في ماهيّة الإسلام.. ثقافة الباذنجان وسَجن الله! (23)

يقول أبو العلاء المعرّي في ديوانه "اللزوميّات": عُقُوْلٌ تَسْتَخِفُّ بِهَا سُطور / وَلاَ يَدْرِي الفَتَى لِمَنِ الثُّبورُ.. كِتَابُ مُحَمَّدٍ وَكِتَابُ مُوْسَى / وَإِنجيلُ ابْنِ مَرْيَمَ وَالزَّبُورُ..

يمكن للقارئ أن يستخلص من هذه الأبيات كفر أبو العلاء. لكن هل هذا صحيح؟ هل كفر أبو العلاء هو كفر بالله، أم بتجّار وتجارة الدين؟

لننظر بتمعّن في عبارته: “ كِتَابُ مُحَمَّدٍ وَكِتَابُ مُوْسَى / وَإِنجيلُ ابْنِ مَرْيَمَ وَالزَّبُورُ”، هو يستهزىء بنسبة هذه الكتب إلى أشخاص. وحسب علمنا، هؤلاء الأشخاص لم ينسبوا الوحي الذي جاؤوا به إلى أنفسهم، بل إلى الله، لكن أتباعهم نسبوه إليهم ونشبت بينهم المنافسة حول مَنْ مِنهم وحيه أفضل من الآخرين، ومن له الجنّة ومن له الثبور وعواقب الأمور.

صحيح أنّ اليهود لا يقولون بأنّ التوراة هو كتاب موسى، كما أن المسيحيّين لا يقولون أنّ الإنجيل هو كتاب عيسى، والمسلمين لا يقولون بأنّ القرآن هو كتاب محمّد. كلٌّ منهم يعتبر ما أُنزل على نبيه هو الطريق الصحيح ويذهب الكثير منهم في غُلوّهم عن حسنات دينهم بعيداً وكأنّ الله كان عاجزاً أن ينزله على شخص آخر. فأصبحت كل فرقة تتمترس وراء نبيّها وكتابها، وتشمت أو تلعن الفرق الأخرى.

هذا هو بيت القصيد في كلام المعرّي وقوله “عقول تستخفّ بها سطور”. ليس هناك من شيء أسوأ من العقل الذي يعتقد أنّه دائماً على صواب، سواء أكان مُتديّناً أو غير متديّن. عند غير المُتديّن، يسقط العقل في مهالك الفلسفة والإستخفاف والعبث، لكن عند المتديّن، السقوط أقبح وأفظع. ليس فقط في عجزه عن تصوّر الأشياء من منظور معاكس لأنّه أسير معتقداته وكتبه، بل الأشنع من ذلك أنّه يأسر إلهه معه ويجعله أسير غرائزه الدينيّة والدنيويّة.

في الإسلام، خلقت هذه المعضلة كثيراً من المشاكل. من أهمّها النقاش الدامي والدموي بين المعتزلة وأهل الحديث؛ المعتزلة والأشاعرة؛ الأشاعرة والحنابلة؛ السنّة والشيعة، والمتصوّفة وغير المتصوّفة، إلخ.

عندما يصبح رجال الدين عبيداً لمذاهبهم ومعتقداتهم، يصبح الله أسير هواجسهم وسجين مصالحهم وعنوان جهلهم ومُنقاداً لإرادتهم، فتختلط الأمور عليهم، فيصبحوا هم الآلهة ويصبح الله خليقتهم

لننظر في خلاف المعتزلة والأشاعرة. بالرغم من أنّ في هذا العرض بعض التبسيط، يدور الخلاف بين مفهومين جوهريّين: مفهوم عدل الله عند المعتزلة، ومفهوم علم وقدرة الله عند الأشاعرة. بنى المعتزلة كلّ فلسفتهم اللاهوتيّة على مفهوم عدل الله، أي كلّ شيء آخر يُبنى ويُستمدّ من مفهوم العدل. ويقول مفهوم العدل أنّ الله عادل، إذاً لا يمكن لله أن يقوم بما هو قبيح أو غير عادل. لذلك، استمدّ المعتزلة من ذلك أنّ البشر مسؤولون عن أعمالهم وأنّ الله لم يخلقها (ويُسمّي معظم أهل السنّة ذلك بالقدر). واستمدّ المعتزلة أيضاً من مفهوم العدل مفهوماً آخر هو خلق القرآن، فإذا كان القرآن غير مخلوق، يكون ما يحويه دليلاً على علم الله بما قام به البشر قبل أن يقوموا به، كما في سورة المسد مثلاً: ” تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ. سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَب“. الفكرة هنا، إذا كان الله عالماً بما سيقوم به أبو لهب قبل أن يخلقه، يكون الله عند ذلك ظالماً في عقابه له. وتمادى بعض المعتزلة في عنجهيّة فكرهم بحيث أجبروا الله على أشياء، قائلين أنّه عاجز أن يقوم أو لا يقوم بها، مثل أنّه مجبور على معاقبة الكافر وإثابة المؤمن (مفهوم الوعد والوعيد). إذاً سقطت المعتزلة عندما سجنوا الله في زنزانة فكرهم.

لكن الأشاعرة لم يكونوا بحالة أفضل. هَوَسهم بأنّ علم وقدرة الله تحيط بكلّ شيء جعلهم بلا بصيرة لأنّهم فهموا من ذلك أنّ علمهم المستمدّ من الله هو العلم، فأصبحوا هم العالِمين بين العالَمين. لكنّهم ضاعوا في متاهة مسؤوليّة الإنسان عن أفعاله: كيف يحاسب عليها وهي مقدّرة من الله؟ فكان الجواب مفهوم الكسب (أيّ أنّ الإنسان يفعل ما يفعله عبر قدرة يخلقها الله فيه، لكنّه غير قادر على فعل عكس ما علمه أو قدّره الله له)، والذي هو نوع من التحايل اللاهوتي، أخذوه عن بعض المعتزلة المتقدّمين، قبل أن تتّفق المعتزلة على رفضه. لكن قمّة القباحة عند الأشاعرة أنّهم سجنوا الله داخل كتبه ومنعوه من التواصل مع عباده إلاّ عبر الأنبياء.

خلق هذا الأمر مشكلة لبعض المفكّرين الأشاعرة، أمثال الغزالي (ت. 1111) وفخر الدين الرازي (ت. 1210)، وأدّى بهم إلى رفض مقولة أنّ الله لا يُعرَف إلاّ من خلال كتبه وعبر الأنبياء فقط. عند الغزالي تحديداً، أنتجت تلك الحصرية أزمة إيمانيّة، فكريّة، ووجوديّة. إذ كيف لنا أن نعرف عن كتب الله وأنبيائه ومن منها صحيح ومن منها غير صحيح؟ كلّ ما نعرفه جاء من أقوال البشر، الذين هم عرضة للخطأ والحيرة والتناقض والتشويش والكذب. وهنا المشكلة التي واجهها أمثال الغزالي، أنّ تأليه الله يتطلّب قبل ذلك ويعتمد على تأليه البشر (أنبياء، صحابة الأنبياء، أئمّة الدين، إلخ.). فكان المخرج منها، عند الغزالي والرازي وغيرهما، لزوميّة العقل كعنصر أساسي ومكمّل بجانب الوحي والأنبياء.

نجد في التراث الإسلامي، أنّه كلّما تمادت فرقة في عهرها الديني وعنجهيّتها العقائديّة، أصبح الله في أدنى سلّم أولويّاتها وأسير أصوليّتها

ومع الحنابلة، فحدّث ولا حرج. وضعوا لله يداً ورجلاً وعرشاً و..، فقط لأن الله، بزعمهم، قال ذلك في القرآن. وذهب بهم الأمر إلى تنصيب أنفسهم مكان الله، كما نجد مع ابن تيمية وابن عبد الوهّاب وأمثالهم الذين أوصلتهم عنجهيّتهم إلى تكفير الناس، والدعوة إلى قتل البشر، والأمر والنهي بشحطة قلم، وكأنّ لسان حالهم إذا أرادوا شيئاً يقولون له: كن فيكون. لا يتقبّلوا بتاتاً أن يكونوا على خطأ، أو أن يكون لله قدرة خارج ما يرونه هم مناسباً.

إقرأ على موقع 180  شهرُ رَمَضَان.. وأسرارُ "الرسالة الإسلامية" (١)

كما قلت سابقاً، هذه الإشكاليّات ليست محصورة بالفكر الديني. لكن في الفكر الديني، قباحتها فجة ومدوية لأنها تصبح عنواناً للقضاء على الأصل الذي تدعو إليه. لذلك، نجد في التراث الإسلامي، أنّه كلّما تمادت فرقة في عهرها الديني وعنجهيّتها العقائديّة، أصبح الله في أدنى سلّم أولويّاتها وأسير أصوليّتها. وأصبحت الشتائم والتكفير سلاحها الأمضى، وليس فكرها وقدرتها على الإقناع واجتذاب الآخرين. وأصبحت كلّ فرقة كالبائعين المتجولين في الأسواق، كلٌّ ينادي على بضاعته، همّه الربح وهمّه جذب المشترين بلباقة كلماته لا بفائدة بضاعته.

تستحضرني هنا قصّة تروى عن أخوت شانَاي والأمير بشير الشهابي الثاني، كما تُروى عن آخرين بالمضمون إياه. عندما ذاق الأمير بشير متبل الباذنجان للمرة الأولى، أعجب بهذه الأكلة، فسأل عن سرها فقال له أخوت شاناي “الباذنجان لحم بلا شحم، وسمك بلا حسك، يُؤكل مقلياً ومشوياً ومطبوخاً. مفيد للباه وللبشرة والمعدة والدم وطول العمر”!

سال لعاب الأمير وصار يتذوّق أطباق الباذنجان يوماً تلو آخر إلى أن جاءه طبقٌ كاد أن يتقيأ من مذاقه، فأمر باستحضار أخوت شاناي وعاتبه عتاباً شديداً على ما قاله في وصف الباذنجان. فأجابه أخوت شانيه: “دققت في الأمر، فتبين أن الباذنجان ثقيل وغليظ ونفَّاخ وأسود، وفيه ما فيه من مكونات لا تفيد الجسم”. قال له الأمير “إحترت في أمرك. تقول الشيء وعكسه في أمر واحد”. أجابه أخوت شاناي “أنا أعمل عندك سيدي الأمير وليس عند الباذنجان”.

عندما يصبح رجال الدين عبيداً لمذاهبهم ومعتقداتهم، يصبح الله أسير هواجسهم وسجين مصالحهم وعنوان جهلهم ومُنقاداً لإرادتهم، فتختلط الأمور عليهم، فيصبحوا هم الآلهة ويصبح الله خليقتهم. ويصبح من السهل البطش بإسمه، والقتل بإسمه، والتكفير بإسمه، والتحليل والتحريم بإسمه، والإستقواء على الضعيف بإسمه، ومساندة الظالم بإسمه. عن أي رحمة وباذنجان تتحدثون؟

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  القدس.. ومهالك الخرافات الدينية الحديثة