القدس – المشعوذة، التي تحوّل أبناؤها إلى وقودٍ لنارها؛ نارٌ لا يبقيها مستعرةً سوى مزيدٍ من الوقود. القدس – المشعوذة، لعنةٌ سكنت روحي. ولأنني لم أكن أمام خيارات، بدأت – مرغمةً – أن أحبها. إنّها الثمرة المحرّمة التي قضمتُـها، وأنتم تشتهون.
تلك هي القدس. ولكن، من أنا؟
اسمي رائدة طه وولدت في القدس. بوركتُ بـ «امتياز» النجاة من حروبٍ ثلاث، وغزوٍ إسرائيليٍّ على نطاقٍ واسع. بدأَتْ طفولتي بعبور نهر الأردن، مع عائلتي المطرودة إبان حرب ١٩٦٧. كُنّا ثلاث فتيات، وكان على والدي أن يحمِلَنا، وأن يُحسِنَ التعاملَ مع رُهاب الماء عند والدتي. وصلنا إلى عمّـان، فوجدنا أنفسنا في مكانٍ كئيبٍ ومظلم. في القدس، كان لدينا منزل وحديقة واسعة ملأى بالتين. كم أحببتُ التين! وأنا في غفلةٍ عن الكوارث الموشكة، والتي سيكون من شأنها أن تسطِّرَ قصةَ حياتي.
ما زلت أذكر في عمّان، كيف باتَ همسُ أبي في السِّرِّ عند الفجر يحلّ محل الضحك واللعب معنا؛ فقد انقضى زمان قصّ الحكايات والغناء و«الغمّيضة» وعراك الوسائد، وانتهى زمن تناول وجبات الفطور معاً. وأضحَينا ننهض كلَّ صباحٍ على غيابه. ما زلتُ أذكر تلك الدموع الصامتة لأمّي، وأتذكّرُ تأرجحَ مزاجِها.
رُكلنا عام 1970، وبفعل حوادث أيلول الأسود إلى بيروت. وقطَنّا في «راس بيروت» قلب العاصمة الدافئ. ومن شقتنا في الدور الثالث، تُطِلُّ حديقةٌ بريّةٌ لطالما ذكّـرَتني بحديقتنا في القدس. لم يكن ينقصها سوى ثلاث أشجارٍ من التين. تلك الشجرات التي لم تفارق صورتها عقلي، ولا طعمها لساني. وفي بيروت، سرعان ما بدأتْ رحلة الخسارات والصدمات والآلام والغضب والحروب.
اسمي رائدة طه وأنا ابنةُ الثورة. ترعرعتُ في ظلِّ أبٍ دائم الغياب، لسعيه المستمر لتحرير فلسطين؛ وأمٍّ يسكنُها القَلق، أمست شاعرةً بغربةٍ دائمة بعدما تركت القدس.
إن العيش في ظل الأبطال لَهُوَ حملٌ ثقيل ومسؤولية دائمة. فقد ارتبطت نجاحاتي دوماً بـ«الشهيد علي طه». دراستي كانت واجباً تجاهه، ونجاحي من أجله، وتمردي كان في سبيله، وتهذيبي كان لذكراه.. حياتي كلها كانت تدور حوله
في عام 1972، وبعد سبعةِ أشهرٍ على ولادة أختي الرابعة، قام أبي (علي طه) باختطاف طائرةٍ للركاب، وهي في طريقها من بلجيكا إلى مطار اللد (ما سُمّيَ سَرِقةً بمطار بن غوريون)، في محاولةٍ من فرقته لتحرير مائةِ أسيرٍ فلسطينيّ من السجون الإسرائيلية. نحن الفلسطينيون لا نُـضيّع وقتنا في المقاومة والولادة؛ «بصلتنا محروقة». لكن، وبعد 36 ساعة من المفاوضات، نجح «بنيامين نتنياهو» في خداعه، وباغته بطلقة نارٍ في رأسه.
أيقظني صُراخ أمي في ذلك اليوم المشؤوم، وهرعت نحوها من شدة الفزع. كانت في المطبخ، تقفُ على كرسيٍّ أبيض، وتحملُ بيديها الجريدة، وتصرخ: «سعيييييييد»! تقفز عن الكرسي لتصعد عليه من جديدٍ صارخةً: «سعيييييييد»!
سعيد، هو بوّاب العمارة، وهو من كان يقوم بإحضار الجريدة كلَّ صباحٍ إلى بابنا. كانت تصرخُ، ونحن مذعورات. لم نكن نعرف ماذا حدث، ولا أن حياتنا غير المستقرة أساساً، ستتحوّل إلى شكلٍ لم نكن لنختره لو كان الاختيار ممكناً. لم يكن في وسعنا استيعاب معنى كلمة «شهيد». وأنا، لم أكن لأستوعبَ شيئاً في الدنيا، سوى أنّ عالمي الذي ألِفته قد تحطّم، وكنتُ في السابعة حينها.
أصبحَت شعارات الثورة تخنق حياتي:
«ثورة، ثورة، حتى النصر».
«بالروح، بالدم، نفديك يا شهيد».
بتّ أكرر تلك الشعارات وغيرها، كالتعويذة، أرسم ابتسامةً عريضةً على وجهي تارةً وأشدّ العبوسَ تارةً أخرى. وأقولها بصراحة: لم يكن لدي أدنى فكرة عمّا كنتُ أردِّدُه في تلك المرحلة.
كان على والدتي «فتحية» أن تنتظرَ لسنواتٍ قبل أن تصارحني عن حياتها بعد رحيل أبي: «تضاءل عدد الأصدقاء وانفضّ الجيران من حولي. أما النساء، فـخِفْنَ على أزواجهن مني، وباتَ الرجال يرمقونني بنظراتٍ ليست بريئة، ويُـمررون محاولات مغازلاتِهم تحت قناع الرعاية وواجب المرحلة. فرغ المنزل من الزّوار والمعزّين، لم يعد يأتي سوى بعضُ المتظاهرين بالمواساة. ودأب آخر رجلٍ ممن استمرّ بالمجيء على الاقتراب من مقعدي وترديد نفس الحيلة بِـطريقة أو بأخرى: [فلسطين بحاجة إلى تضحياتنا وصبرنا].. و: [ما مِن تحرير لمدينة يافا من دون الكفاح المسلح، لكنني لستُ متأكداً ما إن كانت عيناك خضراء أم عسليّة.. الثورات تحتاج إلى الدماء، أما بناتك، فسأضعهنّ في عينيّ].. قال كل هذا الكلام وعيناه اللتان سيضعكنّ فيهما تثقبان نهدَيَّ.» ثوريون مخصيّون!
تهتُ دهراً بين الكبرياء وألم الفقد والغضب، وشكّـلَت هذه المشاعر المتشابكة تحدياً قاسياً في حياتي.
بعضنا يعرف خمس مراحلٍ للحزن: الإنكار والغضب والمساومة والاكتئاب والتقبّـل. أمّا الثورات، فلا تتّسع لسخافة كهذه. فمراحل الحزن الخمس في القاموس الفلسطيني هي:
الأولى: الكبرياء.
الثانية: الكبرياء.
الثالثة: الكبرياء.
الرابعة: الكبرياء.
الخامسة: الكبرياء.
فقد كنت، ولفترةٍ طويلةٍ جداً، عالقةً في الكبرياء.
ومع كلِّ الاهتمام والرعاية من «منظمة التحرير الفلسطينية» وزعيمها «ياسر عرفات»، إلا أن أحداً لم يحل مكان «علي»، ولا شيءَ سدّ فراغه.
حدث أن قرأتُ ذات مرةٍ مقولةً أثّرت بي بشكلٍ كبير: «الحزن لا يُـغـيّـرك، بل يكشفك».
إن العيش في ظل الأبطال لَهُوَ حملٌ ثقيل ومسؤولية دائمة. فقد ارتبطت نجاحاتي دوماً بـ«الشهيد علي طه». دراستي كانت واجباً تجاهه، ونجاحي من أجله، وتمردي كان في سبيله، وتهذيبي كان لذكراه.. حياتي كلها كانت تدور حوله.
اسمي رائدة علي طه عرفات، التلميذة المجتهدة والأولى، والعضو الفاعل في «الاتحاد العام لطلبة فلسطين» في واشنطن. والمرشحة الأبرز لأُن أصبح أصغر سكرتيرة صحافية لياسر عرفات في تونس. وكنت في الثانية والعشرين حينما أثقلتُ بمسؤولياتٍ ضخمة
عانينا لكوننا أربع بنات، من شفقة الناس: «أولئك الفتيات المسكينات تُركن وحيداتٍ، بلا أبٍ أو حتى أخٍ يحميهنّ». كم كرهت ذلك!
وعانينا أيضاً، من قضايا جندرية: «إن مهنة كهذه من شأنها أن تُلحق العار بسمعتها وبسمعة أبيها. ممثلة؟ مستحيل». كم احتقرت ذلك!
«أولئك الفتيات يجب أن يخترن تخصصات مناسبة: كالعلوم السياسية، أو العلاقات الدولية، أو الصحافة، أو الأدب الإنجليزي.. لكن مسرح؟ مستحيل. إنها مهنة لمن [تدور على حل شعرها].. إنه تخصص يناقض أيديولوجية الثوري المخلص الملتزم».
اسمي رائدة علي طه، الابنة المثالية لعلي طه، الطالبة المجتهدة والأولى في المدرسة وفي الجامعة. تخرّجت من الجامعة بامتياز، بتخصُّصٍ في «التواصل الخطابيّ والصحافة». واستنفدت معايير الابنة المثالية للشهيد: رائعة بإرضاء الناس، يرضى عنها إرث «علي طه» وباقي أعضاء «منظمة التحرير الفلسطينية». فقد اتممت المَهمّة بنجاح من المنظور الثوري الفلسطيني.
اسمي رائدة علي طه عرفات، التلميذة المجتهدة والأولى، والعضو الفاعل في «الاتحاد العام لطلبة فلسطين» في العاصمة واشنطن. والمرشحة الأبرز لأُن أصبح أصغر سكرتيرة صحافية لياسر عرفات في تونس. وكنت في الثانية والعشرين حينما أثقلتُ بمسؤولياتٍ ضخمة وتوقعاتٍ كبيرة. لستُ ابنة «البطل» وحسب، وإنما الابنة الروحية – بالتبني- للزعيم الفلسطيني «ياسر عرفات» أيضاً. أجل، كان الناس يحسدونني على ذلك. فقد كنتُ، طَوال ثماني سنوات، أقضي أكثر من ١٥ ساعة يومياً مع «أبو عمار». سافرتُ حول العالم برفقته، والتقيتُ بعددٍ لا يُحصى من الشخصيات العامة. ومع كل تلك التجربة العملية والفريدة التي أسهمت بشكل كبير في تغيير أسلوب تفكيري وحياتي، إلا أن روحي بقيَتْ هائمة وهشة وحزينة. وساءت حالتي النفسية من جراء الحياة والعمل في عالمٍ ذكوريّ عَفِن. أصبحت تحت إمرة الفاسدين والانتهازيين، وتحت سلطتهم. تعـرّضت للتحرش الجنسي، فازدادت روحي تشوهاً. لم تسلم روح والدي (الشهيد) من غضبي. أما كان يجدر به البقاء حيّاً ليكون بجانبي في لحظةٍ كتلك؟ هكذا كنت أسأل نفسي من دون أن أبوح لأحد. وكم من ليلةٍ حلمت فيها أنّ عليّاً، ولا أحدٌ غيره، يوسع ذلك الحقير الذي مسّني ضرباً. كانت المرة الأولى في حياتي التي شعرتُ فيها حقاً بأنني يتيمة. ولم أجرؤ حتى على مواجهة ذلك الخسيس! واصلتُ حياتي وحسب، مكشوفة.. ذلكم هو اليُتم.
حفلُ زفافنا هو الأخير الذي حضره «عرفات»، وكان في فترة المباحثات المعروفة (أوسلو). وعندما سُئل الشاعر الفلسطيني محمود درويش عن أوسلو، أجاب بابتسامة ماكرة: «أفضل بند في اتفاق أوسلو هو زواج رائدة وسهيل»
اسمي رائدة علي طه عرفات جدعون – «رائدة العائدة». تزوجتُ من سهيل جدعون وعُدت إلى فلسطين. كم كان لطيفاً ذلك الإحساس حين بدأ سهيل يتقرّب مني، إنه الإحساس بالأنوثة. لم يمضِ كثيرُ وقتٍ حتى وقع في حُبّي. كان صبوراً، فأمضى وقتاً طويلاً في تهدئة مخاوفي، وفي تضميدِ الجراح التي أصابتني بها بطريركية «منظمة التحرير الفلسطينية». كنا نستمتع في كل لحظة من حياتنا: في أسفارنا، ضحكاتنا، وشجاراتنا. استوعبني مع كل خلفيتي المعقدة واحتضن كل جزءٍ مني.
عشتُ معه أجمل لحظات حياتي، لخمسة عشر عاماً، إلى أن سرقه ذلك الداء الخبيث – السرطان. أحببته..
كان حفلُ زفافنا هو الأخير الذي حضره «عرفات»، وكان في فترة المباحثات المعروفة (أوسلو). وعندما سُئل الشاعر الفلسطيني محمود درويش عن أوسلو، أجاب بابتسامة ماكرة: «أفضل بند في اتفاق أوسلو هو زواج رائدة وسهيل».
إليكم حقيقة بسيطةً وواضحةً عن الحياة: «نحن نستيقظ من الأحلام، ولا نستيقظ من الواقع».
بدأ الواقع يقصدني بقسوة. واقعُ مواجهة وجودِ العدوّ، العدو الشرس، عند عودتي إلى الأراضي المحتلة. وواقعُ الموت المُهين للزعيم الفلسطيني «ياسر عرفات». واقع فقدان محمود درويش، صديقي ومرشدي.
والواقع المهول والمُحطِّم، لفقديَ زوجي وحبيبي سهيل.. أيّةُ مرارة لذلك الواقع..؟
عدتُ للوحدة في «رام الله»، ومعي مئات الصوَر، إضافةً إلى الملصقات لرجالي الموتى.
وحديقة ملأى بأشجار التين. أحب التين.. ولكنها لم تكن لتنقدني من الآلام.
أنقذتُ نفسي من خلال إحياء الرجال الأربعة. أدركتُ أخيراً أنني الوحيدة القادرة على تحقيق حلمي، الحلم الوحيد الذي بقي لي – المسرح.
اسمي رائدة، وأنا كاتبة وممثلة مسرحية، وأقول: «إن لم يكن بمقدورك أن تكون ثورياً، فكن فنّاناً”.
(*) مقالة نشرت بالإنكليزية في مجلة “discontent” الصادرة في لندن، ضمن ملف بعنوان “بنات الثورة”.