أي تأثير للأزمة الأوكرانية علی الشرق الأوسط؟

لا أعتقد أن الدول القريبة من أوكرانيا تستطيع النوم بهدوء دون أن تُقيّم لحظة بلحظة تطورات الأزمة الأوكرانية وما هو المطلوب منها في مثل هذه الظروف الصعبة. تشارك. تتعاطف. تمانع. تقف مع هذا الطرف أم ذاك. وفي نهاية المطاف ما هو الموقف الذي يتناسب ومصالح الأمن القومي لهذه البلدان؟

يُمكن القول إن “تقدير الموقف” الصحيح ليس بالأمر الهيّن ما دامت هذه الدولة أو تلك تعيش بالقرب من ساحة النزاع الروسي ـ الأوكراني، فكيف بصراع تتجاوز تداعياته المحيطات وستفضي مآلاته إلى إعادة رسم الإصطفافات السياسية والأمنية دولياً.. ولسان حال هذا اللاعب الكبير أو ذاك: من لم يكن معنا فهو ضدنا!

ليس من المبالغة القول إن من يعيش في أوروبا قلق أكثر من غيره بسبب وقوفها بين المطرقة الأميركية والسندان الروسي. هذه المطرقة تری أن ثمة فرصة سانحة حالياً لإطلاق رصاصة الرحمة علی الدب الأبيض في موسكو بعدما عكّر عليها نومها الهادیء في عش الأحادية القطبية منذ إنهيار الاتحاد السوفيتي حتى الأمس القريب.

في هذا السياق، تطرح الإدارة الأميركية فرض عقوبات علی الدول التي لا تلتزم بعقوباتها وإجراءاتها الهادفة إلى ممارسة أقصى ضغط سياسي وأمني وإقتصادي ضد روسيا بعدما أيقنت أن الدخول في مواجهة عسكرية مهما كان مستواها يُهدد بتحولها إلى حرب عالمية ستكون “مُدمرة ونووية”، حسب تعبير وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.

وإذا كانت أوروبا على تماس أول مع الأزمة، فإن دول الشرق الاوسط هي خط التماس الثاني بسبب الصراعات المفتوحة في معظم ساحاتها وهشاشة الأمن فيها واستجابتها السريعة للتطورات الدولية لا سيما منذ الغزو الأميركي للعراق في العام 2003.

وكما هو معروف، فإن العلاقات الدولية تخضع لقواعد ومقاربات محددة إستناداً الی مواثيق وإتفاقات وضعتها مؤسسات دولية من أجل حفظ السلام والامن الدوليين. لذلك، يؤثر الخلل في اي من نقاط هذه المنظومة الدولية بشكل مباشر علی بقية النقاط. بهذا المعنى، من السذاجة بمكان التصور أن الأزمة الأوكرانية ستمر مرور الكرام علی أوروبا وفي الوقت نفسه لن يكون الشرق الاوسط بمنأی عن هذه الأزمة.

إن المواجهة المفتوحة حالياً بين أوروبا والولايات المتحدة من جانب وروسيا من جانب آخر، ستؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر علی الإصطفاف ـ الإستقطاب الأمني والسياسي في الشرق الاوسط وفق “قواعد اشتباك” جديدة تكون بديلاً عن الاستقطاب التقليدي الذي لطالما إتسمت به منطقة الشرق الاوسط منذ انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991.

إيران رفضت الحرب، لكنها أدانت الغرب من دون أن تُدين روسيا. لم ترفض قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن روسيا لكنها امتنعت عن التصويت. لم تُدن روسيا، لكنها لم تعترف بانفصال دونيتسك ولوغانسك. مرد هذه الضبابية قلقها من تمدد حلف الناتو نحو الشرق لأن ذلك سيجعل صواريخ الحلف علی مرمی حجر من حدودها

وها هي أوروبا التي تحررت قبل ثلاثة عقود من ضغوط الحرب الباردة، تجد نفسها اليوم عائدة إلی أجواء تلك الحرب، الأمر الذي يرتد سلباً علی أسواق الطاقة في الشرق الاوسط. كما أن محاولات الدول الغربية الحثيثة لعزل روسيا ستؤثر علی برنامج “الحزام والطريق” الصيني بالشكل الذي يُشجع الغرب على الدفع بإتجاه محاولة الإستفادة من مصادر الطاقة في منطقة الشرق الأوسط وتحديداً استيراد الغاز الطبيعي؛ الأمر الذي يُشجع الصين علی لعب دور اكثر فاعلية في منطقة الشرق الأوسط، كما أنه يُشجّع الدول المحلية في هذه المنطقة على أن تكون شريكة وليس مجرد متلقية في أي صياغة جديدة للنظام الإقليمي، سياسياً وأمنياً وطاقوياً.

لا أريد التقليل من أهمية وحجم الدول في منطقة الشرق الأوسط.. إلا أنه من الواضح وجود ثلاث قوی رئيسية تملك مشاريع وبرامج هي: المشروع التركي؛ المشروع الإسرائيلي والمشروع الإيراني.

التركي عضو في حلف شمال الاطلسي ـ الناتو؛ على أرضه قواعد عسكرية للناتو واخری للقوات الأميركية وثالثة لـ”اسرائيل”. كان واضحاً انحياز تركيا الكامل للموقف الغربي في الأزمة الأوكرانية ربطاً بموجبات إنضمامه للناتو وعلاقته بالولايات المتحدة؛ وبالتالي فإن دوره يبقی تحت السيطرة، ولا اعتقد انه سيكون مشاكساً ومزعجاً.

أما الدور “الإسرائيلي” فينسجم مع الموقف الغربي ومع تصورات القيادة المركزية للقوات الأميركية وأهدافها في المنطقة. ووفق “معهد واشنطن”، “تم نقل “اسرائيل” في 15 كانون الثاني/ يناير 2021 من منطقة عمليات القيادة الأوروبية للقوات الأميركية الی منطقة عمليات القيادة المركزية (مقرها البحرين) لتسهيل التعاون الأمني الثنائي والإقليمي وتقاسم الأعباء لقيام حوار بين الجيشين الأميركي و”الإسرائيلي” حول الشراكة الصينية الإيرانية”.

بالمقابل، فإن إيران دولة مشاكسة؛ غير قابلة للتطويع وفق الرؤية الغربية؛ لا علاقة لها لا بحلف الناتو ولا بالقيادة المركزية للقوات الأميركية؛ وفي الوقت ذاته، لم تدخل في أي حلف عسكري سواء مع روسيا أم مع الصين.. ثمة تنسيق وتعاون بين إيران وروسيا علی خلفية الازمة السورية لكن من دون إنخراط الطرفين في تقاطعات أمنية وعسكرية أبعد من ذلك؛ ولعل “امتناع” إيران عن التصويت علی قرار الأمم المتحدة بشأن الأزمة الأوكرانية في الأسبوع المنصرم ـ وليس رفضها ـ يحمل العديد من الدلالات في هذا الإتجاه.

إقرأ على موقع 180  غاز وعثمانيون وإغريق: صداقات.. وعداوات!

بهذا المعنى تبقی إيران حذرة.. قلقة.. تشاهد وتراقب وترصد، لانتهاج الموقف الذي يحفظ مصالحها وهي تخوض مفاوضات شاقة ومعقدة في فيينا منذ نيسان/ أبريل الماضي من دون ان يتم التوصل الى اتفاق حتى الآن. هذا الحذر والقلق والترقب عكسته مواقفها الضبابية حيال حرب أوكرانيا. فهي رفضت الحرب، لكنها أدانت الغرب من دون أن تُدين روسيا. لم ترفض قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن روسيا لكنها امتنعت عن التصويت. لم تُدن روسيا، لكنها لم تعترف بانفصال دونيتسك ولوغانسك. مرد هذه الضبابية قلقها من تمدد حلف الناتو نحو الشرق لأن ذلك سيجعل صواريخ الحلف علی مرمی حجر من حدودها وهو ما يسبب لها اخطاراً جيوسياسية، برغم أن تجاربها السابقة مع غزو العراق عام 2003 وافغانستان عام 2001 اوجدت لديها خبرة بالشكل الذي تجعل مصالح أمنها القومي أولوية الأولويات برغم وعورة الطريق وقساوة المشوار.

 [email protected]

Print Friendly, PDF & Email
محمد صالح صدقيان

أكاديمي وباحث في الشؤون السياسية

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  "الردع المتبادل".. حرب أميركيةـ روسية باردة في الجو