الحرب على أوكرانيا.. الوساطات والعنصرية والمعايير المزدوجة

تكاثرت عروض الوساطة منذ بدء الاجتياح الروسى لأوكرانيا؛ وبالرغم من أن روسيا لم تستدع قوات النخبة والأسلحة فائقة التطور فى هذه العملية، فإن ضخامة الاجتياح واتساع رقعته، والعقوبات غير المسبوقة التى تلته، والهزات العنيفة التى أصابت الاقتصاد العالمى من جراء ذلك، أثارت الذعر لدى جميع دول العالم، وسارع العديد منها إلى عرض وساطته لتسوية النزاع. وسأتوقف عند ثلاث من الوساطات المطروحة وهى وساطة الصين وتركيا وإسرائيل.

لقد اطلعت على تقرير صدر منذ سنوات للأمين العام للأمم المتحدة مرفوعا إلى مجلس الأمن يتحدث فيه عن شروط الوساطة الناجحة، وذكر فيه أن من أهمها أن يتم التدخل فى وقت مبكر قبل أن تتسع رقعة النزاع وتدخل فيه أطراف جديدة، وهو مفهوم مخالف لمفهوم كيسنجر الذى يقدم على أساس الانتظار حتى «ينضج» الموقف ويصبح استمراره مؤلما للطرفين مما يجعلهما حريصين على إنجاح الوساطة، وهو مبدأ يتسم بالقسوة ولا يلقى بالا للجوانب الإنسانية، وإن كان كيسنجر قد أبدى تجاه الأزمة الأوكرانية موقفا عقلانيا ينبنى على الواقعية وعلى أهمية أخذ المشاغل الأمنية الروسية فى الحسبان، كما عاب على الغرب نكوصه عن الدعوة التى أعطاها لروسيا على إثر انهيار الاتحاد السوفييتى وحل حلف وارسو بألا يتمدد حلف الأطلسى تجاه الشرق، أى تجاه الحدود الروسية.. وكتب فى عام 2014 مقالا يدعو فيه إلى وجوب جعل أوكرانيا دولة محايدة لا إلى الغرب ولا إلى الشرق.

***

بالنسبة للوساطات المطروحة فإن الصين مرحب بها من الطرفين نظرا لثقلها الدولى ولأنها اتخذت موقفا شبه محايد، فبالرغم من تحالفها الاستراتيجى مع روسيا إلا أنها امتنعت عن التصديق فى كل من مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة على القرارات المتضمنة إدانة الغزو الروسى، ولم تصوت ضدها، كما وجهت اللوم للغرب وللولايات المتحدة واتهمتهما بأنهما السبب فى نشوب النزاع الذى كان من الممكن تجنبه، كما أبدت تفهمها لمخاوف روسيا الأمنية.. كل ذلك يعد فى صالح روسيا ولكنها فى نفس الوقت كررت المبادئ الخمسة التى تقوم على أساسها السياسة الخارجية للصين وعلى رأسها؛ احترام السيادة ووحدة أراضى الدول وعدم العدوان أو التدخل فى الشئون الداخلية والتعايش السلمى، وهى مبادئ تصب فى صالح الموقف الأوكرانى، وفضلا عن ذلك فإن الصين بثقلها الاقتصادى والسياسى والعالمى قد أصبحت أكثر أهمية لروسيا عن أى وقت مضى وأصبحت من أهم الدول التى ستستمع إليها روسيا باهتمام.
وبالنسبة للدور التركى فهو دور أقرب إلى المُسَهِّل facilitator منه إلى الوسيط، فقد نجحت فى جمع الطرفين الروسى والأوكرانى على مستوى وزراء الخارجية لعقد اجتماع على أراضيها على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسى، بحضور وزير خارجية تركيا، وإن كان الاجتماع لم يدم أكثر من 30 دقيقة وأوضحت فيه روسيا أن قناة الاتصال الرئيسية ستظل هى الاجتماعات التى تجرى فى بيلاروسيا ويذكر أن تركيا أغلقت مضايقها أمام جميع السفن الحربية المتجهة إلى البحر الأسود وأعلنت أن ذلك التزام تفرضه عليها بنود اتفاقية مونترو.. وقد قبلت روسيا ذلك لأن البحر الأسود يعج بالسفن الحربية الروسية وليست فى حاجة إلى إمدادات لمدة عدة شهور قادمة، أما أوكرانيا فقد رحبت بالقرار التركى وشكرت تركيا على سرعة اتخاذه.. وهكذا نرى أن تركيا ــ بالرغم من عضويتها بحلف الأطلنطى ــ استطاعت الحفاظ على توازن جيد فى علاقاتها مع طرفى النزاع.

إذا عدنا بالذاكرة إلى عام 1979 عندما اجتاحت موسكو أفغانستان، وهى دولة تماثل أوكرانيا فى المساحة والسكان، هل انتفض العالم الغربى مثل هذه الانتفاضة التى نراها اليوم. هل حرك العالم ساكنا وهو يرى على الشاشات الأبراج السكنية فى غزة تدك بالصواريخ الإسرائيلية؟ هل فرض أى نوع من العقوبات الدولية على إسرائيل؟

ويبقى التساؤل بالنسبة للوساطة الإسرائيلية، فإن إسرائيل لا هى دولة كبرى كالصين ولا هى دولة جوار كتركيا التى تقع على البحر الأسود وتسيطر على المضايق المؤدية إليه، فضلا عن أنها ــ أى إسرائيل ــ دولة محسوبة على المعسكر الغربى بامتياز بل وتتمتع بوضع يفوق الكثير من أعضاء حلف الأطلنطى بالرغم من عدم انتمائها إليه، ومع ذلك فقد بادرت بعرض وساطتها وقام رئيس وزرائها بإجراء اتصالات عالية المستوى مع الطرفين.. ولم يبد الطرفان اعتراضا على هذه الوساطة وإن كان الترحيب الأوكرانى أكثر حماسة؛ فقد ناشدتها أوكرانيا أن تقوم بهذا الدور بل عرضت أن تجرى المفاوضات مع الجانب الروسى فى إسرائيل قبل أن تصر موسكو على إجرائها فى بيلاروسيا.. كما أوعزت ألمانيا أيضا إلى إسرائيل بالقيام بهذا الدور.
وقد احتفظت إسرائيل بدور شبه محايد فى الأزمة؛ فقد جاءت تعليقات رئيس وزرائها حذرة للغاية حتى أنه لم يشر إلى اسم روسيا فى بيانه الذى اقتصر على تناول الجانب الإنسانى.. ولكن إسرائيل لم تنفرد بهذا الموقف بين دول العالم، فقد اتخذت الهند وتركيا والإمارات وأذربيجان نفس الموقف المحايد وأبدت هذه الدول الرغبة فى التعاون لحل الأزمة إلا أن إسرائيل تمتاز عن هذه الدول بانتمائها للمعسكر الغربى وتمتعها بثقته المطلقة وفى الوقت نفسه تحظى بوضع خاص لدى روسيا.. ولكن إسرائيل تقلق أن تؤدى خطوة خاطئة إلى إغضاب الجانب الروسى مما قد يؤثر على الوضع الخاص الذى مكنها ــ لسنوات ــ من القيام بعمليات عسكرية ضد الحليف الروسى ــ وهو سوريا ــ بالتنسيق الكامل مع روسيا.
لذلك فحكومة إسرائيل قبلت الإلحاح الأوكرانى والنداء الألمانى بالرغم من خشيتها من عواقبه وذلك تحت الضغط الشعبى لديها؛ حيث يبلغ مجموع السكان الروس والأوكران فى إسرائيل قرابة ربع السكان فضلا عن أن أوكرانيا هى الدولة الوحيدة ــ بجانب إسرائيل ــ التى يتولى رئاسة جمهوريتها ورئاسة حكومتها يهوديان.

إقرأ على موقع 180  مشاهدات من إسطنبول.. أسئلة ما بعد الإنتخابات وإردوغان!

***

أما العنصرية والمعايير المزدوجة فقد ظهرت كأوضح ما يكون دون أى طلاء أو مساحيق تجميل.. فقد عج الفضاء السيبرانى بتعليقات من جميع أنحاء العالم الغربى تصف ما حدث فى أوكرانيا واللاجئين المتدفقين إلى دول جوارها بتعليقات من نوع «أن هذه أوروبا وليست دولا فى الشرق الأوسط أو شمال إفريقيا ــ هؤلاء بيض البشرة وشقر وذوى عيون ملونة ويلبسون ملابس راقية ويشبهون جيراننا فى المسكن.. كيف يحدث لهم ذلك».

أرجو أن تؤدى الحقائق التى تبينها الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكي وكبار معاونيه إلى مراجعة موقفهم والاعتراف بخطأ حساباتهم، وقد بدت ظواهر لذلك عندما أعلن زيلينسكى أنه لن يصر على الانضمام لحلف الأطلنطى بعدما تبين له أنه لن يوفر لبلاده أى حماية

لقد وصل الجيش البولندى إلى الحدود مع أوكرانيا ليكون فى استقبال حشود اللاجئين وهو مزود ــ ليس بخراطيم المياه والأسلاك الشائكة ــ كما فعل مع اللاجئين السوريين والعراقيين الفارين من نيران الحرب فى بلدانهم، ولكن بالمأكل والمشرب والملبس والدواء والإيواء وحتى لعب الأطفال. بل إن السلطات البولندية تعاملت مع الفارين من الحرب فى أوكرانيا بمعيارين ــ معيار للبيض ومعيار للآسيويين والإفريقيين والعرب حتى لو كانوا من حملة الجنسية الأوكرانية ــ وبلغ الأمر حد الاعتداء بالضرب لمنعهم من اجتياز الحدود.
وهذه ليست تصرفات فردية بل سياسات حكومية، فإذا عدنا بالذاكرة إلى عام 1979 عندما اجتاحت موسكو ــ إبان الحقبة السوفييتية ــ جمهورية أفغانستان، وهى دولة تماثل أوكرانيا فى المساحة والسكان، هل انتفض العالم الغربى مثل هذه الانتفاضة التى نراها اليوم. هل حرك العالم ساكنا وهو يرى على الشاشات الأبراج السكنية فى غزة تدك بالصواريخ الإسرائيلية؟ هل فرض أى نوع من العقوبات الدولية على إسرائيل؟.. لقد كان عمران خان رئيس وزراء باكستان منطقيا فى رده على مطالب الغرب له فى رسالة موجهة من الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى بالتصويت لصالح القرار الذى يدين العدوان الروسى. فقد قال لهم هل فعلتم نفس الشىء عندما قامت الهند بضم كشمير إليها فى مخالفة صريحة لجميع قرارات الأمم المتحدة التى تدعو لإجراء استفتاء تقرير المصير فى الإقليم، هل وجهتم مثل هذا الخطاب إلى الهند؟

***

لقد خصصت الولايات المتحدة 14 مليار دولار لمساعدة اللاجئين الأوكرانيين بعد أقل من أسبوعين من بدء القتال، بينما بلغ الاعتماد الذى خصصته للاجئين الأفغان عند انسحابها 64 مليون دولار..

***

أعتقد أن الرئيس الأوكرانى ذا الخبرة القليلة فى الشئون الدولية بدأ يتبين أن ردود فعل الغرب لن تتجاوز الضغوط الاقتصادية على روسيا والمساعدات الإنسانية لأوكرانيا، فقد كان الغرب حريصا جدا على ألا يتجاوز أى خطوط حمراء مع روسيا فرفض حلف الأطلنطى بالإجماع وبسرعة طلبات الرئيس الأوكرانى «الساذجة» بفرض حظر طيران على أجواء بلاده أو حتى على جزء من هذه الأجواء لأن ذلك يهدد بالاشتباك مع روسيا التى تسيطر على هذه الأجواء، بل وصل الأمر إلى رفض أمريكا العرض البولندى بنقل طائراتها الروسية الصنع إلى أوكرانيا خوفا من أن تعتبره روسيا عملا عدوانيا باعتبار أن الطائرات سلاح هجومى واكتفى الغرب بمد أوكرانيا ببعض الصواريخ ذات الطابع الدفاعى.

***

أرجو أن تؤدى هذه الحقائق التى تبينها الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكي وكبار معاونيه إلى مراجعة موقفهم والاعتراف بخطأ حساباتهم، وقد بدت ظواهر لذلك عندما أعلن زيلينسكى أنه لن يصر على الانضمام لحلف الأطلنطى بعدما تبين له أنه لن يوفر لبلاده أى حماية.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
سيد قاسم المصري

مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  السودان يشقُ طريقه إلى أميركا.. بعصا التطبيع