لبنان “من الآخر”.. لا موازنة ولا اتفاق مع صندوق النقد!

أعلنت الحكومة اللبنانية، أمس، أنها بدأت مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وقال نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي إن النقاش "سيُركز خلال أسبوعين على الموازنة والقطاع المصرفي وسعر صرف الليرة وميزان المدفوعات وقطاع الطاقة والحوكمة ومساعدة العائلات الفقيرة، وغيرها من الموضوعات التي ستشكل العناصر الأساسية لبرنامج التعافي الاقتصادي".

من حيث الشكل، يحق للحكومة بث بعض التفاؤل، على الطريقة الرواقية الميقاتية، في هذا الجو القاتم الضاغط على صدور اللبنانيين منذ أكثر من سنتين. لكن ليس بالتمنيات الجوفاء وحدها يخرج لبنان من أزمة صنّفها البنك الدولي بين الأعنف على مستوى العالم منذ 1857.

فصندوق النقد يريد خطة ممهورة بتوقيع مجلس الوزراء اللبناني حتى يناقشها رسمياً وتفصيلياً. أيضاً، يطلب موازنات لسنوات عدة تعكس الاصلاحات النوعية المخطط تنفيذها جراحياً خلال 3 الى 5 سنوات هي مدة القرض المتوقع من الصندوق. أما قول سعادة الشامي بأن المفاوضات الآن تشمل الموازنة ففيه أيضاً استباق للأحداث يشي بأنه يريد قول “أي كلام” يطمئن الناس بالطبطبة الى ان حكومة المنقذين تعمل. مع علمه اليقين أنه يتجاهل عدم اقرار الموازنة بعد في مجلس الوزراء. وأنه يمكن لأي مراقب عادي، فما بالك بالشامي، توقع شبه استحالة اقرار مشروع قانون الموازنة، كما قدمه وزير المالية يوسف خليل. للدلالة السهلة، تكفي الاشارة الى ملاحظات حزب الله والتيار الوطني الحر عليها في بيانات وتصريحات نارية، ما دفع بحركة أمل أيضاً الى اصدار بيان أمس تأخذ فيه مسافة مع الموازنة ووزيرها المحسوب سياسياً عليها. وإلى الاطراف الثلاثة المذكورة يضاف آخرون، من نفس الطينة والعجينة، سارعوا الى توجيه انتقادات شعبوية للمشروع تصوّب فوهتها على الرسوم والضرائب المثقلة لكاهل المواطنين المنكوبين من نفس الطبقة المدعية الدفاع عن مصالحهم.

وبين إرادة الشيء ونقيضه، هناك مفارقة عالقة في بلعوم معظم الاطراف السياسية مكونة من رغبة هلامية لديهم بالتوصل سريعاً الى مجرد اعلان مبادئ اتفاق مع صندوق النقد. تنضح هذه الرغبة “المفوخرة” في تصريحاتهم المتناغمة او المرغمة على التناغم مع رغبة المجتمع الدولي الخاصة بتسريع الاصلاحات في لبنان ليحصل على قروض انقاذية قبل انفجار صيغته وتشظيها وبلوغ شراراتها حدود المتوسط كما الجنوب.. والشرق المشتعل أصلاً.

يبدو لبنان حالة فريدة عالميا نقلاً عن مسؤوول غربي كبير أسر الى مسؤول حكومي لبناني دهشته من تلك الفرادة غير المسبوقة عالمياَ وفقاً لتجارب الصندوق مع عشرات الدول. والسؤال الحار الملتهب في فم المراقبين هو: كيف ان الصندوق قد يتساهل مع لبنان، بإيحاء غربي، وهو غير جاهز لتلقف الفرصة، ولا يبدو انه سيجهز قريباً لاعتبارات ضيقة سياسياً

في المقابل، بات واضحاً ان معظم تلك الأطراف غير جاهزة للمضي قدماً في أبسط مطالب صندوق النقد القائمة على زيادة الإيرادات، كما جاء في مشروع موازنة 2022. فأي تأييد للجباية من الناس أكثر.. سيثير غضب الناخبين، وبالتالي تتأثر شعبية هذا الحزب او تلك الحركة وذاك التيار عشية استحقاقي الانتخابات التشريعية والرئاسية.

قد لا يلام السياسيون المراؤون، فالأوضاع بلغت مستوى من التعقيدات أكبر منهم، مهما علا كعب خبث ذكائهم، وأكبر من قدرة لبنان بقضه وقضيضه على التحمل. فالبلاد الآن تشبه مريضاً مصاباً بورم خبيث لا يمكن استئصاله، مع بقاء نفس المنظومة، إلا بخطر الإعاقة الدائمة مع احتمال ضئيل جداً للنجاة بأعجوبة.

وعلى سبيل السؤال الساذج، عن أي إيرادات ممكنة نتحدث؟ ففي مشروع الموازنة ايرادات متوقعة بأكثر من ضعفي ما ورد في  موازنة 2021. فهل، من حيث لا ندري، خرجنا من الأزمة وتعافى اقتصادنا نامياً بقوة لجباية هذا القدر من الإيرادات الإضافية؟ وهل ارتفعت مداخيل الأفراد والشركات لنجبي منهم أكثر بقلب قوي وضمير مرتاح؟ وللمثال التعجيزي، تلحظ الموازنة رسوماً بين 3 و10% على كل السلع المستوردة، بدولار جمركي جديد قد يصل إلى 20 ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد بدلاً من 1500 ليرة. ثمة رسوم ستشعل مجدداً فتيل موجة غلاء اضافية حتمية بعد تسجيل تضخم بنسبة 700% منذ العام 2019 أدخلت 80% من السكان في خانات الفقر بنسب مختلفة.

في جانب النفقات أيضاً، وللتخفيف من الأهوال، أغفلت الموازنة مصروفات كثيرة عمداً حتى لا تنفجر أرقام الإنفاق وتتعمق هوة العجز. وللمثال أيضاً، تحتاج الكهرباء مليار دولار هذه السنة، وليس لها في الموازنة إلا 230 مليوناً من العملة الخضراء لا تدخل في حساب العجز. وتحتاج البطاقة التمويلية المقرة بقانون للفقراء 556 مليوناً، ولا أثر لها في الموازنة لا مباشرة ولا بالإشارة الى قروض مجدولة مثل قرض البنك الدولي.

الى ذلك العَفَس، تطرح جملة أسئلة عن منح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الشريك الكامل المسؤولية العبثية مع المنظومة، صلاحيات خاصة حصرية بالودائع بين جديدة وقديمة، وبأسعار الصرف وبعض الرسوم والضرائب، كما لو ان المنظومة أدمنت الخلط غير الحميد (إن لم نقل الشرير) بين السياستين النقدية والمالية والتي أورثت ويلات لا عد ولا حصر لها كلها حتى الآن. والأنكى أن الموازنة لم تعالج تعدد أسعار الصرف، لا بل كرسته وزادت عليه، مع توقع رسوم وضرائب بين 1500 ليرة للدولار وسعر المنصة (20 ألفاً أو أكثر) حسب القطاع، وكذلك الحال بالنسبة للنفقات. هذا التعدد الذي أنهك الاقتصاد وأفاد المضاربين أولاً وأخيراً خلق شريحة ثعالب طفيليين مرابين منتعشة نهشاً في الجيف منذ سنتين، ولا خروج آمناً من شراكها يلوح في الأفق بعد. فبعد افادة هؤلاء من مليارات الدعم، انقضوا على مئات ملايين دعم الليرة الاسبوع الماضي، ويتربصون الآن بالموازنة وقطبها المخفية لتحقيق الثروات برغم تهالك الاقتصاد وهلاك قطاعاته وأفراده.

ما توصلت إليه لجنة التفاوض مع صندوق النقد بشأن توزيع الخسائر المقدرة بنحو 69 مليار دولار قد يأخذ حيزاً مثيراً من النقاش مع الصندوق الحائز على أرقام أعلى بكثير من الخسائر وقد يصل الفارق الى 30 أو 40%. أما كيفية توزيع تلك الخسائر فقد لا تشكل عقبة مع الصندوق

لذا وبالعودة الى صندوق النقد، فالمعلومات تشير الى ان ما بدأ، أمس، لا يعدو كونه محادثات تتناول بعض الجوانب الفنية من دون الدخول في شروط الصندوق لمنح القرض. فتلك الشروط توضع بعد درس خطة التعافي غير المنجزة نهائياً بعد، وبعد انجازها يجب اقرارها في مجلس الوزراء، وما أدراك ما مجلس الوزراء في هذه الأيام.

إقرأ على موقع 180  حل مجلس الإنماء والإعمار أولاً

وفي المعلومات أيضاً أن ما توصلت إليه لجنة التفاوض مع صندوق النقد بشأن توزيع الخسائر المقدرة بنحو 69 مليار دولار قد يأخذ حيزاً مثيراً من النقاش مع الصندوق الحائز على أرقام أعلى بكثير من الخسائر وقد يصل الفارق الى 30 أو 40%. أما كيفية توزيع تلك الخسائر فقد لا تشكل عقبة مع الصندوق، من ناحية المبدأ المشروط، اذا قدرت الحكومة (مع مجلس النواب) على تسويقها وبالتالي فرضها. إلا أن الفرض مستحيل حالياً لا سيما تحويل معظم الودائع الدولارية الى ليرة فاقدة لقيمتها مع خيارات تملك أسهم في بنوك شبه مفلسة وسندات أبدية مرتبطة بأصول وموجودات عامة تحت سيطرة نفس المنظومة الفاسدة التي عبثت بالبلاد والعباد وأوصلت لبنان الى هذا الخطر الوجودي الذي يتهدده. فكيف يمكن اقناع المودعين (الناخبين) انهم خسروا 70 الى 80 % من مدخراتهم عشية الانتخابات؟

بيد أن في النفق بقعة ضوء، إذ لا بد من أخذ الرغبة الدولية في الاعتبار وهي الضاغطة أمس واليوم وغداً لتسريع المفاوضات وتوقيع الاتفاق مع لبنان. ورغم ذلك الضغط، يبدو لبنان حالة فريدة عالميا نقلاً عن مسؤوول غربي كبير أسر الى مسؤول حكومي لبناني دهشته من تلك الفرادة (غير العبقرية) وغير المسؤولة وغير المسبوقة عالمياَ وفقاً لتجارب الصندوق مع عشرات الدول. والسؤال الحار الملتهب في فم المراقبين هو: كيف ان الصندوق قد يتساهل مع لبنان، بإيحاء غربي، وهو غير جاهز لتلقف الفرصة، ولا يبدو انه سيجهز قريباً لاعتبارات ضيقة سياسياً وانتخابياً وطائفياً ومصلحياً في مشهد انقسامات عمودية وأفقية ابعد ما يكون عن ضرورة الاتفاق على الاعتراف أولاً بهول الأزمة وضرورة إجراء الجراحة الاصلاحية المؤلمة على وجه السرعة ثانياً، لانقاذ الدولة من التحلل والناس من البؤس المستدام والهجرة الحزينة في اصقاع الأرض هرباً من مصير قاتم.

لا بل أن العالم مذهول من تعايش اللبنانيين وزعمائهم في صيغة مفخخة الآن بالفقر الاجتماعي الموجع والتشظي السياسي المفجع على سرير الموت الإقتصادي المدقع . أما “الأمن فلا تهزه واقف على شوار” ، يشبه “شوارات” من الطيونة وخلدة الى جبال صعدة ومأرب مروراً بإدلب ودرعا والأنبار.. وباقي الأمصار!

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  مئوية لبنان الكبير تستحق الإحتفال أم الجنازة؟