في ماهيّة الإسلام .. حقبة النبي ومشكلة المصادر (19)

لمعرفة تاريخ حقبة النبي محمّد، علينا كمؤرخين التدقيق في المصادر المتوفّرة والحذر في التعامل معها، لا سيما في ضوء ما يعتريها من مشاكل وإلتباسات. مهمة صعبة تستوجب دقّة تاريخيّة وابتعاداً عن التنظير الديني أو السياسي.

إن دراسة أي حقبة تاريخية تتطلّب معرفة المصادر المتوفّرة عنها، وهي إجمالاً موزعة على ثلاث فئات:

1) ما هو مدوّن (كالتراث المكتوب والأرشيف)؛

2) ما هو مروي (كالتراث الشفهي، بما في ذلك الأغاني والشعر)؛

3) ما هو أثري (كالأبنية القديمة أو ما تبقّى منها، الأواني، النقوش، النقود إلخ..).

يتطلّب عمل المؤرّخ التمحيص في هذه المصادر حتى يكون لديه إلمام واضح ليس فقط بمحتواها وطبيعتها، بل أيضاً بصحّتها.

في ما يخصّ حقبة النبي محمد وسيرته، ليس لدينا أي مصدر مُدون من الفئة الأولى من تلك الفترة مباشرةً. كلّ المصادر المتوفّرة هي من النوع الثاني، أي عبارة عن تُراث شفهي تم تدوينه في ما بعد، وأهمّها القرآن وكتب السيرة (مثل السيرة النبويّة لابن إسحاق) وكتب الحديث (مثل الصحيح للبخاري) وكتب التأريخ (مثل تأريخ الرسل والملوك للطبري). أمّا بخصوص الفئة الثالثة (المصادر الأثريّة)، فنحن ـ للأسف ـ لا نملك شيئاً من حقبة النبي، تحديداً في ما يتعلّق بمكّة والمدينة. فمنذ زمن الأمويّين، دُمّرت معظم الآثار في هاتين المدينتين بحجّة توسيع وترميم الحرم المكّي والمسجد النبوي، وأكملت المملكة العربية السعوديّة هذا التدمير الكامل للآثار عبر مشاريع عمرانية عملاقة إعترض عليها البعض في مكة والمدينة دون جدوى. كذلك الأمر في ما يتعلّق بالنقوش والنقود، فليس لدينا شيئاً من حقبة النبي محمد.

هناك علاقة بين هذه الفئات الثلاث، وهي تؤثّر في بعضها البعض. المصادر المكتوبة، مثلاً، يمكن أن تضيع وتصبح تراثاً شفهيّاً. وكثير من التراث الشفهي يدوّن مع الوقت في كتب. وبعض الأخبار عن الماضي يُبنى على الآثار التي نعرفها، أي أن من يُشاهد الآثار يَنسُج أخباراً وروايات (شفهيّة أم مكتوبة) عن أصحاب تلك الآثار لا تكون مبنيّة بالضرورة على حقائق تاريخيّة، بل مأخوذة من مشاهداته. مثلاً، القول إنّ الإهرامات في مصر بناها عمالقة، وهي خرافة بُنيت على شكل الإهرامات الضخم، لا على معرفة حقيقة من بناها.

هذه الحقيقة تحتّم على المؤرّخ أن يكون حذراً، وحذراً جدّاً، كون الأخبار والقصص والسرديّات عن حقبة النبي محمّد لا يمكن الجزم بها كتاريخ، بل كفولكلور وتراث، من الصعب، بل من المستحيل، الجزم بصحّتها، وكذلك الأمر، من المستحيل الجزم بعدم صحّتها

إذاً، مصادرنا عن تاريخ حقبة النبي محمّد هي شفهيّة، وهذا لا يعني بتاتاً أنّه لا يجب الوثوق بها. ما لا نعرفه عن المصادر الشفهيّة هو وقت بدايتها، أي متى بدأ تداولها وهل حافظت على شكلها أم تمّ التلاعب بها مع الوقت، وهذا عكس المصادر المكتوبة (طبعاً إذا كان لنا قدرة على تحديد وقت تدوينها)، والتي تعطينا ثقة أكبر من منطلق أنّ محتواها هو ما كتبه مؤلّفها. لذلك نقول “يُنسب إلى فلان” أو “يُروى عن فلانة” عندما نتحدّث عن التراث الشفهي، وهذا يشير إلى درجة التحفّظ كوننا لا نعرف إذا كان هذا الفلان أو هذه الفلانة هم حقّاً من قال أو روى ما نُسب إليه أو إليها؟ بينما نعبّر بأسلوب أكثر يقيني عندما نتكلّم عن التراث المكتوب، فنقول “قالت فلانة” أو “كتب فلان”، وهو دليل على غياب الحذر وزيادة الثقة. لكن المصادر المكتوبة، كالمصادر الشفهيّة والأثرية، هي أيضاً عرضة للتزوير والتلاعب والتغيير، وهذا أمر يعقّد عمل المؤرّخين.

لكن الأمر أبعد من ذلك. يجب علينا تعريف ما إذا كانت مصادرنا أوّليّة، أي تروي الأخبار (كتابةً أو شفاهةً) عن مشاهدة أو معاصرة الأحداث (وهذا لا يعني بالضرورة أنّها صحيحة)، أم أنّها ثانويّة، أي تروي الأخبار عن غير مشاهدة أو معاصرة للأحداث، وتعتمد لذلك على المصادر الأوّليّة. بخلاف القرآن، مصادر حقبة النبي محمّد هيّ ثانويّة. مثلاً، سيرة ابن إسحاق هي مصدر ثانوي بمعنى أنّ ابن إسحاق جمع الأخبار من مصادر متفرّقة ولم تكن له معرفة مباشرة بأي من الأحداث التي رواها عن حقبة النبي. كذلك، تأريخ الطبري ليس بمصدر أوّلي عنها، وهو ينقل كثيراً عن مصادر ثانويّة مثل ابن إسحاق وغيره. إذاً مصادرنا هي إمّا  ثانويّة أو مأخوذة ومبنيّة على مصادر ثانويّة.

هذه الحقيقة تحتّم على المؤرّخ أن يكون حذراً، وحذراً جدّاً، كون الأخبار والقصص والسرديّات عن حقبة النبي محمّد لا يمكن الجزم بها كتاريخ، بل كفولكلور وتراث، من الصعب، بل من المستحيل، الجزم بصحّتها، وكذلك الأمر، من المستحيل الجزم بعدم صحّتها. نحن بكل بساطة عاجزون بما لدينا من معلومات وأدوات ومقاربات نظريّة أن نتعامل معها كتاريخ. لذلك، عندما يقوم أي مؤرّخ معاصر بكتابة سرديّة جديدة عن حقبة النبي محمّد، هو بالإجمال يخرج عن دوره كمؤرّخ ويصبح عبارة عن حكواتي أو مبشّر ديني أو مُنظّر سياسي.

إقرأ على موقع 180  في وداع اليزابيث.. سجّلْ أنا لستُ عربياً!

أعود إلى القرآن الذي هو أوّل مصدر مكتوب عن حقبة النبي محمّد. نُقلت آياته – بعضها مشافهةً و بعضها كتابةً – من فترة النبي، وتمّ جمعه في مصحف في حوالي سنة 650 أثناء حكم عثمان بن عفّان. لكنّنا لا نعرف مَن مِن الآيات كانت مكتوبة ومَن مِنها نقلت مشافهةً قبل جمع المصحف. الإشكالية الأكبر عن القرآن أنّه بمضمونه وشكله الحاليين يتعذر استخدامه كمصدر تاريخي بذاته. ما أعنيه هنا أن طريقة جمع القرآن في مصحف – تحديداً كيفيّة ترتيب سوره (من الأطول إلى الأقصر) وآياته والتي كان القرار فيها إلى من جمع القرآن – قضت على أي أمل لنا كمؤرّخين في استخدامه كمصدر تاريخي عن حقبة النبي محمّد من دون الإعتماد الكلي على التراث الكلاسيكي، وهو تراث متأخّر جدّاً عن القرآن وفيه اختلاف وتناقض كبير. بمعنى آخر، من دون هذا التراث المتأخّر (وحوله خلاف كبير بين المسلمين)، لا يمكن أن نقرأ القرآن ونعرف من النصّ الترتيب الأصلي لآياته وسوره. ولا يمكن أن نعرف التسلسل الزمني للوحي. ولا يمكن أن نعرف أي شيء عن مقصد القرآن وسياق أفكاره، مثل من هو أبو لهب ولماذا يلعنه القرآن في سورة المسد؛ ومن هم المنافقون الذين يتكلّم عنهم القرآن في سورة المنافقون؛ ومن هما زوجتا النبي اللتان طلب منهما القرآن أن يتوبا؛ وأين هو المسجد الأقصى المذكور في سورة الإسراء؛ إلخ.

لو كانت لنا قدرة على قراءة القرآن كمصدر تاريخي من دون أن نكون مجبورين على الإعتماد المطلق والإرتكاز الكامل على المصادر الثانويّة المتأخّرة، لكان ساعدنا ذلك على وضع إطار تاريخي وسرديّة أقوى عن حقبة النبي محمّد، وعن الحركة التي قادها وأصحابه، وعن المشاكل التي واجهوها وكيف عالجوها، إلخ.

المذهل أنّ التراث الإسلامي الكلاسيكي يتحدث عن كثير من هذه المشاكل التي تتعلّق بالأخبار والقصص والأحاديث والمصادر عن حقبة النبي محمّد. والمذهل أيضاً هو التناقض بينها والحجم الهائل من التشكيك والنقد لكثير من الرواة واتّهامهم بالكذب والتدليس

إن إضطرارنا إلى استخدام التراث المكتوب المبني على تراث شفهي يفصله عن النبي زمن طويل، لا يشكّل فقط عائقاً أمام استخدام القرآن كمصدر تاريخي أوّلي لحقبة النبي محمّد. الأسوأ من ذلك، أنه يُدخلنا في متاهات تلك المصادر، ويفرض علينا أن نبني مقاربتنا لتاريخ تلك الفترة على الإيمان بصحّة المصادر التي نستخدمها وعدم صحّة المصادر المخالفة لها، بدل أن يكون ذلك نتاج جهد أكاديمي بحت.

وحتّى مقاربة المصادر المكتوبة فيها الكثير من المشاكل. مثلاً، لدينا كثير من الأخبار والأحاديث منسوبة إلى التابعين، أمثال الحسن البصري والشعبي وقتادة ومجاهد و..، نجدها في معظم كتب التأريخ والسيرة والتفسير. لكن عندما ننظر في كتب الحديث، نجد ما قاله هؤلاء التابعون مرفوع إلى صحابي ومن الصحابي إلى النبي. ما نعرفه أنّ كتب السيرة والتفسير بدأت بالظهور قبل كتب الحديث. إذاً هل قام أصحاب كتب الحديث باختراع أسانيد للتابعين من أجل تحويل أخبارهم وقصصهم إلى أحاديث نبويّة؟ بمعنى آخر، ما هي درجة ثقتنا بأن الحديث المروي عن النبي هو حقّاً ما قاله النبي، والذي على أساسه يمكن أن ننسج سرديّة عن حياته وحقبته؟

النقطة الأخيرة التي أريد الإشارة إليها تتعلّق بإشكاليّة صياغة السرديّة التاريخيّة المكتوبة، مثل سيرة ابن إسحاق، وتأريخ اليعقوبي، وتأريخ الطبري، وغيرهم. ما فعله هؤلاء كان تجميعاً للكثير من الروايات عن حقبة النبي وإبرازها في سياق متكامل، زمني وموضوعي. هذا يختلف جذريّاً عن الطبيعة المتجزئة والمتضاربة للروايات في المصادر التي اعتمدوا عليها. بمعنى آخر، عندما يأخذ ابن إسحاق أو اليعقوبي أو الطبري روايات مختلفة ومتعارضة ويقومون هم بترتيبها أو صياغتها وفقاً لسردية زمنيّة معيّنة، فهم حقيقةً ينتجون رواية جديدة وإن كانت مادّتها الأوّليّة مأخوذة مِن مَن سبقهم. أيّ كالخيّاط الذي يأخذ قطعاً متفرّقة من الثياب ويعيد حياكتها مع بعضها البعض ويرمي بعضها جانباً وينتج ثوباً جديداً لم يعرفه أو يراه بهذا الشكل من لبس أي من هذه القطع في السابق.

المذهل أنّ التراث الإسلامي الكلاسيكي يتحدث عن كثير من هذه المشاكل التي تتعلّق بالأخبار والقصص والأحاديث والمصادر عن حقبة النبي محمّد. والمذهل أيضاً هو التناقض بينها والحجم الهائل من التشكيك والنقد لكثير من الرواة واتّهامهم بالكذب والتدليس. لكن المشكلة هي أنّ لكلّ فرقة مصادرها الموثوقة، ورواتها الذين تعتمد عليهم، فتكون الغلبة لمن له هيمنة وسلطة وقدرة على فرض سرديّته ومصادره.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "حلف الفضول" جاهلي المنبت.. رؤيوي النظرة!