بحسب وثائق “الموساد”، فإن محاولة “تجنيد” الصحافي المصري محمد حسنين هيكل المزعومة جرت خلال فترة الستينيات من القرن الماضي، أي عندما كانت مصر في حالة حرب مع إسرائيل، وكان هيكل (1923 – 2016) آنذاك مستشاراً للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وأحد أقرب المقربين إليه وكاتم أسراره.
وبحسب أورين، فإن “الموساد” وضع عملية “مفصلة ومعقدة” حول هيكل، من أجل التقرب منه وإقناعه بالاجتماع مع مسؤولين إسرائيليين، أو حتى زيارة إسرائيل، لكن “وطنيته الشرسة ومعارضته الشديدة لإسرائيل حالتا دون ذلك”. وبعد مرور ما يقرب الستة عقود، تعيد الثقافة الشعبية الإسرائيلية إحياء ذكرى هيكل من خلال فيلم بعنوان “صورة النصر” (إنتاج عام 2021)، تدور أحداثه حول حرب عام 1948.
صانعو الفيلم لا يطلقون على هيكل صفة “البطل الرئيسي”، لكن الشخصية المحورية التي تروي أحداث الفيلم، وهي بمعظمها عن يوميات القوات المصرية في حرب 1948، تتشابه إلى حد كبير مع شخصية هيكل. “الأمر أكثر من واضح، الشخصية المحورية هي هيكل.. صانعو الفيلم قالوا ذلك بطريقة تشبه إلى حد كبير التحدث عن جنرال إسرائيلي لديه عين واحدة (أعور)، تحول إلى سياسي مرموق، وكان يدعى موشيه، من دون ذكر أن اسمه الثاني هو دايان”، بحسب أورين.
يربط أورين بين إسمي هيكل ودايان “كلاهما عريقان في عالم السياسة والأحداث التاريخية التي مرت على المنطقة”. ويذكر حادثة حصلت في آب/أغسطس 1973، أي قبل ستة أسابيع فقط من حرب تشرين/ أكتوبر (المعروفة لدى الإسرائيليين بحرب “يوم الغفران”)، عندما ساعد هيكل سيناتوراً أميركياً شاباً في ترتيب رحلته الأولى إلى الشرق الأوسط. هذا السيناتور هو الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، الذي انتقل يومها من القاهرة إلى القدس، حيث إلتقى رئيسة الحكومة الإسرائيلية آنذاك غولدا مائير، وناشدها أن تتبنى سياسة أكثر اعتدالاً، على الرغم من أن هيكل والمصريين الآخرين لم يقدموا أي تنازلات. ويذكر أورين أيضاً أن بايدن كان سعيداً جداً بلقائه مع غولدا، التي قبلت أن تستقبله وعاملته بلطف، فيما رئيسه آنذاك ريتشارد نيكسون “لم يكلف نفسه عناء القيام بذلك”، بحسب الوثائق.
يقول أورين إن أجهزة المخابرات الإسرائيلية إنغمست في التفتيش عن أساليب وطرق وحيل للتقرب من هيكل وفهمه بشكل أفضل، تماماً مثلما يفعل صانعو الأفلام عندما يريدون أن يكون التمثيل في العمل الفني نوعاً من الإبداع.
هيكل كان الصحافي الأكثر شهرة في الشرق الأوسط. لمع نجمه عندما كان مراسلاً صحافياً جريئاً، يتجول في عواصم البلاد العربية وساحات القتال، ويغطي حروب الآخرين ويكتسب سمعة الإبداع في الاتصالات والشجاعة والتماسك. كان واحداً من أشد المعارضين لإسرائيل. والأهم من هذا وذاك أنه كان من ضمن الدائرة الضيقة الأكثر قرباً للرئيس المصري، وله تأثير كبير على تفكيره
ونوَّه أورين إلى أن ملف هيكل في وثائق “الموساد”؛ الذي يغطي الفترة من 1959 إلى 1960؛ لم يذكر الهدف النهائي من تلك الجهود، لكن ربما كان الهدف هو تجنيده أو استخدامه للتأثير على سياسة القاهرة تجاه إسرائيل، أو على الأقل لتغيير مسار الرأي العام الذي كان يكّن عداءً شديداً لتل أبيب، خصوصاً بعد حربين متتاليتين بين العرب وإسرائيل (1948 و1967).
فهيكل كان الصحافي الأكثر شهرة في الشرق الأوسط. لمع نجمه خلال الفترة من منتصف الخمسينيات إلى منتصف السبعينيات عندما كان مراسلاً صحافياً جريئاً، يتجول في عواصم البلاد العربية وساحات القتال، ويغطي حروب الآخرين ويكتسب سمعة الإبداع في الاتصالات والشجاعة والتماسك. كان واحداً من أشد المعارضين لإسرائيل. والأهم من هذا وذاك أنه كان من ضمن الدائرة الضيقة الأكثر قرباً للرئيس المصري، وله تأثير كبير على تفكيره.
ويستدرك أورين قائلاً: “عند مراجعة، واستعراض كتابات هيكل ومحاضراته، فإنه من الصعب تصديق أن إمكانية تحويله إلى عميل استخبارات يعمل في خدمة الاحتلال الإسرائيلي كانت واردة من الأساس. فهيكل كان وطنياً شرساً، ومن أشد المعارضين لإسرائيل ومُستاءً جداً من قوتها المتزايدة. وفي الوقت نفسه، لم يكن أبداً من النوع الذي يمكن أن يغريه المال. ولم يكن في حياته ما يوحي بإمكانية ابتزازه للتعاون مع الموساد”.
وهنا يشير أورين كيف أن أشرف مروان (صهر عبد الناصر، وأحد أعضاء الدائرة المقربة من الرئيس أنور السادات لاحقاً) بادر واتصل بالسفارة الإسرائيلية في لندن؛ في أواخر ستينيات القرن العشرين؛ بهدف الترويج لنفسه وإستعداده للمساهمة في خدمات التجسس لصالح إسرائيل. يومها كان يمكن لمبادرة أشرف مروان أن “تُشفي غليل” أجهزة المخابرات الإسرائيلية التي كانت تسعى بكل جهدها للإقتراب من مثل هكذا هدف كان يمكن أن يقرّبها من عبد الناصر. حتى أن شموليك غورين، رئيس محطة “تسوميت” التابعة لقسم التجسس في “الموساد”، هتف يومها قائلاً “شيء لا يُصَدَّق! ها نحن نتساءل عن كيفية الاقتراب من الهدف، وبدلاً من ذلك جاءنا الهدف ليطرق بابنا بنفسه”!
لكن مروان لم يكن هيكل بالنسبة لـ”الموساد”. فكيف السبيل إذن للوصول إلى هيكل؟
بحسب الوثائق السريّة، كان هناك عدة طرق سعى “الموساد” من خلالها للإلتقاء بهيكل والتقرب منه، تمهيداً لتجنيده: صحافيون أميركيون وفرنسيون، شخصية أكاديمية، وضابط شرطة مصري.
ويبدو أن المسار الذي تم اتباعه أكثر من غيره كان عبر وسيط وتحت غطاء العمل الصحفي، وتحديداً من خلال الصحافي والكاتب الأميركي روبرت سانت جون، الذي ورد في وثائق أجهزة المخابرات تحت رمز “القديس يوحنا” حيناً و”السامبا” حيناً آخر.
قبل وقت طويل من إخبار سانت جون (سامبا) لأصدقائه الإسرائيليين أن بإمكانه التقرب من صديقه هيكل، “كان الكاتب المصري الهدف رقم واحد لعملية عوزي- سامبا”
كان هيكل وجون زملاء وأصبحا أصدقاء. بينهما الكثير من القواسم المشتركة، كلاهما معروف بغزارة الإنتاج وبطول العمر (هيكل عاش لعمر 92 عاماً، وجون لعمر سنة بعد المئة). وكما كان هيكل مراسلاً حربياً شجاعاً ومشهوراً، سطع نجم جون بعدما نجا في شبابه كصحافي شجاع من براثن آل كابوني، وخلال الحرب العالمية الثانية كان هو أول من أبلغ عن القصف النووي الأميركي لهيروشيما وناغازاكي في اليابان.
يصف أورين هيكل بأنه كان أكثر أصدقاء عبد ناصر “إثارة للإعجاب”. فهو لم يكن يريد منصباً رسمياً، لكنه وافق بعد وقت طويل على الخدمة لفترة وجيزة كوزير للإرشاد الوطني، وكان له تأثير كبير على تفكير ناصر.
ويتابع: “لقد أحدثت أفكاره وبلاغته صدى واسعاً داخل مصر وخارجها، من خلال مقالاته المتكررة التي كان ينشرها في صحيفة “الأهرام” التي تولى رئاسة التحرير فيها لفترة طويلة من الزمن. وقد أعطت هذه المقالات أيضاً منظوراً فريداً من الداخل لصانعي السياسة الفضوليين الإسرائيليين ومحللي المخابرات في تل أبيب. حتى أن إذاعة صوت إسرائيل العبرية (Kol أو “كول يسرائييل”) كانت خلال فترة الستينيات، تفتتح نشراتها الإخبارية بالإشارة إلى مقالات وتحليلات هيكل، والقول: رئيس تحرير الأهرام والناطق باسم عبد الناصر قال هذا وذاك..
ويستعرض أورين مقابلة أجرتها مجلة الدراسات الفلسطينية مع هيكل؛ في عام 1988؛ أي بعد فترة طويلة من خروجه من مركز السلطة على أثر اصطدامه مع السادات ولاحقاً عدم رغبته في العمل مع حسني مبارك (…).
وبرأي أورين أن هيكل أصيب “بخيبة أمل” من الولايات المتحدة، التي كان يأمل أن تحل محل البريطانيين المهزومين بعد حرب السويس، وأن تقف إلى جانب العرب ضد إسرائيل. “أخبر ذات مرة زميلاً كاتباً أنه عندما كان في رحلة عبر أميركا؛ في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي؛ وصل إلى ولاية نيو أورلينز في حافلة، ليُطلب منه النزول بسبب بشرته الداكنة. “الإذلال والنفاق المتمثلان في إدعاء النضال من أجل الحقوق المدنية قلَّل من إيمان هيكل بالدور الأميركي الذي كان مرجواً في الشرق الأوسط”، بحسب أورين.
ويشير الصحافي الإسرائيلي إلى أنه قبل حرب السويس، كانت هناك اتصالات عديدة بين المسؤولين الإسرائيليين والمصريين من المستوى المتوسط، جرى معظمها في أوروبا، “لكن الحرب حالت دون ترتيب اجتماع على أعلى المستويات، حتى بن غوريون وناصر نفسيهما” (…)، لا يوجد سجل لتجديد هذه الجهود بعد عام 1956، على الرغم من أنه بعد استقالة بن غوريون من رئاسة الوزراء، أراد رئيس الموساد مئير عميت قبول دعوة من ضابط مصري رفيع مقرب من عبد الناصر للحضور إلى مصر لإجراء محادثات سرية. لكن رئيس الوزراء ليفي اشكول لم يوافق على المهمة.
ويشرح أورين كيف أن بن غوريون، الذي كان يكبر عبد الناصر بأكثر من 30 عاماً، تمكن من رؤية الصفات القيادية لخصمه، وكيف كان مؤمناً بإمكانية إستغلالها. وفي أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، عندما أخبر الصحافي الأميركي (روبرت سانت جون) “الموساد” أنه يستطيع التحدث مع هيكل وإقناعه بمقابلة المبعوث الإسرائيلي، انطلقوا للعمل، حيث كان ملف هيكل موجوداً بالفعل على مكاتب “الموساد”.
ويقول أورين إن وثائق “الموساد” تؤكد أنه قد تم استخدام شبكة واسعة من وزارة الخارجية الإسرائلية “تسوميت”؛ التابعة لـ”الموساد”؛ في عملية “عوزي- سامبا”، إنتشر أعضاؤها في عواصم مختلفة حول العالم، منها: أثينا، جنيف، نيويورك، واشنطن، لوس أنجلوس، باريس وروما، وتم تنسيقها من المكاتب الخلفية في القدس وتل أبيب. قبل وقت طويل من إخبار سانت جون (سامبا) لأصدقائه الإسرائيليين أن بإمكانه التقرب من صديقه هيكل، “كان الكاتب المصري الهدف رقم واحد لعملية عوزي- سامبا”.
يقول أورين : “في أيام ما قبل الكمبيوتر، كان لدى الأهداف بطاقات تحمل أسماءهم، حقيقية ومشفرة؛ اتصالاتهم الإسرائيلية والأجنبية. التواريخ والتفاصيل وما إذا كان هناك أموال”.
في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، عندما أخبر الصحافي الأميركي (روبرت سانت جون) “الموساد” أنه يستطيع التحدث مع هيكل وإقناعه بمقابلة المبعوث الإسرائيلي، انطلقوا للعمل، حيث كان ملف هيكل موجوداً بالفعل على مكاتب “الموساد”
وبالإضافة إلى سانت جون (سامبا)، تضمن ملف هيكل ثلاثة أسماء أخرى. أحدهم كان ممدوح سالم، الضابط الكبير في الشرطة المصرية ورئيس الوزراء في عهد السادات لاحقاً. لكن وثائق الموساد لا توضح ما إذا كان لسالم علاقة بإسرائيل، بحسب أورين.
وهناك أيضاً كاتب إيطالي يهودي، كان يعمل مع صحيفة “لوموند” الفرنسية، عرض مساعيه للوصول إلى صديقه هيكل، كان يُعتبر جديراً بالثقة ولكن تم تحيده.
ثم كان هناك أكاديمي أميركي في كاليفورنيا، اقترح تمرير رسائل “الموساد” إلى هيكل في القاهرة باستخدام الحقيبة الدبلوماسية الأميركية. لكن الإسرائيليين أوقفوا اتصالاتهم معه لعدم رغبتهم في أن يكون هناك أي تدخل لوزارة الخارجية.
وبالعودة إلى “سامبا”، الذي كان يتباهى بأنه في بداية حياته المهنية كان يُعتبر واحداً من اثنين من المؤلفين الطموحين، جنباً إلى جنب مع إرنست همنغواي، كما ينقل عنه أورين، فقد “تم تشجيعه على ترتيب لقاء في نيويورك، عندما كان هيكل يشارك عبد الناصر في زيارة إلى الأمم المتحدة. كانت فرصة مفيدة: لن يضطر هيكل إلى بدء رحلة مشبوهة إلى الخارج (…)، لكن سُرعان ما تحولت الحماسة إلى تعكر: فقد غادر هيكل نيويورك قبل أن يتمكن أي من سامبا أو غيره من اعتراضه. لم يستطع الإسرائيليون إخفاء إحباطهم، فقد طار الطائر من القفص قبل لحظات من الإمساك به. تأذت مشاعر سامبا، كما ورد في رسالة محفوظة في ملف هيكل، من رد الفعل السريع من جانب أحد اتصالاته الإسرائيلية”.
ويعلق الكاتب الإسرائيلي قائلاً: “مع وجود صيد ثمين محتمل مثل هيكل، لم يكن لدى الدبلوماسيين الإسرائيليين وضباط المخابرات أي نية للتسرع مثل الحمقى. كانت تحركاتهم محسوبة وممنهجة بشكل جيد”.
ويتابع: “أولاً، يلتقي الأميركي (سامبا) من المقرب من عبد الناصر (عوزي). ثم عضو بعثة الأمم المتحدة الإسرائيلية. ثم بن غوريون. إذا سارت الأمور على ما يرام، يصبح الهدف في راس اولويات الإهتمام الإسرائيلي: ترتيب زيارة سرّية للبلاد، عقد لقاءات بين رؤساء الحكومات، وطمأنة عبد الناصر”.
بعد تقاعد دايان من جيش الدفاع الإسرائيلي، انطلق إلى النجومية بعد حرب سيناء عام 1956. كان يكبر عبد الناصر بثلاث سنوات فقط، وكان أيضاً من نتاج حرب عام 1948. كان مواطناً إسرائيلياً بالولادة، وله كاريزما أيضاً.
ويشير أورين إلى أنه لم يتم ترتيب أي اجتماع بين “الفرعون” و”العملاق”، ولكن عندما قرر السادات أن الوقت قد حان، وأرسل نائبه إلى المغرب في أيلول/سبتمبر 1977 للتحدث مع مبعوث مناحيم بيغن، كان هناك رجل واحد فقط لهذا المنصب: وزير الخارجية دايان، الذي أبدى كل إستعداد وعزم للمساعدة في ترتيب “عملية سلام” بين مصر وإسرائيل.
يقول أورين: “إذا حكمنا من خلال معارضة هيكل الشديدة لسياسة السادات للسلام، والتي دفعت الرئيس السادات إلى سجنه، فإن عملية عوزي- سامبا ما كان يمكن أن تكون مثمرة، حتى لو إلتقى بدايان في أوائل الستينيات”.
ويختم قائلاً: “مرة أخرى، من يدري. هل كان بإمكان دايان أن يسحر هيكل في موقف أكثر براغماتية تجاه إسرائيل؟ هل كان يمكن للشخصانية أن تتفوق على السياسة والمشاعر؟ ومثلما ثبت أن رحلة الحافلة في نيو أورليانز كانت مصيرية للغاية بالنسبة لهيكل وغيرت آراءه وتوقعاته من أميركا، هل كان من الممكن لرحلة خارج الطريق في إسرائيل مع دايان أن تغير “عوزي”؟
(*) النص بالإنكليزية على موقع صحيفة “هآرتس“