لا تكون الحرية إلا فردية. هي ما يتعلّق بالضمير وحده. لا أظن أن الضمير الجماعي إلا تعبيراً متناقضاً في ذاته، إذ أن موقع الضمير هو الفرد لا الجماعة. ولا أظن أن الضمير الجماعي إلا أمراً مختلفاً تصطنعه السلطة لفرض رأيها على الناس وإيهامهم أن قول السلطة هو رأيهم. نعم هناك ما يسمى الرأي العام، وهو في حقيقته محصلة رأي أفراد المجتمع في مواجهة السلطة. في الدولة الحديثة يفترض أن تعبّر السلطة عن الرأي العام. في نظام الطغاة تصطنع السلطة الرأي العام. يصير الفرد صدى للسلطة. تحاول السلطة الديكتاتورية دائما أن تفرغ الضمير من محتواه. تجعله كالطبل المفرغ الذي تصدر أصوات الدَرْبَكة عن فراغه.
الفردية هي الأنا في علاقتها مع الغير. هي الأنا العارفة. الذات التي تدرك الموضوع ولا تنفصل أو تنعزل عنه. هي الذات التي تستوعب الموضوع. تعرفه دون أن تنقاد إليه أو تحاول السيطرة عليه. هي الأنا الغيرية التي لا تنكر الغير سواء أكان بشراً أو غيره. بل تقيم علاقة معه. علاقتها بالآخر تقررها مطالب تتعلّق بالذات وبالآخر. ليست في تناحر مع الآخر، بل يحكم علاقتها بالآخر التعاون. هي الأنا الأخلاقية التي لا تضمر غير ما تعلن. الضمير الفردي مصدرها في علاقة لا في عزلة أو تناحر مع الآخرين أو مع العالم الخارجي.
مع الثورة المعرفية تفككت عرى المؤسسة الدينية (الكنسية) في أوروبا، وصار بإمكان الإنسان أن يسخر من المعارف الكنسية. وحدث الإصلاح الديني. وإضطرت الكنيسة الى إصلاح مضاد كي تحافظ على نفسها
الدين والسياسة والإستبداد
إما أن يعمل الفرد أو يفكّر حسب ضميره أو حسب ما تمليه قوة خارجية سواء كانت دينية أو سياسية. عندما يستسلم الضمير لأية قوة خارجية يكون الاستبداد إذا كان الموضوع سياسياً، ويكون الدين إذا كان الموضوع إلهياً. تنعدم الأخلاق حين الخضوع لقوة خارجية حتى ولو كانت المتسامي، وخاصة إذا كان الطاغية الذي يعتبر نفسه ممثلاً لله على الأرض أو ممثلاً للشعب لدى الله، أو الإثنين معاً. فالدين والاستبداد يفرغان الفرد من الضمير، والضمير من الأخلاق. يسلخان الأخلاق عن الضمير. يعدمان الأخلاق. حين يفقد الفرد فرديته تزول الأخلاق. ليست الأخلاق ما جاء به الدين، بل هي قديمة قدم الإنسان. وهي التي جاءت بالدين. إذا كان الدين فطرة، فالأخلاق فطرة أعمق في الذات الإنسانية. الفعل الحسن، والإحسان عموماً، كانا قبل الدين، أو هما ما جعل الدين أمراً ضرورياً يقونن الأخلاق، ويضع لها القواعد والأسس؛ قواعدٌ وأسسٌ تتجدد مع التطوّر. وهي قواعد وأسس لما كان موجوداً قبل الدين. وهي ما جعل الدين ممكناً. الدين إرادة إلهية بمقدار ما يكون إرادة بشرية. الإنسان صنع الله ويصنعه حسب متطلباته. كان الله في اعتبار القدماء وثناً، ثم صار قدرة كلية وشاملة وكونية. وذلك حسب رؤية الإنسان. لو لم يكن البشر في الوجود لما صار الله موجوداً. ليس الظن أن النبات والحيوان يدركان الله.
الأنا العارفة
الأنا العارفة تدرك ما حولها، الذي يمتد مما هو أقرب إليها من حبل الوريد الى نهاية الكون. تتطوّر الأنا العارفة مع تراكم المدركات. وكل تراكم يؤدي في تطوره الى الانتقال من بارادايم الى آخر. ربما كان الانتقال تدريجياً أو فجائياً. تصنف العصور في تتاليها بماهية البارادايم السائد فيها. أن تكون الأرض كروية بعد أن كانت تعتبر مسطحة يفترض علاقات أكثر تعقيداً بين البشر. وأن تدور الأرض حول الشمس يفترض زماناً آخر ونظريات أخرى لم يرضخ لها الدين ومؤسساته إلا قسراً. الأرض المسطحة ودورانها حول الشمس هما تعبيران عن الحس المباشر. كروية الأرض ودورانها حول الشمس يعبران عن حقيقة أن المعرفة تنتقل من المباشر الى ما يدرك بالعقل لا بالحس. وكان على الدين حينها واجب أن يُطوّر نفسه ليتناسب مع العلم. الأمر ينطبق على الأخلاق. مع التطوّر البشري لا تقتصر الأخلاق على الإحسان والشعور بالحنان تجاه الإنسان الآخر، الأكثر فقراً أو الأقل ثروة، بل يتطلّب عملاً سياسياً، بالأحرى علاقات بشرية تجعل الإحسان ليس منة بل واجباً لا يتحقق إلا من خلال الدولة. مع بطلان نظرية سيطرة الأرض على الكون صار من الضروري أن يتغيّر شكل سيطرة طبقة على أخرى. وتتغيّر السيطرة الطبقية وصولاً الى التعاون البشري الكامل.
مع الثورة المعرفية تفككت عرى المؤسسة الدينية (الكنسية) في أوروبا، وصار بإمكان الإنسان أن يسخر من المعارف الكنسية. وحدث الإصلاح الديني. وإضطرت الكنيسة الى إصلاح مضاد كي تحافظ على نفسها. وانتقل الإنسان من يقين الميتافيزيقيا الى شك وتجريبية العلم في مواجهة صرامة الدين المعرفية. وقبل ذلك بقرون كان الانتقال من السحر الى الميتافيزيقيا؛ من إدراك الأشياء بالحس المباشر الى إدراك ما وراء الظواهر. ولم يعد مصير الإنسان قدراً يقرره المتسامي بل إمكانية واحتمالاً. صار مصير السلطة الطبقية والملكية احتمالاً بين احتمالات أخرى. مع تعدد الاحتمالات توسّع مجال الحرية. المجال الذي يضيقه الاستبداد. كلما اشتد الاستبداد تناقضت الاحتمالات.
المعرفة والدين
مع تطور المعرفة وانتشارها عن طريق المطبعة، التي أدت الى إسترخاص ثمن الكتب ونشر الجرائد والإعلانات، توسعت مدارك الفرد (في الدولة العثمانية منعت المطبعة التي اكتشفت في أواخر القرن الخامس عشر، ولم يُسمح بها حتى أواخر القرن السابع عشر. وربما كان هذا الفارق الزمني ذو أثر في توليد هوة معرفية لدى النخب والطبقات الوسطى).
لم تعد المعرفة حكرا على الدين، ولا على طبقة من رجال الدين أو الطبقات العليا. صارت المعرفة ذات انتشار شعبي. لم يكن صدفة أن الثورة الدينية (مارتن لوثر كينغ) حدثت بعد اكتشاف المطبعة بنصف قرن. ولا بدّ وأن انتشار المعرفة هزّ المعتقدات والمسلمات، وحرّر العقل. العقل بالمعنى اللغوي هو أساساً قيد. انتشرت المعرفة عند الكثير من الطبقات الاجتماعية. تزعزعت المعرفة، بالأحرى الايديولوجيا الجماعية والمجتمعية، وبعضها انهار بفعل المعرفة الجديدة. وتكاثرت الأسئلة والشكوك، والتطلّع الى أجوبة من نوع آخر. تزعزعت المؤسسة المعرفية فصار الفرد متكلاً على نفسه في الإجابة على الأسئلة والشكوك، القديمة والجديدة. تشكّل الوعي الفردي. وصار تدريجياً ضمير الفرد هو صاحب القرار معرفياً وأخلاقياً. وهو مصدر السلوك والرأي.
لا يولد المرء حراً، بل تولد معه القابلية للحرية أو ما هو ضدها. يحاط بالقيود لحظة مولده وبعدها. يصير حراً مع تطوّر وعيه
الحرية والمعرفة
الحرية إرادة. والإرادة إذا لم تصدر عن معرفة فهي تسلّط واستبداد. ليس أكثر من الجهل مصدراً للاستبداد. أنظمة الاستبداد جميعها تبقي الجهل لدى عامة الناس. مع تعميم المعرفة، بالاحرى حين أصبحت عامية ومبتذلة، تحولت الى أساس للحرية.
الحرية ليست في أن نولد أحراراً. هي في أن نصبح أحراراً. نخضع للمصادرة حين نولد. فيصادرنا كل دين أو مذهب أو ايديولوجيا عند الولادة (بالإذن من عمر من الخطاب). هي في كيف نصير بعد أن نستعبد لدى السلطة والدين والاستبداد. الحرية لا تتعلّق فيما مضى بل في صنع المستقبل. هي إرادة الفعل. وإرادة الفعل حيوانية إذا لم تتعلّق بالمعرفة. الحرية لا تتعلّق بالاختيار بين ما مضى أو خلافه. هي في صنع المستقبل. هي إرادة وهي لا يمكن أن تكون عقلانية إلا بالاستناد الى المعرفة. الحرية هي أن تختار بين قنوات متعددة للمعرفة. والمعرفة اختيار بين احتمالات.
الحرية نزاع داخل الذات ومع الذات. يولد الإنسان وتنغرز في داخله القيود. قيود التراث والتربية والضغوط الاجتماعية والسياسية. المتفلت منها الى اكتساب القدرة على تشكيل الرأي الخاص، أو ما يسمى الضمير، هو مسار الحرية. للعقلانية وجهان. القيود التي توضع على الإنسان (الأساس اللغوي لكلمة عقل هو ربط). والوجه الثاني هو التفلت من هذه القيود أو تجاوزها. أن يتجاوز المرء ذاته هو مسار الحرية.
الحرية شغب داخل النفس، وضدها، ومن أجلها. من أجل أن تبقى النفس سليمة، خالية من الهزء والنفاق. الحرية استقامة تخرج عن اعوجاج المجتمع وتفاهة السياسة. هي في الضمير ما يعوّض عن كل شيء مادي. لا حساب فيها للمادي. الحساب كله للمعنوي، إذا كان هذا يخضع للحساب. هي التلقائية التي لا تجد في العفوية رومنطيقية، بل واقعية فوق مستوى الواقع. تلقائية التعاطف مع كل ما هو إنساني دون إحساس بالشفقة، ودون حاجة للإحسان. فيها ينقلب الإحسان. يصير هو المتلقي. هو المتفوّق على مصدر العطاء. لا يحقق العاطي نفسه إلا في وجود المُعطى إليه.
الرأي والثورة
تقول الليبرالية بحرية إبداء الرأي. تقدس حرية إبداء الرأي. لكنها لا تعير اهتماماً لكيفية تولّد الرأي. يتولّد الرأي عند البورجوازية لأنها تملك فائض الوقت. وهو في أصله فائض القيمة، ليصير الفكر والرأي ترفاً. إبداء الرأي هنا هو فائض الرأي. الرأي الأساسي عندها مرهون للغير؛ خارج الضمير، وخارج الذات الإنسانية. لا تهتم الليبرالية بكيفية تولّد الرأي، وأن الرأي يجب أن يوجد قبل التعبير عنه، تماماً كما أن القيمة تتشكّل من العمل قبل توليد فائض القيمة وحيازة الرأسمال لهذا الفائض، من أجل استخدامه لقمع الرأي. كما فائض القيمة (الربح، الثروة، التراكم) يستخدم لقمع منتجي القيمة؛ قمع الكادحين العاملين في مختلف قطاعات الإنتاج. الليبرالية تدافع عن إبداء الرأي بشراسة لكنها تستغل الرأي وتقف بينه وبين إبدائه إن لم يكن مناسباً. الليبرالية لا تحب التمرّد.
لا يولد المرء حراً، بل تولد معه القابلية للحرية أو ما هو ضدها. يحاط بالقيود لحظة مولده وبعدها. يصير حراً مع تطوّر وعيه. مع تراكم المعرفة، مع تراكم الشك والريبة بما هو قائم، وبما هو موروث، وما هو مغروز بالتربية. التمرد على كل ذلك يجعل المرء حراً. التمرّد في المجتمع على المجتمع والسلطة النابعة منه، هو الذي يقود الى الحرية.
من اتبع الموروث وخضع لواقع الأمور وانسجم كلياً مع المجتمع لا إرادة له. تتكوّن الإرادة في رحم الذات ضد المجتمع. الذي يريد هو ليس وريث الماضي بل الثائر عليه. الإرادة في الممارسة كالرأي في الفكر تحتاج الى أن تؤسس نفسها على المعرفة وإلا كانت صادرة عما يقارب الغريزة أو يشابهها. التمييز بين الإرادة والرأي، كما بين الممارسة والفكر ليس إلا تحليلياً. فالواحد منهما يقود الى الآخر بل هو جزء منه. كل مفهوم من هذين الزوجين مختلط بنقيضه. بحيث أننا لا يمكن الحديث عن واحدهما دون الآخر. الفصل بين الفكر والممارسة لدى البورجوازية، وحتى في المجتمعات الفيودالية والإقطاعية، هو لجعل الفكر مرتبطاً بالدين والعبادة، وحصر الممارسة (العمل) بالطبقات الدنيا، التي يُزعم أنها ليست بمستوى أن تفكر، وأن الفكر يجب أن يبقى محصوراً في نخبة لا تعمل وتعيش على فائض عمل الغير. كان وما زال ممكناً، بل ضرورياً، للسلطة أن تحول بين عامة الناس والفكر، وبينهم وبين استخدام العقل، من أجل أن تصادر وعيهم وتشكّل فكرهم وعقلهم وتدجّن الايديولوجيا لديهم، لجعل الخضوع والاستسلام أمراً طبيعياً؛ يجعل الفرد أداة من أدواة العمل والإنتاج، وسيلة لغيره دون أن يكون فكره ووعيه مصدران لسلوكه وممارسته. في المجتمع الصناعي ليس للعامل دور سوى أن يكون رديفاً للآلة. وفي المجتمع الزراعي ليس للفلاح دور سوى أن يكون خادماً لحيوانات الحرث، ومحركاً بغير إرادة في الحرف والمهن.
كان وما زال ممكناً، بل ضرورياً، للسلطة أن تحول بين عامة الناس والفكر، وبينهم وبين استخدام العقل، من أجل أن تصادر وعيهم وتشكّل فكرهم وعقلهم وتدجّن الايديولوجيا لديهم، لجعل الخضوع والاستسلام أمراً طبيعياً
تقسيم العمل بين الفكر والممارسة هو من سمات كل مجتمع طبقي حيث الهيراركية فيه ذات تراتبية تفرض على الطبقات الدنيا العمل دون الفكر، والطبقات العليا الفكر دون العمل. على كل حال، تفرز، أو كانت تفرز الطبقات العليا، بعضا منها، وجعل ذلك للدين والأدباء والشعراء من مدعي السلطة ومبرري نظام التمييز وإلحاق معظم الناس بأفكار تفرض عليهم ولا يفقهونها. كان التعليم نخبوياً، والمثقفون طبقة نخبوية ملحقة بأهل السلطة، ودوي السلطان الأعلى سواء كان بشرياً، يقبض على النظام السياسي، أو متسامياً يقبض على النظام الإلهي.
تعميم المعرفة، والرأي، والفكر، والإرادة، يتطلّب ثورات عديدة؛ يتطلّب تطويراً في اللغة، وفي معظم الأحيان خروجاً من اللغة العليا (اللنغوا فرانكا) الى ما يسمى اللغة العامية وجعلها هي الفصحى أو لغة الإفصاح. وفي مجتمعاتنا العربية تختلف الفصحى عن لغة القرآن. وهي الآن تقترب تدريجياً من العاميات، أو العكس صحيح. لكن ارتباطها بلغة القرآن يجعل تطورها صعباً. وهنا صعوبة تخلّص الحاضر من الماضي والتراث. وكان منع المطبعة في الدولة العثمانية (والصفوية) لأكثر من قرنين محاولة من النخبة بجعل المعرفة احتكاراً لها، بينما استخدامها في الغرب الرأسمالي كان خطوة في المسار الى الديمقراطية في البلدان ذات الحكم الملكي، وفي الجمهوريات لاحقاً. ثم جاء الفصل بين التكنولوجيا والعلوم النظرية في زمننا المعاصر لجعل التكنولوجيا عملاً يدوياً ومُعمماً، والعلوم النظرية محصورة بالنخبة وجامعاتها الملحقة بالسلطة السياسية والدينية. (يُتبع)
(*) مقالة من كتاب “تأملات 2022 في الحرية والسياسة والدولة” لمؤلفه الفضل شلق، يصدر عن الدار العربية للعلوم ـ ناشرون (2023).