لم يكن سرّاً في المواجهة الديبلوماسية الدائرة حول إحياء الاتفاق النووي مع إيران، أن احتمال عودة إدارة جو بايدن إلى الاتفاق المُوقّع العام 2015 سيتلازم مع طرح تعديلات تفرضها مصلحة إسرائيل ودول عربية خليجية. وتتناول هذه التعديلات صلب التسوية النووية التي ضمنتها “خطة العمل المشترك الشاملة” بين القوى العالمية الكبرى وإيران، إذ تُدخل البرنامج الصاروخي الباليستي الإيراني وتوسع النفوذ الإقليمي للجمهورية الإسلامية في المشرق العربي. إلّا أنّ الجديد الذي كشفته محادثات فيينا في جولتها السابعة التي انتهت في 17 كانون الأول/ديسمبر، هو تمرير الوفد الإيراني مقاربة جديدة لعملية التفاوض تُخرجها من دائرة الجمود وتضع إطاراً يوازن بين العقوبات والإلتزامات.
وكانت إيران اختارت مع انتقال سلطة القرار التنفيذي في طهران من حكومة حسن روحاني إلى حكومة ابراهيم رئيسي، تعديل مقاربتها للتفاوض على نحوٍ يُركّز على مطلب “رفع جميع العقوبات مقابل إزالة مخاوف الطرف الآخر”، التي تداني “الإيرانوفوبيا”، على أن تنتهي المفاوضات “بعودة الجميع إلى إلتزاماتهم بموجب الاتفاق المُبرم عام 2015 أو “خطة العمل المشتركة الشاملة”. بكلام آخر، إن المفهوم الإيراني الجديد للتفاوض لا يوازن بين الالتزامات ورفع العقوبات فحسب، بل يفتح المجال للتقدم خطوة خطوة في مفاوضات تُنذر بأن تكون طويلة وصعبة.
وعلى الرغم من المرونة الإيرانية وسعي الفريق الإيراني المفاوض إلى التخفيف من حدة التوترات على مستوى المحادثات في فيينا، كما على مستوى التعامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فقد أثارت المقاربة الإيرانية حملة غربية واسعة تتهم إيران “بعدم الجدّية” في المحادثات وبالعمل على تصعيد وتيرة انتهاكاتها لـ”خطة العمل المشتركة الشاملة”، وذلك عقب تلقّف إيران انسحاب الإدارة الأميركية السابقة من الاتفاق للانتقال من خانة التخصيب المحدود بنسبة 20 بالمئة إلى نسبة 60 بالمئة وتقليص عمليات مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وكان البارز في سياق تصعيد الحملة الغربية على إيران، صدور بيان مشترك للأوروبيين المشاركين في محادثات فيينا يتّهم الفريق الإيراني المُفاوض بالتراجع عن اتفاقات وتسويات تمّ التوصل إليها في فيينا بعد أسابيع من المحادثات الصعبة.
ثمّة وقائع كثيرة حول الاتصالات الأميركية – الإسرائيلية توحي بأن واشنطن غير معنيّة بالخيار العسكري أو أنها لا تجد مصلحة أكيدة في اللجوء إلى خيارات قصوى من هذا القبيل، وسط تحديات استراتيجية في مناطق أخرى من العالم، في الوقت الذي تعاني إدارة السياسة الخارجية الأميركية من تبعات صدمة الانسحاب الفوضوي والمُذل من أفغانستان
غير أن علي باقري كني، كبير المفاوضين الإيرانيين في فيينا، اعتبر الحملة على إيران دليلاً على وجود محاولة غربية لفرض شروط جديدة في المفاوضات. كما أعلن مجيد روانجي مندوب إيران في مجلس الأمن أنّ حكومته ترفض أيّ محاولة لربط إحياء الاتفاق النووي بقضايا أخرى، مؤكداً أن طهران ستواصل برنامجها لتطوير الصواريخ الباليستية، وأنّ ذلك لا يتعارض مع القرارات الدولية.
إذاً، إن المواجهة في محادثات فيينا، كادت أن تتجاوز البُعد النووي أو الحؤول دون بلوغ إيران “العتَبَة النووية” التي تعني التحكم بالتكنولوجيا النووية مع الامتناع عن صُنع القنبلة، كما هي حال اليابان. ولم يُغيّر في هذا الأمر، سوى الإرادة القوية للوفد الإيراني وتشبّثه بالعودة إلى اتفاق 2015 وما ورد فيه من شروط وبنود تتعلّق بمستوى التخصيب والمراقبة الحثيثة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتشديد على رفع العقوبات التي فُرضت عقب انسحاب إدارة دونالد ترامب من الاتفاق النووي عام 2018. وجاء الحديث عن شروط غربية جديدة بمثابة التحذير من مغبّة الاقتراب الأميركي من السلاح الصاروخي الإيراني والسياسات الإيرانية الداعمة للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، أو الرامية إلى بناء التوازن الجيواستراتيجي مع الدولة اليهودية على النطاق الإقليمي.
أمّا تفسير المفارقة التي تحكم السلوك الأميركي بين الرغبة في العودة إلى الاتفاق النووي من جهة، والتشدّد والتهديد باستخدام السلاح أو اللجوء إلى المزيد من العقوبات من جهة أخرى، فإنه لا يكفي فيه القول أنه يعود إلى تقدم أولوية الأمن الإسرائيلي على أولوية المواجهة مع الصين وروسيا. ولا شكّ في أن هذا التفسير على صوابيّته الإجمالية، يختزل احتمالات تطوّر الاختلاف بين أميركا وإسرائيل إزاء التعامل مع التحدي الإيراني والطُرق المتاحة لإحتواء البرنامج النووي، إذ تعمل إسرائيل بطُرق مختلفة، لدفع إدارة أميركية ضعيفة ومُرتبكة إلى تصعيد الصراع مع إيران، سواء في المفاوضات غير المباشرة الدائرة في فيينا، أو عبر الإيحاء بأن لا مفرّ في النهاية من اللجوء إلى الخيارات العسكرية ضدّ إيران.
في المقابل، ثمّة وقائع كثيرة حول الاتصالات الأميركية – الإسرائيلية توحي بأن واشنطن غير معنيّة بالخيار العسكري أو أنها لا تجد مصلحة أكيدة في اللجوء إلى خيارات قصوى من هذا القبيل، وسط تحديات استراتيجية في مناطق أخرى من العالم، في الوقت الذي تعاني إدارة السياسة الخارجية الأميركية من تبعات صدمة الانسحاب الفوضوي والمُذل من أفغانستان.
في حال تمكنت إيران والصين وروسيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا – زائد الولايات المتحدة بصورة غير مباشرة – من الاتفاق على المسوّدة الجديدة، فإن ذلك سيُمثّل أساساً يُعتدُّ به لدفع المفاوضات قُدماً
الى ذلك، إن مهادنة الروسي والصيني أمام الأداء الهجومي الأوروبي في جولة فيينا السابعة، أفسح المجال لنوع من الاستقطاب الثنائي للمفاوضات لا يريح طهران. كأنّ موسكو وبكين لا يسعهما سوى التحفّظ بهذه الطريقة عن تجاوز طهران إلتزامات 2015 التي تُقيّد البرنامج النووي الإيراني، أو التذكير بأنهما طرفان أصيلان في تسوية الأزمة النووية، ويبدو أن السماح لمراقبي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالعودة إلى تركيب كاميرات في منشأة كرج كان يهدف أساساً إلى تهدئة المخاوف الروسية والصينية من اندفاعة إيرانية نحو عسكرة البرنامج النووي.
ومن الجلي أن منظومة مصالح معقدة ومتشابكة تتحكم بموقف كل من روسيا والصين في التعامل مع الملف النووي الإيراني، وهو ما عبّر عنه موقف وزارة الخارجية الروسية، عشية جولة فيينا السابعة بالقول إن إعادة إحياء الصفقة النووية بصيغتها الأصليّة المتوازنة “يمثّل الطريق الصائب والوحيد لضمان حقوق كل الأطراف المعنية ومصالحها”.
ويريد الوفد الإيراني تلمّس المزيد من التنسيق بين المندوبين الروس والصينيين، في الجولة المقبلة، وهو أمر جرى تلمسه في الجولة السابعة التي شهدت دفعاً في هذا الاتجاه برز فيه نشاطٌ صينيٌ مميزٌ على خلفية تصاعد التوتر مع الولايات المتحدة الأميركية.
وتزامناً مع تحديد موعد الجولة الثامنة يوم الإثنين المقبل، أفادت تقارير أن الوفود المشاركة اقتربت من التوصل إلى مسوّدة مشتركة جديدة تضم نصاً تم التوصل إليه في الجولة السادسة في حزيران/يونيو الماضي ومقترحات جديدة من حكومة إبراهيم رئيسي قُدّمت على شكل وثيقتين مطلع الشهر الحالي. وفي حال تمكنت إيران والصين وروسيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا – زائد الولايات المتحدة بصورة غير مباشرة – من الاتفاق على المسوّدة، فإن ذلك سيُمثّل أساساً يُعتدُّ به لدفع المفاوضات قُدماً.