“عقدة أوكرانيا” على أبواب.. الكرملين 

أي مقاربة لنتائج الحرب الدائرة في أوكرانيا، لن تخرج عن إطار أولي وابتدائي، فالحرب ما زالت في باكورة فصولها، والحروب، غالباً، ما تجر معها مفاجآت ومعطيات من خارج المعادلة العقلية القائمة على ضرب الأخماس بالأسداس، ومع ذلك، تفتح الحروب باب التحريض على إجراء مقارنات بينها، خصوصا حين يرافقها سؤال كبير: هل يمكن أن يخطىء أصحاب العقول الإستراتيجية؟

بعد مضي أسبوعين على الحرب الروسية ـ الأوكرانية، لم تظهر في الأفق مقدمة لإنشقاق أهلي أوكراني ولا بادرة لإنهيار الجيش (راجع: هل أخطأ بوتين في حساباته)، وإذ لا يمكن استبعاد حدوث أمر كهذا في فصول الحرب المتعاقبة، لكن النصر السريع والمؤزر عبر “الحرب الخاطفة” الذي كان يراود الكرملين بعد إطلاق عجلة العملية العسكرية في الدولة الجارة، بات وراء ظهر الطموحات حتى لو تعدلت الخرائط الميدانية لمصلحة الجيش الروسي في فصول الحرب المقبلة، وهذه العوامل تقود إلى المقارنات التالية:

أولاً؛ “الحرب الخاطفة”:

في الأول من أيلول/ سبتمبر 1939، بدأ الإجتياح النازي الألماني لبولندا، وما هي إلا أيام معدودات، حتى كانت القوات الألمانية قد دمّرت غالبية البنية العسكرية البولونية، وانهار معها الجيش البولوني، وفي الأسبوع الأول دخل الألمان إلى العاصمة وارسو، وفي الأسبوع الثاني كان كل شي في بولندا قد أضحى تحت سيطرة أدولف هتلر.

شيء من هذا القبيل حدث بين ألمانيا والدانمارك والنروج، فقد احتلهما الألمان خلال أيام، وحين اتجهت القوات الألمانية نحو هولندا وبلجيكا وفرنسا، بدت الدول الثلاث أضعف من مواجهتها، فاستسلم الهولنديون بعد أسبوعين، والبلجيك بعد ثمانية عشر يوما، ولم يستغرق اجتياح الألمان لفرنسا سوى شهر ونيِف (10 أيار/ مايو 1940ـ 18 حزيران/ يونيو 1940)، مع أهمية الإشارة إلى موقع وقوة فرنسا الأمبراطورية آنذاك، أين منها قوة أوكرانيا قبالة روسيا!

طموح “الحرب الروسية الخاطفة”، في أوكرانيا قد ولى أدباره، وغدا في عالم المعجزات إلا إذا انقلب ظهر المجن سريعاً وعاجلاً لمصلحة روسيا في المقبل العاجل من فصول الحرب

ولم يختلف حال العدوان الإسرائيلي على دول الطوق العربية في الخامس من حزيران/ يونيو 1967 عما اعتمده النازيون من خطط حربية في الحرب العالمية الثانية، فخلال ستة أيام سقطت مدينة القدس الشرقية والضفة الغربية وغور الأردن ومرتفعات الجولان السورية وصحراء سيناء المصرية في براثن الإحتلال، و”حرب الأيام الستة” تلك خلصت خاتمتها السياسية إلى موافقة الأقطار العربية على القرار 242، المختلف على تفسيره حتى الآن.

وبهذه المقارنات، يكون طموح “الحرب الخاطفة”، في أوكرانيا قد ولى أدباره، وغدا في عالم المعجزات إلا إذا انقلب ظهر المجن سريعاً وعاجلاً لمصلحة روسيا في المقبل العاجل من فصول الحرب.

ثانياً؛ “الإغراء الفوقي”:

خلال مرحلة “الحرب الباردة” بين الكتلتين الشيوعية والأطلسية شاع مصطلح “الحروب بالوكالة”، وخطورة هذا المصطلح ميدانياً، أن القوتين الأعظم، الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، ابتعدتا عن المواجهة المباشرة بينهما، وراحتا تتقاتلان بواسطة غيرهما، وتحولت دول “العالم الثالث” الممتدة من آسيا إلى أفريقيا إلى أميركا اللاتينية كتلة من نار ولهب لخدمة مصالح الكتلتين، غير أن “الحروب بالوكالة” لم تمنع انخراط موسكو ولا واشنطن في حروب مباشرة استراتيجية مع أضداد ثانويين لتحسين مواقعهما في لعبة الشطرنج العالمية، ومن أمثلة ذلك الغزو الأميركي لفيتنام والغزو السوفياتي لأفغانستان، وفي الغزوين كان الرهان على التالي:

أ: حرب فيتنام: رهان الولايات المتحدة على قوى محلية فيتنامية متمثلة في حكومة فيتنام الجنوبية وعاصمتها سايغون.

ب: حرب افغانستان الأولى: رهان سوفياتي على قوى محلية أفغانية كانت استولت على السلطة بإنقلاب يساري في نيسان/ أبريل 1978 بقيادة نور الدين طراقي وبابريك كارميل، وحفيظ الله أمين، كان سبقه توحيد الجناحين اليساريين “بارشام” و”خلق” في حزب واحد أطاح بنظام الجنرال محمد داوود، إلا أن الخلافات التي عصفت بالحكم اليساري الوليد، دفعت القادة السوفيات إلى اجتياح افغانستان في الخامس والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 1979، في محاولة منهم للإحتفاظ بالجغرافيا الأفغانية مستندين بذلك إلى حزب فاعل له أنصاره وجيشه ويقبض على مفاصل السلطة.

في الحالتين، وكما يلاحظ، فإن الأميركيين والروس، أخذهم الرهان بعيداً إلى التعويل على حلفاء لهم يمسكون بمفاصل الدولة من رأس هرمها إلى قاعدتها، وفي الحالتين، كانت المآلات خذلاناً وانكساراً، وإثر هزيمة الأميركيين في فيتنام عام 1975 راجت مقولة “عقدة فيتنام”، وحين انهزم السوفيات في افغانستان لاحقتهم “عقدة أفغانستان”.

المراد قوله في هذين المثالين، ان وجود حلفاء للأميركيين والسوفيات في السلطتين الفيتنامية والأفغانية، أسال لعاب واشنطن وموسكو، فراهنتا وخسرتا، وفي الحالة الأوكرانية لم يكن هناك حلفاء في السلطة لروسيا قبل العمليات العسكرية ولا بعدها، فما الذي أسال لعاب الكرملين؟

ثالثاً؛ “الإغراء التحتي”:

ثمة ثلاث حروب شهدتها مناطق غرب آسيا في العقود القليلة الماضية، راهن فيها المحتلون على انقسامات أهلية كانت إتخذت طابعاً مسلحاً مريراً بين أبناء المجتمعات الواحدة، وفي هذه الحروب كانت المجتمعات إياها تعاني من تحلل دولها وفقدانها للمرجعية الوطنية الجامعة، بل كانت بعض الجماعات الأهلية على توافق مع الجيوش الغازية، مما ساعد الأخيرة على تنفيذ اجتياحات سريعة ترافقت مع مساعي لإنتاج أنظمة سياسية بديلة عن تلك القائمة، أو اصطناع أنظمة موالية وحليفة لها، وفي تفاصيل ذلك:

أ: الغزو الإسرائيلي لبنان عام 1982: لا يقال جديداً، إذا ما تمت الإشارة إلى توافق جماعات لبنانية وازنة ومسلحة مع خارطة الطريق السياسية الإسرائيلية، وذهاب هذه الجماعات إلى الوصول إلى رأس السلطة اللبنانية بالتوافق والتنسيق مع قيادة الإحتلال.

ب: الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001: لا يختلف الأمر عن المثال السابق، إذ ان جماعات أفغانية مسلحة من مختلف الأطياف القبلية والقومية والطائفية، كانت تناصب العداء لنظام حركة “طالبان” القائم في كابول، وهي المعروفة بـ”تحالف الشمال”، وحين أعلن الأميركيون في السادس من تشرين الأول/ اكتوبر 2001 حربهم على “طالبان”، شكل “تحالف الشمال” الأفغاني ذراعا عسكريا هاما ورديفا للقوات الأميركية التي دفعت حركة “طالبان” للإنسحاب من العاصمة كابول في الثالث عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر2001.

إقرأ على موقع 180  أثيوبيا تقفز فوق الحواجز.. فهل تُشعل حرب مياه مع مصر؟(3)

ج: الغزو الأميركي للعراق عام 2003: انطلقت آلة الحرب الأميركية على العراق في التاسع عشر من آذار/ مارس 2003، وفي التاسع من نيسان/ ابريل من السنة نفسها، اجتاح الأميركيون العاصمة بغداد، أي خلال عشرين يوماً، وما كان لهذا الأمر أن يحدث، لولا توافق غالبية عراقية مسلحة مع القوات الغازية على إسقاط نظام الرئيس صدام حسين.

وجود حلفاء للأميركيين والسوفيات في السلطتين الفيتنامية والأفغانية، أسال لعاب واشنطن وموسكو، فراهنتا وخسرتا، وفي الحالة الأوكرانية لم يكن هناك حلفاء في السلطة لروسيا قبل العمليات العسكرية ولا بعدها، فما الذي أسال لعاب الكرملين؟

في هذه الأمثلة، من الأهمية بمكان التمعن بذاك “التناغم” بين جيوش الإحتلال وجماعات محلية مدججة بالسلاح، وهذا ما لا ينطبق على العمليات العسكرية الروسية في اوكرانيا، وبإستثناء المؤيدين لروسيا في إقليم “دونباس”، وهم لم يُظهروا حتى اللحظة قدراتهم على التأثير في الوقائع الميدانية، مما يدفع إلى القول إن “الإغراء التحتي” القائم على التحالف مع جماعات محلية غير متوافر لروسيا في أوكرانيا، وهذا “الإغراء” يفترض وجوده قبل الساعة الصفر من دق النفير وإعلان الحرب.

هل في هذه الأمثلة التي غابت عن عقول الكرملين ما يفسر تباطؤ الخطوات الميدانية للجيش الروسي المصنف في المرتبة الثانية من بين جيوش العالم؟ وحيال ذلك ثمة سؤال يفرض نفسه: هل يمكن للعقل الإستراتيجي أن يخطىء؟ أو أن ينتج عنه تقديرات مواقف غير دقيقة؟

نعم.. العقل الإستراتيجي يمكن أن يخطىء، وفي دروس التاريخ ما يلي:

أولاً؛ هنيبعل:

وصلت جيوشه إلى أبواب مدينة روما (2017 ق. م)، وكادت تدخلها، وفي لحظة سوداء أشار أحد أعضاء مجلس الشيوخ الروماني إلى ضرورة نقل المعركة العسكرية إلى قرطاجة، وبدل أن يتابع هنيبعل هجومه على روما عمل على تقسيم جيشه، فسحب وحدات منه بهدف إرسالها للدفاع عن مدينته الأم، فاستغل الرومان هذا الأمر، وراحوا يخرجون من روما ويهاجمون جيش هنيبعل الذي انخفض عديده وعتاده، فكانت هزيمته الأولى في أوروبا، ثم تلتها الهزيمة الكبرى في قرطاجة نفسها، ولولا هذا التقدير الخاطىء لهنيبعل، لكان اجتاح روما وغيّر وجه التاريخ.

ثانياً؛ نابوليون بونابرت:

في عام 1812 هاجم روسيا وتحت قيادته جيش جرار يزيد عن 600 ألف جندي، وذريعة بونابرت بالهجوم على روسيا، علاقاتها التجارية مع بريطانيا، ومخاوفه من تهديدها لبولندا، وبرغم اتفاقية 1807 الموقعة بين فرنسا وروسيا، آل بونابرت على نفسه اجتياحها، فدخل موسكو ومكث فيها شهراً، إلا أن معظم جنوده كانوا هلكوا جوعاً أو قتلاً أو صقيعاً، فانقلب عائداً إلى بلاده، حيث اضطر لمواجهة “التحالف السداسي” المتشكل من بريطانيا والنمسا وبروسيا والبرتغال والسويد وإسبانيا، واستطاع هذا “التحالف” إقصاءه عن العرش ونفيه إلى جزيرة “إلبا”، ومن هناك حاول استرداد مجده، وخاض معركة “واترلو” الشهيرة عام 1815 التي كانت آخر حروبه وخاتمة طموحاته الإمبراطورية، وهذه النهاية المأساوية لنابوليون بونابرت يختصرها سؤال: ماذا لو لم يهاجم بونابرت روسيا؟ أوليس وراء ذاك الهجوم تقدير خاطىء؟

ثالثاً؛ أدولف هتلر:

الخطأ نفسه الذي وقع نابوليون بونابرت في حفائره، كرره هتلر في تقدير خاطىء حين هاجم روسيا في حزيران/ يونيو 1941، ضارباً بعرض الجدار اتفاقية “عدم الإعتداء” الموقعة مع روسيا قبل عامين من بدء الغزو، وفي المشهدين البونابرتي والهتلري، شكّل اجتياح روسيا مقدمة لهزائم ساحقة لفرنسا وألمانيا وإحباطاً مريعاً لأحلام “الكورسيكان” و”الفوهرر”.

أين أنصار روسيا في أوكرانيا؟ وما الذي يدفع الأوكرانيين إلى القتال؟

ماذا يبقى؟

يبقى القول إن التاريخ لا يعيد نفسه، هذا أمرمسلّم به، ولكن البشر يخطئون، وقد يتغافلون عن أشياء ويبالغون أخرى، وقد يبخسون أشياء ويضخمون نقائضها، وفي المشهد الأوكراني من حق المراقبين أن يسألوا:

ـ أين أنصار روسيا في أوكرانيا؟ وما الذي يدفع الأوكرانيين إلى القتال؟

ـ لماذا لم يُقتل سياسي أوكراني رفيع أو قائد عسكري كبير؟ هل هو إخفاق تعود أسبابه إلى أجهزة الإستخبارات الروسية؟

ـ تبعد مدينة خاركوف عن الحدود الروسية زهاء 50 كلم، فما الأسباب التي تحول دون أن يدخلها الجيش الروسي؟

قبل الختام:

اختل العالم بلا شك بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، وعالم متعدد الأقطاب أفضل بما لا يقاس مع عالم أحادي القطبية، ففي عالم القطب الواحد فقدان للتوازن والإتزان السياسي والثقافي والإقتصادي والإجتماعي، وانزياح نحو مجون القوة وعربدتها وسطوتها، وهذا ما عايشه العالم الثالث، وبالتحديد المنطقة العربية منذ تسعينيات القرن الماضي، ولكن ما يجري في اوكرانيا، وحيث لا جدال بأن الحسم والفوز سيكونان من نصيب روسيا في نهاية المطاف، وربما تنقلب المعالادت الميدانية بين يوم وآخر لمصلحة روسيا، وهذا هو المتوقع حتى من جانب أعداء روسيا، إنما يطرح سؤالاً ماذا بعد وتحديداً ماذا بعد الدخول إلى خاركوف وكييف؟ هل لدى الكرملين إجابات؟.

هذه الأسئلة مخيفة أكثر من الحرب ذاتها.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  روسيا: إقالة شويغو.. أبعد من أمنية بريغوجين