مُذهلٌ هذا المدى في تحقق النبوءة المنسوبة إلى كميل شمعون، عن التشابه والتماثل والتطابق، في الواقع والتوقع بين لبنان والعراق.
كأن الحلف مع بغداد لم يكن ذات يوم في السياسة الشمعونية. بل هو كل يوم في الجغرافيا السياسية وفي البسيكوغرافيا المجتمعية.
الكلام عن لبنان اليوم، مُملٌ، مُتعبٌ، مُمضٍ، بلا جدوى. فلا مَن يقرأ من دمى السلطة المُحرَكة، ولا مَن يفهم ممن يقرأون، ولا من يعتبر ممن يفهمون.
تبقى الكتابة عن أحوال العراق أفضل، ولو لمجرد الغمز صراحة، لاتهام المسؤولين عن أهوال لبنان.
مثلنا، يبدو العراق في مآزق ذاته وتناقضاته. بين ثروات ممنوعة أو مهدورة، وبين إفلاسات غير مفهومة ولا مبررة.
جواره مثلنا، بين أشقاء قايينيين، وحسن جوار من غير الحُسن، أو حتى الجائر، وبين الأطماع وحسابات التاريخ والمصالح. أما في الداخل، فلم يكن ينقص العراق غير دستوره الجديد، واختراع مفهوم “المكونات”، حتى يكتمل تطابقنا. مع ما عناه ذلك “الاختراع” من تشريع لعقدة الجماعات، أو الطوائف، أو هي استلابات العصر الحديث، للتدليل والتضليل والتورية، على تركيبات الزبائنية وعائلات المافيوزية الدولتية والنهب المُمأسس أو المقونن، أو حتى “المُدستر”، أي المُتستر بالدستور.
بعد كل هذه النكبات الطبيعية، تكرُ أوبئة الإحتلالات، والفساد – نتيجة لها أو سبباً – والعجز والفشل في بناء دولة، انتهاءً بهجرة الناس الفقراء بعيداً حتى ثلوج روسيا البيضاء.. لندرك في معاناتنا كل ذلك معاً، كم أننا كلنا في الهم والبؤس والشقاء والاستبداد.. عرب!
كأن جسر الرينغ البيروتي امتدادٌ لجسر الرصافة البغدادي.. وساحة الشهداء هنا رصفٌ مستدامٌ لساحة التحرير هناك. كأن واتساب بيروت انعكاسٌ رقميٌ لتواصل بغداد، سعياً مشتركاً إلى كل الكرامة وشيء من خبز وبعض نور كهرباء ومياه شفة وفرصة عمل
حتى “أجندات” ناسنا وروزنامات دينامياتهم جاءت متطابقة. ففي قيام “داعش” وسقوطها، كان تزامنٌ من غرب العراق حتى شرق لبنان. وفي الاستكانة ثمانية أعوام بلا مبالاة حيال ربيع الأجيال المسحوقة قبل عقد من الأعوام، كانت بغداد وبيروت غير معنيتين.. متفرجتين معاً، قبل أن يستفيق الناس هناك وهنا فجأة، وفي لحظة واحدة من تشرين/أكتوبر 2019، حراكاً نقياً فتياً، لم تُخمده دماء السحل ولا فقء العيون. كأن جسر الرينغ البيروتي امتدادٌ لجسر الرصافة البغدادي.. وساحة الشهداء هنا رصفٌ مستدامٌ لساحة التحرير هناك. كأن واتساب بيروت انعكاسٌ رقميٌ لتواصل بغداد، سعياً مشتركاً إلى كل الكرامة وشيء من خبز وبعض نور كهرباء ومياه شفة وفرصة عمل. نضالُ حقٍ لا تئده سرديات الانتصارات والبطولات والإلهيات، ولا تخدره ردحيات الاستعاضة عن شغف الحياة بشهوات الموت.
غير أن أكثر ما يُبرز تحقُق نبوءة شمعون عن هذه المعية في المسير والمصير، هو ما يحصل الآن بالذات، في بغداد وبيروت، من تهافت على السلطة والمغانم، ولو على حساب أشلاء وطن وبقايا مواطن.
في العراق، شيعية سياسية خرجت من قمقم كربلاء الألفي ولن تعود إليه. وفي خروجها القيصري بين احتلال ووصاية، أخرجت مع بعض زعاماتها القديمة أو المستحدثة، كل تشوهات قرون من القهر والثأر والإصابة والخطأ.
وفيه سنية سياسية، لم تهضم في أقل من عقدين، خسارة دولة الألفية ذاتها، ولم تتكيف مع تبدل مفهوم الأمة والخلافة والولاية.
لكن بين المكونين الألفيين المتناقضين، جماعة ثالثة. هم الكرد. أناسٌ قست عليهم الجغرافيا وظلمهم التاريخ وتآمرت عليهم مصالح الامبراطوريات.. حتى صاروا هنا. لم ينسوا لحظة من ماضي قضيهم القدرية المديدة. لكن بعضهم يبدو وكأنه لم يتعلم كيف يتجنب ظلماً ذاتياً مضافاً. قصة الكرد مع أمسهم واليوم والغد، معقدة، مربكة، ومرتبكة. قصةُ حلم الأكثر من ثلاثين مليون لسان قومي، موزعين على جنسيات كثيرة، والأربعمئة ألف كيلومتر مربع على خرائط قديمة. بينما التاريخٍ الراهن والآتي مسار مستقيم، لا يعرف الخط الدوائري المستعاد، ولا يعترف بالبروفات والمسودات. قصة نضال تتشابك فيه الأساطير بالدماء الفعلية وبالاختناق من حلبجة حتى بر الأناضول.
لكن ماذا عن الآن؟
صراع سني شيعي في بغداد تناسل صراعات سنية سنية، وصولاً حتى مسخ “داعش” وأخواتها، وصراعات شيعية شيعية من النوع اللاعقلاني غالباً، كان يحتاج إلى مستودع حكمة في مكان ما وسط تلك الفوضى التأسيسية. إلى موقع وسط يعقل ويتعقل. إلى مركز سكون في جنون صراعات السلطة ومليارات هدرها. منصب واحد على الأقل يجمع ولا يقمع. يصل ولا يفصل. يجسر ولا يأسر. هذا ما بدا في الأساس الدور والعلة والوظيفة المعطاة أو المرتجاة لرئاسة الجمهورية العراقية. رأس دولة ميثاقية، لكن في نظام برلماني. موقعٌ لا شكلي بل رمزي. رمزيته أفعالٌ تخاطب العقل والوجدان. لا ارتجال يحرّك الغدد والغرائز. ولهذا كانت الرئاسة لكردي، أي لعراقي عراقي، يأتي من الطرف إلى المركز، فيُحوّل رئاسته إلى حركة جاذبة للأطراف المنبوذة نحو المركز الحاضن. علّه بذلك يسقط أي جنوح أو جموح أكثري في العاصمة، يتوهم تحويل سلطة الدولة إلى حركة طاردة من المركز النابذ، لكل الأطراف المدفوعة دفعاً، صوب ما بعد الطرف والطرفية.
رئاسةٌ، تؤكد للكرد أنهم في العمق عراقيون أصيلون. رئاسةٌ تقنع الشيعة والسنة أن العراق للجميع، بنفس الكرامة والحق. رئاسة حَكَمٍ لا حاكم. رئاسة قوة منطق لا منطق قوة. رئاسة أداتها صوت الحق لا مجرد النق. خطابها الإقناع لا الإكراه.
في الأيام المقبلة، سيكون العراق أمام استحقاق الاختيار بين النموذجين. بين من يريد الرئاسة سلعة لأحد أزلامه، يستخدمه ويستخدمها لمزيد من سلطة طاردة لوحدة العراق والعراقيين، بما يجر المزيد من الخراب على الجميع في المركز كما في الطرف
والعراق في الأيام المقبلة، أمام احتمال الخيار الفعلي بين النموذجين. بين رئيس مركزي يحاول تجسيد المفهوم الميثاقي المذكور، وبين زعامة طرفية موروثة عن عائلة تاريخية، معها السلاح والمال المقتطع بكل الوسائل والأدوات وغنائم الدويلة وهزائم الدولة الفاشلة. زعامة لم تطوِ بعد أوهام الانفصال ولا استفتاءات التقسيم. تُلوّحُ بها لدغدغة النفوس وتغطية الفساد. تحاول بشعارات الخصوصية وبشعبوية حقوق “المكون”، تخريب الدور والمثال والنموذج من أجل كرسي، متجاهلة أن في الانفصال ـ ولو كلامياً ـ شيئاً من الانتحار في الفعل. بحيث يرفع منسوب الاحتراب السني الشيعي، لترتفع مخاطره على كل العراق، من أقصى ثلوج دهوك حتى مياه أم قصر.
في الأيام المقبلة، سيكون العراق أمام استحقاق الاختيار بين النموذجين. بين من يريد الرئاسة سلعة لأحد أزلامه، يستخدمه ويستخدمها لمزيد من سلطة طاردة لوحدة العراق والعراقيين، بما يجر المزيد من الخراب على الجميع في المركز كما في الطرف.
وبين محاولة أخرى أكثر صعوبة ربما، لكنها قد تسعى إلى بناء وطنٍ، لا يموت أطفاله في “مجزرة جبلة” بلا تفسير. ولا تجرف فيضانات إربيله أكواخ فقراء جنوبها، بعيداً عن قصور أوليغارشيي شمالها المتخمين فساداً وإفساداً. ولا يخرج مسؤولوه ليحاولوا إقناع العراقيين، بأن مشكلتهم الوحيدة الآن، هي حفلة غنائية لفنان مصري، أو أن الحل لكل مشكلاتهم يكمن في تحريم الغناء دستورياً ورجم الموسيقى واستدامة التخدير.
نتحدث في كل ذلك عن العراق. أما لبنان – كميل شمعون، فرحمه الله..
@JeanAziz1