تستعد السلطات الروسية منذ 8 سنوات لهذه الحرب الاقتصادية. أكانت روسيا قد استُدرِجت إلى الحرب الميدانية في أوكرانيا أم أرادتها فعلاً، فإن الحرب الاقتصادية التي تستهدف البنية المالية الأساسية لاحت في الأفق منذ أن استخدمت واشنطن وحلفاؤها سلاحَ “الدولار” وحوّلوه إلى أداة ابتزاز تحت مسمّى “العقوبات”.
خلال هذه المدة، طوّرت موسكو نظاماً خاصاً بالتحويلات المالية بالتعاون مع الصين سُمي نظام SPFS قد يُمثل بديلاً عن نظام SWIFT الذي تهيمن عليه واشنطن وعملت على تنويع احتياطي النقد الأجنبي لديها وتقليل نسبة احتياطي الدولار الأميركي فضلاً عن تعزيز احتياطي الذهب وإبرام اتفاقيات تجارية طويلة الأمد بالعملات المحلية أو باليورو واستدانت من أسواق المال ما يمثل 20% من إجمالي ناتجها القومي، وهو ليس بكثير لكنه يكفي لتوفير السيولة التي تحتاجها.
هذه الدفاعات وإن بدا أنها لم تُفعّل كلّها بالقدر الذي يُغني موسكو عن الولوج إلى أسواق المال الدولية أو التعامل بالدولار – العملة المفضلة في التجارة والاستثمار- تبقى ملاذاً آمناً لموسكو وحلفائها وكل من عنده مصالح مشتركة معها للحفاظ على النفَس الطويل في الحرب الاقتصادية والخروج منها بأقل أضرار ممكنة.
وإلى أن يُتخذ القرار بتفعيل هذه الدفاعات، سارع البنك المركزي الروسي إلى فرض سلسلة تدابير لضبط الأسواق ومنع الفوضى. فقرر:
- منع الأجانب بيع أسهمهم الروسية وسحب الأموال من السوق المالية الروسية.
- منع مغادرة روسيا مع أكثر من 10 آلاف دولار نقدًا.
- أمر الشركات بتحويل 80% من عوائدها من العملات الأجنبية إلى الروبل.
- إلغاء ضريبة القيمة المضافة على مشتريات الذهب من قبل الأفراد (لتشجيع شراء الذهب كوسيلة للتحوط بدلا من العملات الاجنبية).
- إستئناف شراء الذهب من الأسواق المحلية وطرح مزاد لإعادة الشراء من دون قيود.
- تخفيف القيود المفروضة على المراكز المفتوحة للعملات الأجنبية لدى البنوك.
- زيادة نطاق الأوراق المالية التي يمكن أن تستخدم كضمانة للحصول على قروض من البنك المركزي.
هذه القرارات تأتي بعد انخفاض قيمة الروبل بنسبة 44% أمام الدولار في أول عشرة أيام أعقبت إندلاع الحرب، وبعد موافقة شبكة SWIFT على فصل عدد من المصارف الروسية عن نظامها للتحويلات المالية حول العالم باستخدام الدولار.
قد تُعامل روسيا على أنها دولة “معادية” وتُعزل جزئياً عن التدفقات المالية العالمية وتحرم من الاستثمارات الكبرى والتفاعلات الاقتصادية التي من خلالها تتحدد المستويات المعيشية للأفراد والمداخيل وربحية الشركات، لكن الاقتصاد الروسي لن ينهار سريعاً، كما إفترض وزير المالية الفرنسي برونو لومير قبل أن يعود ويتراجع عن تصريحه
التراجع الدراماتيكي لقيمة العملة الروسية (106.5 روبل مقابل الدولارالواحد تاريخ إقفال امس الإثنين) يؤكد أن الإجراءات القاسية والمتتالية التي اتخذتها واشنطن ولندن والإتحاد الأوروبي ضد المؤسسات العامة في روسيا والأفراد والشركات فعلت فعلها وجعلت موسكو أمام امتحان صعب، ما دفع المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديميتري بيسكوف إلى القول صراحة إن الاقتصاد الروسي “يواجه ضغطًا شديدًا وضربة قاسية لكن ما زال هناك هامش للأمان. هناك قوة وهناك خطط”. فعن أي قوة وأي خطط يتحدث؟
نظام نقل الرسائل المالية
هو نظام SPFS والتسمية تعني “نظام نقل الرسائل المالية” ويقوم بصياغة ومعالجة التنسيقات الموحدة للرسائل المصرفية الإلكترونية. وقد نُفذت أول معاملة ناجحة له في كانون الأول/ ديسمبر من عام 2017 ولديه الآن أكثر من 400 مؤسسة مالية في شبكته من 23 دولة أغلبها في آسيا. وبحسب بيانات البنك المركزي الروسي فإن 20% من التحويلات المالية من روسيا وإليها تتم من خلال SPFS وتُجري الحكومة الروسية محادثات لزيادة هذه النسبة وتوسيع استخدامه. وتوصلت إلى العديد من الاتفاقيات لربط نظام SPFS بأنظمة الدفع في كل من الصين والهند وإيران وعدد من الدول المنضوية ضمن الاتحاد الأوراسي.
وبرغم أن هذا النظام ليس متكافئاً مع الـ SWIFT بسبب ارتفاع تكاليف المعاملات وعدم اتساعه بالقدر الكافي خارج حدود روسيا وعدد محدد من حلفائها الاقليميين، لم يجرؤ الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة على “عزل” روسيا تماماً عن الشبكة الأكثر استخداماً للتحويلات المالية SWIFT واكتفى بالمطالبة بفصل 7 مصارف فقط من أصل 300 مصرف روسي منضم إلى هذه الشبكة.
المصارف المفصولة هي VTB وRossiya وOtkritie وNovikombank وPromsvyazbnk وSovcombank وVEB.RF والذريعة هي تعاملها الوثيق مع الحكومة الروسية. اللافت للإنتباه أن اللائحة لم تشمل المصارف التي تستقبل مستحقات النفط والغاز الروسي وعلى رأسها Sberbank وGazprombank مع الإشارة إلى أن sberbank هو أكبر مُقرض في روسيا وقد شُمل بنوع آخر من العقوبات الغربية. إذاً يبدو أن دول الاتحاد الأوروبي ما زالت بحاجة ماسة إلى القنوات التي تُسدّد عبرها ثمن مشتريات النفط والغاز من روسيا التي لا بديل لها حتى الآن، برغم كل الاجراءات العدائية تجاه موسكو والتي تعدت السياسة والاقتصاد إلى مجالات الثقافة والفن والرياضة والإعلام والتعليم.
سلاح الغاز
إنتكس الدفء في العلاقات الروسية – الأوروبية منذ اعتراف فلاديمير بوتين باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك. لكن دفء القارة الأوروبية وأمنها الطاقوي ما زال مرتبطاً بإمدادات الغاز من روسيا التي قررت الاستمرار في الوفاء بالتزاماتها وفق ما تنص عليه العقود، ولكنه أمر يبقى قابلًا للتبدل تبعًا للتطورات المستقبلية.
بصراحةٍ، أوضح المستشار الألماني أولاف شولز أنه “تم استثناء إمدادات الطاقة الروسية من لائحة العقوبات، إذ لا توجد طرق أخرى لضمان أمن الطاقة في أوروبا حتى الآن”. لكنّ موسكو لم تفصح بالصراحة نفسها، عما يمكن أن تفعله بعد انتهاء المهل المحددة في العقود.
في الواقع، تعتمد القارة الأوروبية على روسيا لإمدادها بـ26% من إجمالي واردات النفط الخام و40% من إجمالي واردات الغاز. بدورها، تعتمد روسيا على عائدات مبيعات الطاقة إلى أوروبا التي تمثل 70% من إجمالي إيرادات شركة “غازبروم” الحكومية العملاقة. وقد يكون تقاطع المصالح هذا، السببَ الرئيس لتحييد الغاز حتى اللحظة وعدم استخدامه ورقة ضغط في الصراع القائم ولا سيما أن السوق مضطربة أصلاً وتشهد ارتفاعاً جنونياً بالأسعار التي تجاوزت مستوى الـ 3600 دولار لكل ألف متر مكعب من الغاز في ظل نقص المخزونات التي يؤكد مسؤولون أوروبيون أنها تمثل 30% فقط من إجمالي القدرة التخزينية.
ولعل ما زاد اضطراب الأسواق هو تأكيد كبار مورّدي الغاز وعلى رأسهم قطر أن أحداً لن يستطيع تعويض الفاقد من الغاز الروسي في الأسواق (قطر وغيرها أكدوا إرتباطهم بعقود تصدير طويلة الأمد لا يمكن المس بها)، فضلاً عن إدراك الأوروبيين أن الاستعاضة عن الغاز الطبيعي الروسي بالغاز المسال الأميركي ـ وهو المنافس الأبرز حالياً للغاز الروسي ـ سترفع الفاتورة أكثر مما هي مرتفعة الآن وستزيد المدة الزمنية اللازمة لوصول الشحنات المطلوبة.
عند احتساب قيمة الاحتياطي الموجود داخل روسيا مع ما هو موجود لدى الدول الحليفة وعلى رأسها الصين يتبين أن نحو 188 مليار دولار موجود في روسيا والصين، أي ما يمثل 60% من إجمالي الاحتياطي الذي يمكن وصفه بالـ”آمن” وغير قابل للاحتجاز
لكن إذا قرر الرئيس الروسي تغيير قواعد الاشتباك ونقل الاحتدام الحاصل في الميدان إلى أسواق الطاقة فبإمكانه وقف إمدادات الغاز عبر أوكرانيا في العام 2024 عندما ينتهي العقد الحالي لترانزيت الغاز عبر هذا البلد، كما بإمكانه وقف الضخ أو تقليله عبر الخطوط الأخرى. علماً أن روسيا تصدّر الغاز إلى أوروبا عبر خطوط عدة هي:
- الخط التقليدي الذي يمر عبر الأراضي الأوكرانية والبيلاروسية والمولدوفية.
- خط “يامال” الذي يمر عبر أراضي بيلاروسا وبولندا وألمانيا.
- خط “السيل الأزرق” Blue stream الذي يمر تحت البحر الأسود.
- خط “السيل الشمالي – 1” Nord stream الذي يمتد من روسيا إلى ألمانيا عبر قاع بحر البلطيق.
- كان من المفترض العمل بالخط الجديد “السيل الشمالي – 2” مطلع العام 2022 قبل ان تقرر ألمانيا تعليق العمل به إلى أجل غير مسمى.
لن يكون من الصعب على روسيا الاستغناء عن السوق الأوروبية تماماً بعد أن عزّزت وجودها في الأسواق الآسيوية ولا سيما الصين التي تعد أكبر سوق عالمية من حيث الاستهلاك والتي زادت مشترياتها من روسيا بعد توسيع خط أنابيب “قوة سيبيريا” إلى أكثر من 10 مليارات متر مكعب، فضلا عن أسواق الهند وجمهوريات آسيا الوسطى وجنوب شرق أسيا.
الاحتياطي الدولي
منذ أيام قليلة، صرّح المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، محمود محي الدين، أن العقوبات الأوروبية الاقتصادية قد لا تؤثر تأثيرًا كبيرًا على روسيا لأن لديها احتياطي نقدي يغطيها لمدة عامين متتاليين.
ولم يذكر المسؤول الأممي ما تمثله عائدات النفط والغاز التي يتوقع أن تزيد في الأشهر المقبلة بمقدار 17.5 مليار دولار في ظل ارتفاع الأسعار العالمية إلى مستويات قياسية لم تشهدها الأسواق منذ نحو 10 سنوات، إلى جانب الفائض في الحساب الجاري الذي يُقدر بـ5% من الناتج المحلي الإجمالي.
في الواقع، تبلغ الاحتياطيات الدولية لروسيا 638.2 مليار دولار تشمل النقد الأجنبي والذهب، وذلك بحسب بيانات البنك المركزي الروسي في كانون الثاني/ يناير من هذا العام، فضلاً عن حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد الدولي SDR برغم كون الأخيرة معرّضة للاحتجاز بطلب مباشر من أوكرانيا إلا أن مجلس إدارة الصندوق لم يبت بالأمر بعد.
ويتوزع الاحتياطي النقدي بالعملات الأجنبية كما يلي:
-اليورو: 32.3%
-الدولار الأميركي: 16.4%
-اليوان الصيني: 13.1%
-الذهب: 21.7%
-غيره: 16.5%.
مع الإشارة إلى أن احتياطي الذهب موجود بأكمله في روسيا أما النقد الأجنبي فيتوزع على الدول كما يلي:
-13.8 % موجود في الصين
-12.2 % موجود في فرنسا
-10 % موجود في اليابان
-9.5 % موجود في ألمانيا
-6.6 % موجود في الولايات المتحدة
-5 % في المؤسسات الدولية
-4.5 % في المملكة المتحدة.
وعند احتساب قيمة الاحتياطي الموجود داخل روسيا مع ما هو موجود لدى الدول الحليفة وعلى رأسها الصين يتبين أن نحو 188 مليار دولار موجود في روسيا والصين، أي ما يمثل 60% من إجمالي الاحتياطي الذي يمكن وصفه بالـ”آمن” وغير قابل للاحتجاز، علماً أن خبراء ومراقبين يستبعدون أن تستفز الدول الأوروبية موسكو من خلال احتجاز أموالها، بينما هي في حاجة ماسة إلى استيراد الغاز والمعادن منها.
يُذكر ان روسيا تعمل على إطلاق “الروبل الرقمي” الذي يختلف عن سائر العملات المشفرة مثل بيتكوين وإيثريوم وغيرها كون السلطات الرسمية هي من تصدره وتتحكم فيه وتحدد قيمته. وقد يتحول هذا الروبل الرقمي إلى وسيلة جديدة للاستغناء عن الدولار في التجارة والاستثمار أقله بين روسيا وحلفائها.
في الخلاصة، قد تُعامل روسيا على أنها دولة “معادية” وتُعزل جزئياً عن التدفقات المالية العالمية وتحرم من الاستثمارات الكبرى والتفاعلات الاقتصادية التي من خلالها تتحدد المستويات المعيشية للأفراد والمداخيل وربحية الشركات، لكن الاقتصاد الروسي لن ينهار سريعاً، كما إفترض وزير المالية الفرنسي برونو لومير قبل أن يعود ويتراجع عن تصريحه. فلكل إجراء عقابي أوروبي أو أميركي ضد روسيا إجراءٌ جوابي يعادل الأضرار بين أطراف النزاع، كما لكل سوق تخسرها روسيا أو قناةٍ تُقفل في وجهها سوق بديلة وقناة جديدة، ناهيك عن خطورة لعبة أسواق الطاقة وما قد تطلقه من شرارات تقلب الأمور رأسًا على عقب.
قد تعزز هذه الحرب بمختلف أوجهها الانقسام الحاصل بين الشرق والغرب وقد تعمق الهوّة التي تفصل المحورين المتصارعين على الساحة الأوكرانية. روسيا تحاول أن تثبت حتى الآن أنها جاهزة للسير على حافة الهاوّية من دون أن تقع فيها. فماذا عن الآخرين؟