوّل من جمع القرآن؟ كذلك الأمر، إذا كان الحديث عن عمر صحيح، لماذا لم تضف هذه الآية إلى مصحف عثمان؟ وإذا كان الحديث ملفّقاً، ما الذي يؤكّد لنا أن خبر جمع أبي بكر للقرآن ليس ملفّقاً أيضاً؟ ونضيف إلى ذلك، إذا كان صحيح جمع أبي بكر للقرآن، فما ضرورة أن يجمعه عثمان من جديد؟

إقرأ على موقع 180  الفرق الإسلامية.. بين الجهل والحقائق التاريخية (1)

إذاً الرواية التقليدية ليست تاريخاً سليماً، بل محاولة رتق شرخ كبير في قصّة تدوين القرآن، هدفت إلى طمس إشكالية أنّ حكّام المسلمين أهملوا جمع القرآن لمدّة عشرين سنة بعد وفاة الرسول، إلا بعض الصحابة الذي قاموا بمجهود فردي بتجميع بعض الآيات (ليس لدينا بعد أي دراسة نقديّة تتعمّق في هذا الموضوع). لذلك نجد مصحف عبد الله بن مسعود (كان متداولاً خصوصاً عند أهل الكوفة) ومصحف أبي موسى الأشعري (كان متداولاً خصوصاً عند أهل البصرة)، ومصحف أُبي بن كعب (كان متداولاً خصوصاً عند أهل الشام)، ومصحف الإمام علي (لم يُنتج في نصّ مكتوب)، وغير ذلك، وبقيت هذه المصاحف متداولة كمصاحف حتّى ولاية عبد الملك بن مروان (حكم 685–705) على أقلّ تقدير (وهذا يدلّ على أن خبر حرق عثمان للمصاحف الأخرى هو خرافة).

أهم ركائز الإسلام من ناحية النصوص الدينية لم يكن للنبي دور مباشر في جمعها أو تفسيرها، وما نراه هو أنّ المسلمين قاموا بهذا الجهد بأنفسهم واختلفوا حول ذلك، وهذا إن دلّ على شيء فهو على الدور العظيم والمحوري للبشر في جمع القرآن

هناك أيضاً سور كاملة لم تُجمع في مصحف عثمان، يُزعم أنّها كانت موجودة في مصاحف أُبي بن كعب وابن عبّاس وأبي موسى الأشعري. مثلاً، سورة الخلع: “بسم الله الرحمن الرحيم، اللَّهُمَّ إِنَّا نستعينك ونستغفرك ونثني عَلَيْك الْخَيْر كلّه، ونشكرك وَلَا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك”. وسورة الحفد: “اللَّهُمَّ إياك نعْبد وَلَك نصلي ونسجد وَإِلَيْك نسعى ونحفد نخشى عذابك وَنَرْجُو رحمتك إِن عذابك بالكفار مُلْحق”. هنا أيضاً نسأل إذا كانت هاتان السورتان معروفتين بهذا الشكل لأهم الصحابة، لماذا لا نجد أثراً لهما في مصحف عثمان؟

وهناك ايضاً قصّة شهداء بئر معونة الذين ـ وفقاً لصحيح البخاري ـ نزلت فيهم آية: “بَلًغوا قَومَنا أنّ قَد لَقِينا ربّنا فَرضِيَ عَلينا ورَضِينا عَنه”. وماذا نقول في حديث أُبي بن كعب عندما قال عن سورة الأحزاب: “كانت الأحزاب قدر البقرة”؟  أو في حديث حذيفة بن اليمان عن سورة التوبة: “ما يقرؤون ربعها”؟ أو في حديث عبدالله بن عمر بن الخطّاب: “لا يقولنّ أحدكم أخذت القرآن كله، قد ذهب منه قرآن كثير”؟

التفسير الذي يقدمه العلماء أنّ كلّ هذه الآيات والسور التي لا نجد أثراً لها في المصحف.. نُسخت. لكن من نسخها ولماذا ليس لدينا أحاديث مباشرة عن النبي في موضوع نسخها؟ لماذا فقط أنس بن مالك وعمر بن الخطّاب وعائشة وغيرهم من الصحابة هم من قرّر نسخ هذه الآيات (على زعم الروايات الإسلامية) بدل أن يكون هناك نصّ واضح من الله أو النبي في ذلك؟ هذا الأمر يضعنا أمام مشكلة كبيرة في السرديّة العقائدية عن جمع القرآن والتي هدفها الأساسي الدفاع عن قدسيّة النص والقول أنّ الله حفظه من التلاعب والتحريف والنقصان، فكان مفهوم النسخ أداة أوجدها المسلمون لردّ مزاعم من يقول أنّ من جمع القرآن في مصحف نسي أو تناسى عن قصد بعض آياته.

ونقول أيضاً لماذا هناك قرآن خارج القرآن؟ مثلاً، يزعم الواحدي في “التفسير البسيط”: “وإذا جاز أن يكون قرآن ولا يعمل به جاز أن يكون قرآن يُعمل به ولا يُتلى”. إذاً يجوز أن تكون هناك آيات نزلت على النبي ولم تُجمع في المصحف. عند أهل السنّة، معظم هذه الآيات الإضافيّة نجدها في أحاديث منسوبة للصحابة. عند الشيعة، نجدها في أحاديث الائمّة (ومفهوم الإمام كقرآن ناطق). إذاً، المصحف هو ليس كلّ القرآن، ولا يمكننا أن نزعم أن القرآن الذي بين أيدينا حُفظ من الخطأ والنسيان والسَقط.

يفرض علينا هذا الأمر درجة كبيرة من التواضع، ويفرض علينا كذلك وعي أنّ أهم ركائز الإسلام من ناحية النصوص الدينية لم يكن للنبي دور مباشر في جمعها أو تفسيرها، وما نراه هو أنّ المسلمين قاموا بهذا الجهد بأنفسهم واختلفوا حول ذلك، وهذا إن دلّ على شيء فهو على الدور العظيم والمحوري للبشر في جمع القرآن والحديث والتفسير وتأسيس أسس الإسلام والشرع (أصولاً وفروعاً)، الخ.

كلّ ذلك يدلّ على أنّ المسلمين قاموا بذلك نيابة عن الله وعن النبي، وصدّقهم كثيرٌ ممّن جاء بعدهم. لكنّهم كانوا بشراً وصنعوا ما صنعوا كبشر. القبول الأعمى لقناعاتهم وسردياتهم للتاريخ ومعتقداتهم التي أوجدوها واستنبطوها وطوّروها بأنفسهم من دون أن نبحث فيها وفي صحّتها يجعلهم آلهة ويجعلنا عبدة لهم.

في الخلاصة؛ عندما يستسلم المؤرخ للمحرمات التي وضعها البشر أنفسهم يسقط كمؤرخ وينتفي دوره ويصبح مجرد حكواتي، كما يسقط الطبيب إذا رفض معالجة مريض حالته صعبة وعلاجه مزعج  (يتبع).

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  شهرُ رَمَضَان.. وأسرارُ "الرسالة الإسلامية" (١)