خرافة إغلاق باب الاجتهاد رائجة ليس لصحّتها، بل لأنّها تقدم تفسيراً سهلاً (وسطحياً) للمشاكل التي واجهها العرب والمسلمون منذ القرن الثامن عشر. شاعت هذه الخرافة نتيجة عوامل عدة، أهمّها الفهم الخاطئ للفكر الإسلامي الكلاسيكي؛ الإنبهار بالحضارة الأوروبيّة والتفوق الأوروبي؛ شيوع عقدة النقص عند الكثير من المفكّرين العرب والإسلاميين؛ والإندفاع المستميت لخلق نهضة (فكريّة وإقتصاديّة وسياسيّة وإجتماعيّة و..) من دون وعي لضرورة تأسيس ركائز نهضوية حتى تنجح وتصل إلى النتائج المرجوّة.
قبل الخوض في قضية الإجتهاد، علينا التوقف عند عبارتي الإجتهاد والتقليد. عبارتان مصدرهما قاموس الفقه الإسلامي، أي لم يكن لهما استخدام واضح قبل ظهور المذاهب الفقهية في أواخر القرن التاسع ميلادي. قبل ذلك، كان الفقهاء يعبّرون في أحكامهم وأفكارهم عمّا يعتقدونه صواباً وفقاً لرأيهم الشخصي، ويستنجدون في بعض الحالات بمصادر (آية من القرآن، حديث منسوب إلى النبي محمد أم إلى أحد الصحابة أو التابعين أو إلى مصادر أخرى). وأدّى ذلك إلى كثير من التناقضات والإلتباسات التي نجدها في معظم كتب التراث الإسلامي.
لكن في القرن التاسع ميلادي ونظراً إلى حاجة الدولة العبّاسيّة إلى تنظيم عملها في بعده المتعلّق بالفقه والقانون، تقرّر الإعتماد على خمسة مذاهب سنّيّة (نعم خمسة وليس أربعة كما يظن كثيرون خطأً)، وهي الحنفيّة والمالكيّة والشافعيّة والحنبليّة والظاهريّة. هذه المذاهب لم يؤسّسها أبو حنيفة ومالك بن أنس والشافعي وابن حنبل وداوود الظاهري، بل أسّسها تلامذتهم وتلامذة تلامذتهم بناءً على بعض الاستنسابيّة وكثير من التهذيب والتشذيب لأفكارهم. وكانت هناك أيضاً مذاهب شيعية فقهيّة، أهمّها: الجعفري والزيدي والإسماعيلي.
التقليد هو تنفيذ الشرع وفقاً لما يراه أتباع كلّ مذهب من هذه المذاهب، وأصبح التخصّص في الفقه ودراسته محصوراً بالمذاهب الخمسة، وهي حالة لم يعرفها التاريخ الإسلامي قبل العصر العباسي
ولعل من أبرز نتائج هذه الحصرية للمذاهب الفقهيّة الخمسة أنّ الخلافة العبّاسيّة أصبحت خلافة سنّيّة، أي همّها الأساس رعاية المصالح السنيّة مع العلم أنّ الكثير من رعاياها كانوا من الشيعة والمسيحيّين واليهود. لكن الأهمّ من ذلك أنّه منذ ذلك الوقت، أصبح على القضاة السنّة وأجهزتهم القضائيّة إتباع أحد المذاهب الخمسة. إذاً، التقليد هو تنفيذ الشرع وفقاً لما يراه أتباع كلّ مذهب من هذه المذاهب، وأصبح التخصّص في الفقه ودراسته محصوراً بالمذاهب الخمسة، وهي حالة لم يعرفها التاريخ الإسلامي قبل العصر العباسي. لذلك صار هناك فقهاء متخصّصون بمذهب معيّن، وأكثرهم لا يدري شيئاً عن المذاهب الأخرى، وجُلّ همّهم تطبيق الأحكام وفقاً لمذهبهم على من يتبعهم من الناس. هؤلاء هم أهل التقليد، أي تقيدّوا بما أملته كتب الفقه وتعاليم مذهبهم في مواضيع الشرع (يمكن مقارنتهم اليوم بقضاة المحاكم الابتدائية الذين ينفذون القانون ولا يشذّون عنه أو لا يسمح لهم – نظرياً على الأقل – أن يشذّوا عنه).
وظهر منذ ذلك الوقت أيضاً فقهاء اشتغلوا بأصول الفقه وتعمّقوا في دراسة شريعة مذهبهم والمذاهب الأخرى من أجل الإبقاء على الشريعة الإسلاميّة حيّة وديناميّكية، وإستخدموا مفاهيم جديدة من أجل حلّ المشاكل التي واجهوها، مثل الضرورة، المصلحة، ومقاصد الشريعة، إلخ، وهي مفاهيم طُبقت لتغيير أي قانون أو عُرف شرعي، أكان أصله من القرآن أم السنّة النبويّة أم رأي لإمام من أئمّة الفقه (يمكن أن نقارن هؤلاء بقضاة الاستئناف والمحكمة الدستورية في يومنا هذا، والذين بإمكانهم نقض الأحكام ومراجعتها وإعادة صياغتها وفقاً لقراءتهم وتفسيرهم للقانون). ومع مر السنين، أصبحت أفكار هؤلاء الفقهاء وأحكامهم جزءاً لا يتجزأ من الشرع الاسلامي. إذاً الإجتهاد لم ينقطع بتاتاً في الإسلام.
وكان هناك إجتهاد أيضاً في ميادين أخرى، وإن لم تكن الكلمة مستخدمة بشكل شائع، مثل الكلام والتفسير والفلسفة والتصوّف والعلوم على أنواعها. نجد مفكّرين حصروا فكرهم وجهدهم بآراء أصحاب مدرستهم، وآخرين اجتهدوا فيها ونقضوها وطوّروها لا بل تلاعبوا بها.
الهرولة من أجل “تحديث” العالم الإسلامي والشعوب الإسلاميّة وسيطرة عقدة النقص على كثير من المفكرين الإسلاميين منذ القرن الثامن عشر أحدثت شرخاً مع التراث الإسلامي، من الصعب إعادة لحمه. لكن الأنكى من ذلك هو إلقاء اللائمة على غلق باب الاجتهاد وتفشي التقليد في الإسلام لتفسير حالة الإنحطاط التي بلغها المسلمون سياسياً وعسكرياً وتكنولوجياً وإقتصادياً ومعرفياً وثقافياً مقارنةً بعظمة أوروبا. فاختلفوا في المخرج منها، هل يكون بتقليد الحضارة الغربيّة، أم بتقليد النبي محمد، أم بتقليد هارون الرشيد أو المأمون أو أي بطل آخر من أبطال الإسلام؟
هربنا من تقليد لنقع في تقليد أفظع، خلق فينا سلفيّات أعمتنا عن فهم الإسلام كدين حيوي يمكن التعامل معه كما تعامل معه أبو حنيفة والشافعي والأشعري والطوسي والقاضي عبد الجبّار والقاضي النعمان وابن تيميّة و..، فكان أن خلقوا منه العديد من الألوان والأشكال على مرّ الزمان والمكان. بالمقابل، هناك من أراد إعادتنا إلى ما أسماه “العصر الذهبي”، أي القطع مع كل التراث الإسلامي الغني بالمفاهيم والعقائد. بهذه الطريقة رحنا نصنع السلفية الحديثة بأيدينا بعدما أقنعنا المستعمر أنّ “تخلّفنا” هو سبب مشاكلنا ومعاناتنا، وليس بطشه وجشعه وعدم إنسانيّته (لسنا الوحيدين الذين سقطنا في فخّ دجل الحضارة الغربيّة). لم ندرس التاريخ لنفهم أنّ من إنتشل أوروبا من جهلها ليس عصر النهضة وعصر التنوير، بل كان نتيجة نهبها الممنهج لثروات العالم منذ القرن السادس عشر واستعبادها للكثير من البشر وسحق أحلامهم من أجل أن تكون أوروبا وحدها مشعلاً للحريّة والتقدّم. فكان الإنبطاح الكبير أمام الحضارة الغربيّة وهو ما زاد من معضلاتنا.
الإجتهاد ليس بالضرورة عكس التقليد، وليس بالضرورة شيئاً جيّداً، والتقليد أيضاً ليس بالضرورة شيئاً قبيحاً. الأمران ليسا متناقضين. الأساس أن لا نبقى أسرى حالة الإستلاب لفكر الغرب وحضارته وأن نتوقف عن جلد أنفسنا. ففي تراثنا الإسلامي العابر للأديان الكثير من أسباب منعتنا وقوتنا وما يفيدنا في بناء أوطان وإنشاء أجيال
حتّى الذين لم يتقبّلوا الانبطاح وقرروا أن الفكر الإسلامي قادر على مجاراة الفكر الأوروبي شرط فتح باب الاجتهاد. هؤلاء خلعوا بابه ودمّروا هيكله عبر ممارستهم للإجتهاد بسلفيّة عمياء وعن جهل بتعدّديّة الفكر الإسلامي، وكأنّ همّهم المزايدة على الأوروبي في موضوع تخلّفنا. فأصبح همّنا إيجاد أمثلة وأبطال من تاريخنا لكي نقنع أنفسنا أن الثورة والتجديد والعقلانيّة والإنسانيّة كانت من تراثنا في ما مضى ولولا التقليد لكنّا في مقدّمة الأمم، وأنّنا كنا روّاد العلوم والفلسفة قبل أن “يسرقها” منّا الأوروبي.
كيل الشتائم على من أغلق باب الاجتهاد لم يساعدنا بتاتاً، بل زادنا ويزيدنا ضياعاً وانكماشاً، وأسس لفهم ومقاربة ووعي خاطئ للأسباب الحقيقيّة وراء الإنحطاط في العالم العربي والإسلامي. وبدل أن نأخذ الثور من قرنيه، رمينا الدين لمن ليس له نفع في أي كار آخر. فأصبح الإسلام عنوان التخلّف اليوم. عظمة المسلمين والإسلام بدأت فقط عندما عرفوا جيّداً في لحظة تاريخيّة مناسبة ما الذي يريدون استعارته من الأمم التي سبقتهم ليستخدموه في خلق حضارة شارك فيها العديد من غير المسلمين.
إذا أردنا العودة إلى الإسلام الصحيح وإلى الاجتهاد لعلّهما يوفرا حلاً لمشاكلنا، عن أي إسلام نتحدث وكيف نجتهد فيه، ومن سيكون المجتهد؟
تستذكرني هنا قصة تُروى عن غراب رأى في يوم من الأيام حجلاً يهدُل في مشيه هدلاً فأعجبته طريقة المشي، فقرر أن يُقلّده. بعد بضعة أسابيع من المحاولات الفاشلة أيقن هذا الغراب البائس أنّه ليس باستطاعته أن يهدُل بالمشي كالحجل، فقرر العودة إلى سابق مشيه ولكنه نسي فجأة كيف يمشي الغراب!
ثمة خلل معرفي (epistemological blunder) نتج عن فهم خاطئ لمعنى الإجتهاد ودوره، وأيضاً للتقليد ودوره. الإجتهاد ليس بالضرورة عكس التقليد، وليس بالضرورة شيئاً جيّداً، والتقليد أيضاً ليس بالضرورة شيئاً قبيحاً. الأمران ليسا متناقضين. الأساس أن لا نبقى أسرى حالة الإستلاب لفكر الغرب وحضارته وأن نتوقف عن جلد أنفسنا. ففي تراثنا الإسلامي العابر للأديان الكثير من أسباب مناعتنا وقوتنا وما يفيدنا في بناء أوطان وإنشاء أجيال.