وحيد سيف.. ضاحك في مضيق “المؤسسة”

لدى ماكينة الإنتاج الدرامي في بلادنا قدرة مهولة على إهدار المواهب بنتاج فني تجلط الحبر في سني أقلام كُتابه، فحُشر في تصنيفات محدودة وخطوط درامية تتكرر أكثر مما تتنوع وقد تنمّط أداء الممثلين على قمم أدوارها. أمامهم اهتزت الكاميرات في أيادي حامليها، يهرول وراءها مخرجٌ يحاول اعتصار شيء استثنائي من جوف ثمرة استنزف عصيرها.

قيودٌ فرضت على مبدعين مصقولي المواهب، من كيانات يمكن جمعها في كلمة لم يجد لها “درعمي” حتى الآن لفظة عربية مقابلة تحمل معناها، ألا وهي The Establishment. دعونا نطلق عليها لفظة “المؤسسة”. سواء أكانت مؤسسة مجتمعية بنيناها نحن بأيدينا، استجابة لأوامر مؤسسة سيادية، أم فتاوى مؤسسة دينية، فوقعت مؤسسة الفن في مضيق عدم إغضاب هاتين المؤسستين.

أنتجت هذه الأجواء مجالاً فنياً خفيف الوزن، أدى لانخفاض المستوى الإبداعي والفني في الإنتاجات الدرامية المصرية من نهاية سبعينيات القرن العشرين. هذا برغم وفرة المواهب التي كان بإمكانها أن تنتقل بالوعي العام إلى آفاق أوسع وإبداع أرحب. مواهب صعدت سلم النجاح من أوله في سِيَرٍ غنية وملهِمة لا نعلم عنها إلا أقل القليل. ربما لو قدرناها في وقتها لما تغير الحال من الفسحة إلى الضيق، وإن نحن تلمسنا قبسات عنها الآن، لربما نلهم أحداً باستعادة الفسحة.

وهنا، فلنتذكر أحد العباقرة الذين أنتجتهم فسحة زمن ولّى، عبر مقتطفات قليلة ذات دلالات مما لا نعلمه عن هذا الفنان الراحل. هو أحد أعضاء العائلة الفنية المصرية الذين رحلوا عن عالمنا غير الدرامي عام 2013. بعدما أطلت موهبته علينا من فوق خشبات مسارحنا وعبر شاشات تلفزيوناتنا وسينمانا لعشرات السنين، فلم نقدره كما استحق في حياته. أحببناه بشدة، ولم يفشل مرة في انتزاع الضحكة من قلوبنا، لكن عقولنا لم تفهم حجم موهبته. إنه الفنان المصري الراحل وحيد سيف. نموذج لموهبة تمثيلية ضخمة خنقتها “المؤسسة”، ربما دون أن يدري أو يدري أغلبنا.

فنان كوميدي مصري من مدينة الإسكندرية. تعلم في مدارسها حينما كان التلاميذ يحضرون حصص الأشغال ويمارسون الأنشطة التي تبني في الطفل مهارات عملية، وتساعده على اكتشاف ذاته واكتساب الثقة بنفسه. لكن بعد عقود، زار وحيد سيف مدرسة العباسية الثانوية في كبره، ليستعيد ذكريات دراسته بها في صغره، فوجد أن السور ذاته يحيط المدرسة، بينما “حوش” المدرسة قد اختفى، وتحول إلى مضيقٍ بين مباني الفصول الإضافية، يسهل أن نفهم الأسى الذي يحسه شخص عاش طفولته وتعلّم في أحضان مؤسسة “تعليم” كانت فسيحة قبل أن تستضيق تدريجياً، حتى خنقت كل المساحات المادية والمعنوية التي تتيح لأي موهبة فرصة أن تكتشف في بداياتها. ونؤشر هنا نحو علامة من علامات ضغوط “المؤسسة” المجتمعية التناسلية، واللبيبِ من المؤسسة يهربُ.

مؤسسة تعليمية بائدة، ساعدت الطفل وحيد على اكتشاف موهبته الرياضية في ألعاب القوى، حتى وصل به الأمر إلى أنه كان يُصطحب من قبل أحد المعارف الكبار، إلى مدينة القاهرة لكي يشترك في سباقات الجري يعود بعدها سريعاً للاسكندرية. تفوق رياضي وصل به إلى أن فاز ببطولة مصر لسباق 100 متر جري.

مؤسسة تعليمية أنتجت معلماً لاحظ موهبة وحيد سيف أثناء أداءه لفقرات تمثيلية مع زملائه، فاقترح عليه أن يشترك مع فريق التمثيل بمدرسته الثانوية، ليقف لأول مرة على خشبة “مسرح الليسيه” بالإسكندرية في أول عمل مسرحي له. كان استقبال الجمهور للشاب الهاوي رائعاً، فاستهوته “مؤسسة” الفن واختطفته من مؤسسة الرياضة، التي لو استمر بها لفترة أطول، لربما كان قد شعر باستضاقتها التدريجية أيضاً.

لكن الحظ وضعه أثناء دراسته بكلية الآداب بجامعة الاسكندرية بين يدي المخرج العملاق نور الدمرداش، الذي كان يقوم برغم شهرته الواسعة بإخراج الأعمال المسرحية لفرق الكليات، وفريق الجامعة التمثيلي، في التقاء ذي دلالة بين المؤسستين الأكاديمية والفنية، وهو إلتقاء أخرج لنا في عصر سابق أجيالاً من عباقرة الفن بمواهب صُقلت منذ انطلاقتها.. وكان وحيد سيف أحد هذه المواهب.

وما فعله نور الدمرداش، قام به عباقرة آخرون، كانوا يتجهون للتربة الجامعية الخصبة الغنية، ليكتشفوا المواهب ويكونوا الفرق المسرحية، من أمثال العمالقة محمود مرسي، عبد المنعم مدبولي وحمدي غيث. مما أدى لتشكل “فرقة الاسكندرية المسرحية” التي كانت بمثابة النظير السكندري للمسرح القومي بالقاهرة، فأين هذا المسرح الآن أو نظيره السكندري؟ أين ذهبت مؤسسة المسرح، وكيف خنقت نفسها حتى تلاشت ولم يبق منها سوى “تياترو مصر”؟

ربما يدري قليلون أن وحيد سيف أثناء دراسته الجامعية، قام بتكوين ثنائي فني مع سمير غانم أسموه “إخوان غانم”، قبل أن ينضم إليهم ممثل آخر يدعى عادل نصيف. وكانت هذه هي نواة فرقة “ثلاثي أضواء المسرح” الشهيرة. ولكن مع استقرار وحيد سيف في مدينة الإسكندرية، ظهر الفريق على خشبات مسارح القاهرة بدون وحيد سيف الذي استبدل بالعبقري جورج سيدهم. وبعد أن هاجر عادل نصيف خارج مصر، انضم الراحل الضيف أحمد إلى الفرقة ليتكون الثلاثي الذي عرفناه جميعاً. ربما كان للمؤسسة الاجتماعية دورها في منع وحيد من التألق الأبكر ضمن أشهر وأنجح ثلاثي في تاريخ الكوميديا العربية.

وبرغم الإحباط الذي أصاب وحيد سيف حين أخذته خطواته نحو القاهرة، برفض الفنانة ماري منيب بطلة “فرقة الريحاني” قبوله في دور حسن بطل المسرحية الكلاسيكية الشهيرة “حسن ومرقص وكوهين”، إلا أن موهبته غير القابلة للإنكار، ذهبت به إلى دور مسرحي صغير اختاره عن طيب خاطر لخوفه من أداء دور أكبر بمسرحية “حضرة صاحب العمارة” التي ظهر في فصلها الثالث ليكرر كلمات بسيطة ومحدودة للغاية. ولكن لأن الموهبة حقيقية، فقد نجح الدور وأضحك، واجتذب مخرجين من “كشافة المواهب” الذين كانوا ينتمون لمؤسسة إبداعية من صنف اندثر بمرور الزمن.

إذا ما شاهدت أدوار وحيد سيف حتى الصغيرة والثانوية منها، ستدرك أنك أمام نموذج تمثيلي مبهر، أُهدِرَت موهبته بالفعل، ليس لضعف فيه، بل نتاج تحول المجال التعبيري الفكري في مصر إلى مضيق بدلاً من محيط.

إقرأ على موقع 180  العراق المتصالح مع الخارج.. إستقرار بلغة المصالح 

كان من اليسير على موهبة بهذه القدرة التعبيرية والتجربة المصقولة، أن تصنع مسيرة فنية أغنى وأكثر قرباً من أدوار البطولة، وأكثر تعبيراً عن واقع أحبه برغم صعوباته، انتمى إليه بكل حواسه رغم استضاقته المتدرجة، واندمج بين كواليس تجاربه الفنية بقلب محب للجميع.

استمر وحيد سيف في تصاعده من دور صغير، إلى أدوار تدرجت في مساحتها وعدد مشاهدها، ومن خشبات المسرح، إلى شاشات التلفزيون والسينما. واستمر نهجه على قبول الأدوار البعيدة عن صدارة البطولة، ولكن أدواره حفرت ببطء مكاناً لموهبته، حتى تحول إلى واحد من أكبر الأسماء في مؤسسة الفن الكوميدي في مصر.

ربما للاختناق المزدوج للمؤسستين المجتمعية والفنية معاً، حُكم على وحيد بعدم البطولة المطلقة، لأننا لم نخلق مساحات فسيحة برغم تاريخنا الفني الأعرق في المنطقة العربية، ولأن ثقافتنا التي خلقناها أنتجت نماذج نمطية محدودة من أبطال الأعمال الدرامية، فلبِس وحيد الباروكة ككثيرين غيره، لأن الصلع يمنع البطولة الفنية المطلقة على ما يبدو!. ارتجفت أقلامنا الإبداعية تحت ضغط “المؤسسة”، فلم تكتب ما يسمح لجميع أنماط الممثلين بالتألق الكامل، وإلا لكان وحيد سيف ربما الأنجح في تاريخ الكوميديا المصرية على الإطلاق، وبدون الحاجة إلى باروكة.

كوميديان قادر على الارتجال وإضافة الحركات والأصوات المضحكة. هذه النزعة الارتجالية والأداء المبالِغ في تعابيره الهزلية، هل نكون مخطئين لو اعتبرناه نزعة تعويضية عما كان يمكن لهذا الفنان الراحل ومعاصريه أن يقدموه لو لم تُحشَر مواهبهم في مضائق “المؤسسة”.

محظورات مجتمعية، سياسية ودينية متشعبة، أحاطت بحبالها مجال الإبداع الفني، فتعلّم كل من له عقل ورغبة في العيش بسلام، ألّا يخرق قواعد اللعبة بإغضاب “المؤسسة”. استطال أمد بقاء حرية التعبير تحت الماء، فمنعت الأنفاس عن رئتي الإبداع.

الكوميديا ليست خفة ظل فقط، ولا هي خفة في القيمة كما يتهمها من لا يفهمونها. الكوميديا كغيرها من جميع أصناف التعبير الفني، “ناقل” للأفكار. فهل سمحنا أو سمحت “المؤسسة” لمن هم في قدر وحيد سيف أن ينقل لنا ما كان يمكنه قوله لو سُمح له ولغيره ذلك، أم أننا استُخِفَ بنا فأطعنا؟ وبعد أن أطعنا، بحثنا عن أي شخص حولنا لنَستَخفَ به أو ندعوه لإبقاء الأمور “خفيفة”! لا أعلم إذا كان معنى ما أقول قد وصل لك عزيزي القارىء. أنا فقط أحاول قدر استطاعتي مقاومة مؤسسة الطاعة، التي أهدرت وتهدر معظم مواهبنا وأفكارنا، فقط لتبقى هي.

اشترك وحيد سيف في ما يزيد عن 340 عملاً فنياً، وإرتبط إسمه بعمالقة الفن المصري، وإن صغرت أدواره وقلّت مشاهده فيها. أفلام مثل “خلي بالك من زوزو”، “المتسول”، “السكرية”، “مضى قطار العمر”، “الحفيد”، “رجب فوق صفيح ساخن”، “شفيقة ومتولي”، “غريب في بيتي”، ومسلسلات بحجم “رحلة أبو العلا البشري” أو “المال والبنون”.

وحيد سيف نموذج لموهبة لم نستغلها أبداً، وقف تقريباً أمام كل من نعرفهم من أسماء لامعة في مجال التمثيل بمصر، فلم يخفت بريقهم تألقه ولا كان تألقه على حساب بريقهم. فنان بدأ حياته الفنية في خمسينيات القرن الماضي، ولا زال بيننا، بتحوله إلى Emoji يُعبر من خلاله رواد الواتس اب عن ردود فعل كوميدية أثناء دردشتهم.

وجه وحيد سيف الضاحك ما يزال حاضراً وسط وجوه كوميدية عملاقة مثل عادل إمام، سمير غانم، سعيد صالح ويونس شلبي، بتحول لقطات من بعض أدواره إلى memes أو reactions تضاف في تعليقات أسفل منشورات على وسائل تواصل اجتماعي، ربما لم يستخدمها هو قط، لكنه ما زال يطل علينا عبر “بوستات” لشباب ولدوا في الألفية الثانية، وما زالوا يفتشون في ماضٍ كانت فيه الضحكات والقفشات أكثر رحابةً رغم تضييق “المؤسسة” عليها في أزمنتها. فعلام يدل ذلك في رأيكم؟

كتابة بعض السطور لن توفي هذا الكوميديان العبقري حقه. كل ما يمكن عمله هو لفت النظر إلى موهبة وتاريخ فني بهذا الامتداد، وإلى كيفية إهدارنا بكل “مؤسساتنا”، عطاء أحب مبدعينا إلينا، ودعوة محبي الفن إلى البحث عن أعمال هذا الفنان المصري الكبير. شاهدوه ما بين ملك الترسو فريد شوقي والنجمة الاستعراضية المصرية شيريهان، وهو ينسج من خلال مسرحية مكتوبة ومصممة بعناية فنية لم تكن قد اندثرت بعد في وقتها، نسيجا من خيوط النص الكوميدي القوي، مع الارتجال المحبب بالإضافة إلى لمساته الكوميدية الخاصة، شخصية سمسار الحفلات “عجوة” في مسرحية “شارع محمد علي”.

وبعد أن تشاهده في هذا الدور، انتقل إلى مشهد لا كوميديا فيه من مسلسل المال والبنون، في شخصية الرقّاق “علي لوز”. ستدرك فور مشاهدتك لهاتين الشخصيتين فقط،، أي موهبة تمثيلية أهدرنا. وبعدها، حاول تخيل أي ممثل آخر كان يمكنه ملء هذين الدورين بمزيج من الكفاءة الكوميدية الاستثنائية والأداء الدرامي غير المفتعل. لن تجده، فقد رحل وحيد سيف، ولم ترحل المؤسسة التي ضيّقت على إبداعه.

ربما ارتضى هو “بذكاء” التأقلم معها كأسلوب حياة “تفادياً للمشاكل” ولا لوم عليه، فالعيب بنا، وكان هو فقط أحد الضحايا كمثل أغلب مبدعي جيله والأجيال الفنية من بعدهم.

لكن وحيد بقى محباً للحياة. ضحك فأضحكنا، والجميل في القصة، أن “المؤسسة” لم تنجح أبداً في سرقة ضحكته.

لنعطه القدر اليسير من حقه، ولو بالدعوات الطيبة.

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  مئوية كارم محمود.. عن الفن الذي إنقرض