بالرغم من أنّ فكر عصر الحداثة كان، إجمالاً، معادياً للدين والتديّن، ظلّ الدين من العناوين المهمّة والرئيسيّة عند كثير من الشعوب، بما في ذلك الغربيّة (أوروبّا وأميركا الشماليّة).
إستُخدم الدين كأداة استعماريّة لإخضاع أو “تمدين” شعوب العالم، وكان له أيضاً دور في كثير من حركات التحرّر. وحتّى في العالم الغربي، فإن الدين من الأمور التي ينقسم حولها المجتمع، ولا يُمكن التغاضي عن تأثيره في الحياة السياسيّة والإجتماعيّة، خصوصاً في ما يتعلّق بالتقاليد والقوانين والتشريعات (مقولة فصل الدين عن الدولة هي من الأكاذيب التي يتبجّح المجتمع الغربي بها).
في العالمين العربي والإسلامي، الدين هو من العناصر الأساسيّة عند أغلبيّة الناس. وللأحزاب الدينيّة اصطفافات متفاوتة حيال الكثير من القضايا مثل مواجهة الهيمنة الغربيّة، الصراع مع إسرائيل، العلمنة، التغيير والإصلاح، الخ.. وهناك شرخ كبير بين الحركات اليساريّة والعلمانيّة وبين التنظيمات الدينيّة، وهو ناتج إجمالاً عن مقاربة ماركسيّة أو علمانيّة للدين وطبيعته ودوره، أقلّ ما يمكن القول فيها إنّها سلبيّة وعديمة الأفق.
وإذا قمنا بمراجعة نقديّة لهذه المقاربة، نجد مشكلتين أساسيّتين. الأوّلى؛ قراءتها الخاطئة لطبيعة الدين ودوره، وهذه قراءة الكثير من مفكّري الماركسيّة والعلمانيّة بعد أن أصبحت شائعة في أوروبا منذ القرن الثامن عشر، وترتكز تحديداً على أن الرجل العصري ليس بحاجة للدين وخرافاته وعليه التحرّر منه. وأنا أستخدم هنا تعبير ذكوري عن قصد لأنّ الفكر الماركسي والعلماني الذي أنتج هذه الخلاصة كان فكراً ذكورياً، كالفكر الديني عامّةً، قرأ وفسّر التاريخ وكأنّه يعني الرجال فقط، بوصفهم المعنيّين به والمؤثّرين فيه!
المشكلة الثانية؛ توصيف الدين كأداة لقمع الشعوب (مثل المقولة الشهيرة أنّ “الدين أفيون الشعوب”، وهي صحيحة من منطلق أنّ أيّ ايديولوجيّة يمكن أن تصبح كالأفيون إذا أدمن عليها المجتمع بدل أن يستخدمها كأداة في يده لحلّ مشاكله).
في هذا الإطار، علينا أن نسأل هل هذه المقاربة صحيحة؟ الجواب واضح. مقاربة الدين كأنّه النقيض للتمدّن وقيم الحداثة هو نتاج التجربة الأوروبيّة ولا ينطبق على المجتمعات الأخرى، تحديداً العربيّة والإسلاميّة. من جهة، نجد تدخّل الكنيسة الكاثوليكيّة والبابوات أثناء ما يسمّى العصور الوسطى وعصر النهضة في السياسة الأوروبيّة بشكل مباشر، حتّى أصبح للفاتيكان مملكة وجيشاً وله سطوة كبيرة. أثناء عصر النهضة، بدأت الثورة على نفوذ الفاتيكان، وظهرت المذاهب البروتستانتيّة. ونتج عن ذلك أيضاً قيام العديد من ملوك أوروبا بتنصيب أنفسهم ممثلين لرأس الكنيسة في ممالكهم، كما حدث في إنكلترّا مع الملك هنري الثامن. وكرّت السبحة بعده، بحيث أصبح بعض الملوك أو الملكات إمّا رؤساء الكنيسة في بلادهم (كما في بعض الدول البروتستانتيّة)، أو بدأوا بمنافسة الباباوات والتصرّف كأنّهم ظل الله على الأرض (فرنسا وبعض الدول الكاثوليكيّة). وهذا ما دفع بالكثير من مفكّري عصر التنوير (فولتير مثلاً) إلى الثورة على هذا الواقع واتّهام الدين بأنّه سبب الظلم والتخلّف..
الدين هو جزءٌ منّا، شئنا ذلك أم أبينا. دراسته تُعرّفنا بمجتمعاتنا، الجيّد فيها والسيّء… هذا لا يعني بتاتاً أنّه علينا أن نكون متديّنين، أو أن نُطوّل اللحى ونقصّ الشوارب. ما يعنيه أنّه على اليساريين والعلمانيين أن يكونوا منفتحين على مسألة فهم الدين بكل تعقيداته، حتى يصبح أقلّ عرضة لأن يكون مرتعاً للجهل ومصدراً للقلاقل
وهناك عامل آخر أوروبّي يتمثل في إندفاع الكثير من المفكّرين المتنورين لفرض نظريّات ومفاهيم من دون دراستها بعمق وتأن. فبدأ فهم الكثير من الأمور (خصوصاً في مجال العلوم الإنسانيّة) يتأزّم ويتخذ منحى عنصرياً لأنّه أصبح أسير نظريّات وتعريفات عشوائيّة متغطرسة، أدمن عليها المفكّرون الأوروبيّون (ومن قلّدهم في العالم)، فأصبحت لهم كالأفيون، تمنعهم من فهم الأمور على تعقيدها وتشعّبها.
تجربة الفاتيكان هي تجربة فريدة في تاريخ الأديان، ولا نجد لها مثيلاً في التاريخ الإسلامي. صحيح أنّ نظام الخلافة الإسلامية (نظام استنبطه الأمويّون ولم يكن موجوداً قبلهم) حاول الهيمنة على الدين من خلال شخصية الخليفة، لكنّهم فشلوا في ذلك. ونظام الإمامة عند الشيعة فشل أيضاً.. لذلك نحن أمام تنوّع واختلاف كبير بين الفرق الإسلاميّة. وفي المقلب الآخر، نجد تقوقع مؤسّسة الخلافة واستبدالها في القرن الحادي عشر بمؤسّسة السلطنة كمركز للحياة السياسيّة. ويتعلّق هذا الأمر بفشل الخلفاء (تحديداً بين زمن عبد الملك بن مروان والمأمون، أي بين سنتي 685 و833) في فرض أنفسهم كخلفاء الله، يحكمون باسمه. بمعنى آخر، تجربة جمع الرئاسة المطلقة في عالمي السياسة والدين أفشلها المسلمون أنفسهم.
ومنذ القرن التاسع للميلاد، فُصل الدين عن الدولة، بمعنى أنّ مراجع الدين (وهم علماء الدين) لم يكونوا قادة الدولة في آن واحد. ويمكن أن نذهب أكثر في مقولة أنّ رجال الدولة وضعوا حدوداً لتدخّل رجال الدين في أمور الدولة. هناك نماذج لفقهاء مشهورين كعزّ الدين بن عبد السلام (ت. 1262) وابن تيمية (ت. 1328) ومن شابههما، والذين كانوا يطالبون بما يمكن وصفه بإخضاع السلاطين لسلطة علماء الدين. هذه النماذج لم تكن ناجحة في وقتهم، وانتهى بهم الأمر، بسبب بذاءة ألسنتهم، أن أصبحوا منبوذين (ابن تيمية حُبِسَ مراراً ومات في السجن؛ العزّ طُردَ من وظائفه في دمشق والقاهرة؛ الخ).
إذا عدنا إلى العالمين العربي والإسلامي في العصر الحديث، نجد أنّ مقاربة الكثيرين من المفكّرين العلمانيّين واليساريّين لم تكن مقاربة عضوية طبيعيّة لموضوع الدين. أعني هنا أنّها لم تكن استمراريّة لنقاشات كانت موجودة في عصر الإسلام الكلاسيكي، ولم يكن أكثرها أيضاً نتاج واقع عايشوه فعليّاً بقدر ما هو فكر استوردوه من أوروبا وأقنعوا أنفسهم أنّه ينطبق على واقعهم (وهذا مشابه لكثير من الأفكار التي استوردها روّاد العروبة والعلمنة واليسار في العالم العربي).
صحيح أنّ بعض الأحزاب الإسلاميّة استخدم الدين كأداة من أجل إخضاع الناس. وصحيح أنّ البعض طوّر نظريّات دينيّة هدفها الأساس الهيمنة على المجتمعات الإسلاميّة وفرض “رؤيات” وسياسات ليست بالضرورة في مصلحة مجتمعاتهم. لكن الفكر الإسلامي عامّةً فيه من التناقض ما يحتم علينا الإبتعاد عن إطلاق التعميمات والأحكام المتهورة في ما يخصّ الدين ودوره.
الدين هو نتاج الفكر الإنساني، وعلينا دراسته كما ندرس الكثير ممّا أنتجه الفكر الإنساني كي نفهم الدوافع التي أدّت لإنتاجه وكيف استخدم وما هي مفاعيله وكيف تغيّر مع الوقت، وكيف اقتنع به البعض وأقنعوا الآخرين به، وأين فوائده وأين مضارّه؟
وعلينا دراسة الدين لنتمكّن من فهم أو الردّ على ما يقوله بعض رجال الدين والأحزاب الدينيّة التي تتدخّل في السياسة والإقتصاد والمجتمع والثقافة والفن والأكل والشرب، إلخ، ولها تأثير كبير على الشعوب.
أما القول بترك الدين جانباً ومقاربة الأمور (السياسيّة وغير السياسيّة) من موقع علماني فهذا هدف بعيد المدى، ومن الصعب إنجازه إذا لم نحضّر له برنامجاً واقعياً. فالدين ليس فقط معتقدات وشعائر يؤمن بها البعض ويمارسها. هذا جزء بسيط جدّاً من الدين. الدين هو أيضاً تأثير هذه المعتقدات على تصرّفات الناس. الدين هو الحيل الدينيّة التي يلجأ إليها الناس من أجل تسهيل أمورهم وحلّ مشاكلهم، والالتفاف على نفاق أو غلوّ رجال الدين، الخ.
مثلاً، غير صحيح أنّ الإسلام يفرض على المسلمين الإنصياع لسلطة النصّ. هذا رأي في الإسلام، يقابله رأي آخر يقول إنّ الله خلق في الإنسان عقلاً عليه أن يستخدمه مع النصّ (مثل رأي الغزالي والرازي) أو هو أهمّ من النصّ (مثل رأي ابن سينا وابن رشد).
عندما ندرس الأديان كموضوع علمي فنحن ندرس تاريخ الفكر البشري، في أبعاده السوسيولوجية والسيكولوجية، الواقعية والروحانية، الخضوعية والثورجية، الخ. ويمكن أن نتحدّث عن مفهوم الهويّة والتراث والفنّ والأدب وغيرها.. كأمور يلعب فيها الدين دوراً كبيراً، من دون أن يكون لذلك علاقة بالإيمان المحض.
في الخلاصة، الدين هو جزءٌ منّا، شئنا ذلك أم أبينا. دراسته تُعرّفنا بمجتمعاتنا، الجيّد فيها والسيّء، المثالي والوصولي، المتحرّر والخضوعي، الخ. وهذا لا يعني بتاتاً أنّه علينا أن نكون متديّنين، أو أن نُطوّل اللحى ونقصّ الشوارب. ما يعنيه أنّه على اليساريين والعلمانيين أن يكونوا منفتحين على مسألة فهم الدين بكل تعقيداته، حتى يصبح أقلّ عرضة لأن يكون مرتعاً للجهل ومصدراً للقلاقل.