في “المنطق الظاهري”، من العبث الجدال حول أي طرف من طرفي الحرب يمكن أن ينتصر، إذ أن ركائز المنطق المذكور تُطيح كل إمكانية للمجادلة، ولكن “المنطق الخفي” الذي لا يدخل كثيراً في تقديرات المواقف والقراءات، يمكن أن يصوّب ما تجاهله أو تغافل عنه “المنطق الظاهري”، ومن هذه الزاوية يطل السؤال المتمحور حول ما إذا كان الرئيس فلاديمير بوتين قد أسقط من حساباته مجموعة من عناصر “المنطق الخفي” ومنها:
أولاً؛ الوطنية الأوكرانية: بعد أسبوع كامل من بدء العمليات الحربية الروسية في اوكرانيا، لم يظهر منشقون عن النظام القائم في كييف، وبرغم الحقائق المؤكدة على وجود أنصار ومريدين لروسيا في أوكرانيا، إلا أن انشقاقاً وطنياً وأهلياً لم يحدث، وهذا التعويل الذي كان في مفكرة الرئيس الروسي لم تظهر ملامحه حتى اللحظة، وفي حال استمرت الأمور على ما هي عليه، فلا شك أن حساباً من حسابات بوتين يكون قد سقط.
ثانياً؛ الأرثوذكسية المتمردة: في عام 2018، انشقت الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية عن تبعيتها لموسكو، وغدت مذذاك كنيسة مستقلة، وبحسب التقديرات أن اتباع هذه الكنيسة يقتربون من الثلاثين في المائة من مجموع الأرثوذكس الأوكرانيين، فيما اثنا عشرة في المائة استمروا على ولائهم للكنيسة الروسية، ومع ذلك، فإن الأرثوذكس الأوكرانيين الموالين لكنيسة موسكو، لم يخرج منهم صوت كنسي أو سياسي يدعم العمليات العسكرية الروسية، على الأقل حتى الآن، وربما هذا الجانب يدخل في جوانب الحسابات الخاطئة للرئيس بوتين.
ثالثاً؛ عدم انهيار الجيش الأوكراني: بالنظر إلى القوة الهائلة للجيش الروسي، كان من المتوقع ان تشكل لحظة المباغتة والمفاجأة العسكرية في الرابع والعشرين من شباط/ فبراير الفائت، أي تاريخ بداية الحرب في أوكرانيا، صدمة مهولة وضربة شبه قاسمة للجيش الأوكراني فتدفعه للتفكك، فالحرب مع روسيا ليست حرباً كباقي الحروب، هي أشبه بجهنم، لكن التفكك لم يضرب هيكلية جيش أوكرانيا ولم يأخذه جحيم الحرب إلى الإنهيار بعد اسبوع كامل من بداية العمليات العسكرية الروسية، وعلى الأرجح أن بوتين أسقط من حساباته عدم انهيار “جيش العدو” وتفككه.
لا يوجد عاقل لا يأخذ بالإعتبار الهواجس الأمنية الروسية من توسع حلف “الناتو” نحو الشرق، ولا يوجد ذو عقل يبرر الإستخفاف الأميركي بالتعاطي مع دولة كبرى مثل روسيا لها إرثها العميق وحضورها القوي، إنما النظر إلى حصيلة أولى للعناوين الإستراتيجية التي أنتجتها هذه الحرب، تفضي إلى مشهدين، واحد يُظهر استنجاد أوروبا بأميركا، وآخر يُبرز عودة أميركية قوية إلى أوروبا
رابعاً؛ حرب التضليل: حتى الثالث والعشرين من شباط/ فبراير المنصرم، أي قبل يوم واحد، وربما ساعات قليلة من انطلاق الآلة العسكرية الروسية نحو أوكرانيا، كانت مختلف المواقف الروسية الرسمية، من الرئيس فلاديمير بوتين حتى وزير خارجيته سيرغي لافروف، وما بينهما، ومعها وسائل الإعلام الموسكوفية، تدين “الدعايات الغربية المريضة” التي تحرض على روسيا وتتهمها بالتحضير للحرب، فيما روسيا لا تسعى إليها، وهذه المواقف الروسية بقدر ما كانت تمارس “حرب التضليل”، وهي حرب مشروعة بين الأعداء، فإن وجهها الآخر قد يكون انعكس على الداخل الروسي وانعدام تهيئته للحرب، ولا مناص هنا من السؤال عما إذا كان الجنود الروس قد وقعوا فريسة “التضليل” الموجه إلى الخارج ثم وجدوا أنفسهم على حين غرة في خضم ساحات الوغى.
وقد يكون تفسير بطء العمليات العسكرية وقلة الإنجازات النوعية بعد اسبوع من الحرب، يقف وراء ما سبق قوله، وأما التفسير الذي قدمه الرئيس السابق لمديرية المعاهدات الدولية بوزارة الدفاع الروسية الفريق المتقاعد يفغيني بوجينسكي لصحيفة “موسكوفسكي كومسوموليتس” بتاريخ الثامن والعشرين من شباط/ فبراير الماضي وقوله “الصعوبة الرئيسية التي يواجهها الجيش الروسي هي الأوامر بتقليل الدمار والخسائر المدنية، لذلك وعلى حد علمي، فإن القوات لا تحتل المدن”، فلا يقنع سوى القانعين والقانتين مسبقاً، فالذاهب إلى الحرب كالذاهب إلى البحر، الأول لا يخشى الخراب والثاني لا يخشى البلل.
خامساً؛ امتحان الحرب اللا ـ تصادمية: منذ الإنسحاب الروسي (السوفياتي) من افغانستان في عام 1989، لم تدخل روسيا في “حرب تصادمية” وفعلية سوى في بلاد الشيشان، وتلك الحرب استمرت لسنوات، وإذ يقول رئيس الأركان الروسي السابق نيقولاي ماكاروف، إن “الحرب التصادمية” مع جورجيا عام 2008 والتي استغرقت أياماً خمسة فقط، أظهرت مراوحة الجيش الروسي على العقيدة القتالية القديمة، فإن الحرب “اللا ـ تصادمية” يمكن أن تنتج نصراً مؤزراً بالإستناد إلى المنظومات الجوية والجو ـ فضائية والصاروخية، وهذه العقيدة تم اعتمادها بنجاح في سوريا منذ منعطف الثلاثين من أيلول/ سبتمبر 2015، إذ لم يلجأ الروس إلى “الحرب التصادمية” وتركوها للجيش السوري وحلفائه، ولكنهم (الروس) استطاعوا تغيير الوقائع على الأرض سريعاً، وهذا التغيير ما زال غائباً ـ أو ضئيلاً ـ عن الميدان في أوكرانيا عقب اسبوع من الحرب التي تعتبرها روسيا مصيرية لكونها تدافع عن أبواب موسكو وتهدف إلى صياغة نظام دولي جديد وإلى إبعاد حلف شمالي الأطلسي عن المجال الحيوي الأكثر خطورة على الإتحاد الروسي.
صحيح أنه من المبكر الحُكم على الوقائع الميدانية ومآلاتها، ولكن حين تتعلق القراءة بروسيا وجيشها ومنظوماتها العسكرية وعقيدتها القتالية وأدائها، فالأمر يختلف كل الإختلاف، فالحديث عن روسيا أو الصين أو الولايات المتحدة الأميركية، ليس كالحديث عن دول أخرى بما فيها فرنسا أو بريطانيا أو دول دونهما.
سادساً؛ “الجهاد الأوكراني”: حين غزا الجيش السوفياتي الأحمر أفغانستان، كان ثمة عاملان مرتسمان لمواجهة الوجود الروسي وهما الإيديولوجيا الإسلامية والإستخبارات الأميركية مضافاً إليهما حلف “الناتو” ودول إقليمية، والواقع الأوكراني لا يبدو مختلفا عما كان عليه الواقع الأفغاني في أواخر السبعينيات المنصرمة، ففي أوكرانيا كنيسة تناوىء روسيا، وجماعات أهلية ليست قليلة الحجم (لعلها الكتلة الأكبر وتجهر بعدائها للروس.
وفي هذا الإختلاط بين الكنسي والسياسي يجري الحديث عن “مقاومة أوكرانية”، بصرف النظرعن تأثير هذه “المقاومة” في الميادين المشتعلة، غير أنها قابلة للتوسع والإستقطاب، وفي وقت يعلو فيه النداء لإستقدام مقاتلين من غير الأوكرانيين بهدف تكوين “الفيلق الأجنبي”، فالأمر يعني دخول من ـ وما ـ هبّ ودبّ للقتال في اوكرانيا، مما قد يعيد إحياء شريط المشهد الأفغاني بكامله، ومع افتراض واقعي مضمونه لا يخرج عن احتمال أن يلجأ “الناتو” إلى تجنيد الأجانب الراغبين في القتال، فيحاربون تحت إمرته ويتحولون إلى جيش له من غير الإعلان رسمياً عن ذلك، وحقيقة الأمر لا أحد يعرف إذا كان الرئيس بوتين قد أدخل هذا الإحتمال في حساباته.
هل سيشهد هذا الأسبوع إنجازات ميدانية روسية نوعية، وماذا لو انتهى الأسبوع الحالي كما انتهى سابقه وبصرف النظر عما جرى في مدينة خيرسون؟
سابعاً؛ بين روسيا وأوروبا: شهدت العلاقات الروسية ـ الأوروبية تطوراً إيجابياً تصاعدياً منذ العقد الماضي، وقادت فرنسا وساطة ناجحة بين روسيا وجورجيا عام 2008 أدت إلى انسحاب الثانية من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وأسهم الفرنسيون والألمان في إنتاج “اتفاقية مينسك 2” عام 2015، القاضية بإطفاء صواعق المواجهة بين أوكرانيا وشرقها (حوض الدونباس) وضغطت الولايات المتحدة على ألمانيا طوال السنوات الفائتة لمنعها من بناء خط الغاز الشمالي “نورد ستريم 2” والذي يمدها بحوالي خمسين في المائة من احتياجاتها بحسب دراسة منشورة على موقع التلفزيون الألماني (23 ـ 2 ـ 2022)، وإذ خرجت المستشارة الألمانية السابقة انجيلا ميركل عن صمتها (25 ـ2ـ2002) وأعلنت دعمها لخليفتها أولاف شولز ودعت إلى “وضع حد للرئيس بوتين في أسرع وقت ممكن”، فالتحول الألماني نحو انتهاج سياسة عسكرية خصصت فيها برلين 100 مليار يورو لموازنتها الدفاعية هذا العام، وفي العام التالي، هو الأمر الذي يمكن ان يكون قد سقط أيضاً من حسابات الرئيس بوتين، وبعدما كانت باريس وبرلين تقفان في منطقة رمادية مع الولايات المتحدة، عادتا على أعقابهما نحوها خشية “التهديد الروسي”.
ثامناً؛ تجديد حلف “الناتو”: منذ انهيار الإتحاد السوفياتي في أوائل التسعينيات من القرن العشرين، خرجت إلى حيز الضوء كتابات أكاديمية ومواقف سياسية أوروبية تناقش في دوافع استمرار حلف شمالي الأطلسي وتصدّت لهذه المهمة شهرية “لوموند ديبلوماتيك” على مدى أعوام.
وطال هذه النقاش ألمانيا، حيث دعا المفكرالسياسي الألماني الشهير كريستيان هاكه، بلاده، في مقالة كتبها لصحيفة “فيلت أَم زونتاغ” في التاسع والعشرين من تموز/ يوليو 2018 “لأن تفكر للمرة الأولى منذ عام 1949 بأنها من دون درع حماية نووية من جانب الولايات المتحدة الأميركية”، وأهمية هذه المقالة أن كاتبها كان من اساتذة جامعة هلموت شميت، المعروفة أيضا بإسم جامعة الجيش الألماني مثلما أوضحت قناة “دويتشه فيله” الألمانية في حينه، ووقعت ألمانيا وفرنسا في كانون الثاني/ يناير 2019 معاهدة ثنائية في مجال الدفاع بغية الإسهام في تكوين جيش أوروبي موحد، على ما قالت انجيلا ميركل في يوم التوقيع، وفي تشرين الأول/ اكتوبر 2019، قال الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إن حلف شمالي الأطلسي “ميت دماغياً”.
بطبيعة الحال لا تعني النقاشات والمواقف الآنفة، أن حلف “الناتو” كان في طريقه نحو التفكك، أو أن “الجيش الأوروبي الموحد” كان قاب قوسين أو أدنى من الظهور. لا، لكن كل ما في الأمر أن المخاوف من روسيا لم تكن في صدارة القائمة، بينما ارتباك العلاقة مع الولايات المتحدة كان حضوره أقوى، وذاك ما بدا جلياً في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ولم يستطع سلفه الحالي جو بايدن إصلاح ذات البين بين ضفتي الأطلسي، خصوصاً بعد إبرام شراكة أمنية بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأوستراليا في العام الماضي، تلك الشراكة التي عُرفت بمحور “أوكوس”، وحيالها ثارت ثائرة فرنسا، وفي المقارنة بين صورتين، ما قبل الشروع في الحرب الأوكرانية وما بعدها، وبروز الـ”فوبيا” الأوروبية من روسيا، والإندفاع الهستيري نحو تفعيل “الناتو” وطلب الحماية من الولايات المتحدة، من حق المراقب أن يسأل: هل سقط هذا المشهد من حسابات الرئيس فلاديمير بوتين؟
قبل الختام:
لا يوجد عاقل لا يأخذ بالإعتبار الهواجس الأمنية الروسية من توسع حلف “الناتو” نحو الشرق، وبالتحديد أوكرانيا وبيلاروسيا، ولا يوجد ذو عقل يبرر الإستخفاف الأميركي بالتعاطي مع دولة كبرى مثل روسيا لها إرثها العميق وحضورها القوي، إنما النظر إلى حصيلة أولى للعناوين الإستراتيجية التي أنتجتها هذه الحرب، تفضي إلى مشهدين، واحد يُظهر استنجاد أوروبا بأميركا، وآخر يُبرز عودة أميركية قوية إلى أوروبا.
في الختام سؤالان:
أولهما؛ لماذا الإستعانة بجنود من بلاد الشيشان؟
ثانيهما؛ هل سيشهد هذا الأسبوع إنجازات ميدانية روسية نوعية، وماذا لو انتهى الأسبوع الحالي كما انتهى سابقه وبصرف النظر عما جرى في مدينة خيرسون؟
سؤالان ينتظران الإجابة من الميدان.