حصار.. وهجوم إسلامي الأيديولوجيا على العروبة

دولنا العربية حازت الإستقلال منذ عقود طويلة. الجامعة العربية تأسست عام 1947. هي أول منظمة إقليمية في العالم. ما زلنا لم نصدق أننا مستقلون، ولم نقرر أن الإستقلال نحميه بالاتكال على النفس وليس بتحليلات ديبلوماسية، وتحليل القوى الدولية لدعم الإستنتاج المسبق أن المنطقة تديرها، بالأحرى تقرر مصيرها، القوى الدولية والإقليمية.

مع الإستقلال، إعتمدنا نظرية المؤامرة وألغينا أنفسنا وانتهجنا طريقاً وحيدة، اعتبرناها تنجينا من المؤامرات الخارجية، وهي الإستبداد. وضعنا أنفسنا في عهدة الإستبداد، ولم ندرك أن إلغاء الشعب، أي إلغاء مشاركة الشعب في السياسة، هي في الحقيقة إلغاء السياسة. أهم ما يفعله الإستبداد هو إلغاء السياسة. الشعب لا يعنيه شيئاً. هو الحاكم وبمثابة خالقه. على الشعب أن يكون ممتناً له. عندما يهب المجتمع للقيام بثورة، كما حصل في الوطن العربي، في كل أرجائه من المحيط الى الخليج، في عام 2011، جابههه الإستبداد بالحروب الأهلية، وهي بالضبط الثورة المضادة. الثورة المضادة ليست ثورة، هي مضاد الثورة. ممنوع على المجتمعات العربية أن يكون لها ثورة.

إتُهِمَ المجتمع بالإرهاب والتكفير. الإرهاب لاسترضاء الدول الكبرى. التكفير لإرضاء أقليات إفتعلت الخوف على مصيرها، فتحالفت ضد مجتمع إعتبرته تكفيرياً بكليته. صار الدفاع عن الإستبداد بإسم حماية الأقليات عملاً انسانياً تقدمياً. لا هم إذا تحوّل المجتمع الى نصف مهجّر ونصف آخر كأنه في مخيم نازحين. هذا جزاء الشعوب التي قامت بثورة 2011. يحاربها التقدميون والثوريون بدعم الإستبداد. ليس ذلك فقط بل دعم كل القوى الدولية العظمى والقوى الإقليمية المنتفخة بمركب العظمة. صارت المنطقة العربية ساحة حرب كونية ضد الشعوب العربية. لا يُقتلع الإرهاب والتكفير إلا بإقتلاع بيئته وهي أكثرية الشعب. صارت مجتمعاتنا مهجرة في أرضها وخارج أرضها. بلادنا مخيمات نازحين في أرضهم، بالإضافة الى الذين هاجروا في الخارج. لم تعد المسألة مسألة فلسطين وحسب، بل مسألة العرب جميعاً. هؤلاء ما عادوا أبناء الأرض. كأنها حرب إبادة ضدهم.

حروب المنطقة دينية. تعتمد الهوية الدينية أساساً. ملغاة فيها السياسة. لم ندرك، أو لم يدركوا، أن الحرب على التكفير والإرهاب يجب أن تكون أولاً وقبل كل شيء ضد الاستبداد. شعوب تثور وتريد حريتها، لكنها تُتّهم وتُستخدم التهم لإبادتها. لا أكثر ولا أقل. كان التهذيب يقضي أن لا نسمي الأشياء بأسمائها. نضطر ونحن نمر في أزمة جراء حرب الإبادة ضد المجتمعات العربية. ضد أكثريتها التي لا يحق لها أن تقول ما في أحشائها دون أن تُتهم بارتكاب جرائم ارتكبتها داعش وأخواتها؛ وهي لا تعبر عن الشعوب العربية بأكثريتها. هذا مع العلم أن لكل طائفة، ولكل دين، ولكل مذهب، “داعشه”. خصوم الأكثرية لهم “دواعشهم”. من لا يرى الإستبداد وتعمّد إفقار وتهميش الشعوب العربية، بما في ذلك مصادرة قضية فلسطين، أو تحويلها للسياحة الدينية، من يفعل ذلك يخدم “داعشيته”.

كأن الحصار الإسرائيلي – الأثيوبي على مصر لا يكفي. فجاء الحصار التركي – الإيراني. هذا معادٍ للإمبريالية الأميركية، وهذا عضو في “الناتو”

حروب المشرق تزحف الى المغرب العربي الكبير عبر مصر. مصر محاصرة. إسرائيل من الشرق، ولها كامب دايفيد. تهديد النيل من الجنوب الحبشي. وما يُسمى تهديد الأمن القومي في ليبيا. بعد قصف للقوات الدولية، الأوروبية والأميركية، يأتي رجب طيب أردوغان بشعارات عثمانية. لم يناقشه أحد في كيف يقفز من فوق الأتاتوركية الى العثمانية. ما هي علاقة دولته بالعثمانيين. عندما إنهارت الدولة العثمانية تفرقت ممتلكاتها الى دول رسم الاستعمار حدودها. الأتراك دافعوا ببسالة بقيادة أتاتورك عن الأناضول والبر الأوروبي. المناطق الأخرى، خاصة العربية منها، نالت إستقلالها، في معظم الأحيان بطرق وأساليب مشينة. اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور كانا ضد العرب وضد الأتراك. لكن الزمن مضى على هذين الاتفاقين والإتفاقات التي تلت الحرب العالمية الأولى. كان حظ المنطقة العربية هو “التجزئة”، حسب تعابير القوميين العرب لفترة طويلة. انهزمت القومية العربية التي كانت تهدف الى تحقيق الوحدة العربية. بات العرب في أقطارهم تجمعهم الجامعة العربية. كلها دول ضعيفة فاقدة الشرعية، لا ترضي شعوبها. بسبب الإستبداد أولاً، والإبتعاد عن المبدأ الجامع ثانياً. حتى الذين كانوا ناصريين صاروا يتكلمون بخطاب آخر. الهزيمة الكبرى كانت في فلسطين في عام 1948 أولاً، ثم في حروب 1956 التي كانت هزيمة عسكرية برغم النصر السياسي، ثم حرب 1967 التي كانت هزيمة بجميع أبعادها، ثم هزيمة 1973 التي اعتبرها البعض نصف انتصار. لا ندري معنى النصف هذا.

جاءت الثورة الخمينية لتصادر قضية فلسطين في محاولة لجعل القضية غير عربية. ثم جاء أردوغان لإحياء النزعة العثمانية. له علاقات مع إسرائيل ويدعي برنامجاً عثمانياً لوضع يده على أقطار عربية من فلسطين والعراق وسوريا الى ليبيا. كأن الحصار الإسرائيلي – الأثيوبي على مصر لا يكفي. فجاء الحصار التركي – الإيراني. هذا معادٍ للإمبريالية الأميركية، وهذا عضو في “الناتو”. واحد كاد يستأثر بمياه دجلة والآخر كاد يستأثر بمياه الفرات. نحن العرب ذوو الأراضي الوطيئة في هذه البيئة الجغرافية، وجميعهم يتحكمون بمصادر المياه، فكأنهم يريدون تحويل أحواض الأنهار الكبرى في بلادنا العربية الى صحارى.

ارتبط الوجود العربي منذ القدم بالصحاري والبوادي. لكن الحضارة العربية، خاصة بعد الأمويين، ارتبطت بالأنهار. دجلة والفرات في العراق، الفرات في سوريا، النيل في مصر. مع ازدياد السكان في العصر الحديث، بنى الأتراك والايرانيون والأثيوبيون العديد من السدود على أنهار النيل والفرات ودجلة. فهل للتضامن مع العرب والنضال من أجل فلسطين معنى دون مياه هذه الأنهار. يريدون قضية فلسطينية دون قضية عربية. فوق ذلك يلوحون بالأعلام الإسلامية والصهيونية (أثيوبيا) فوق مجاري الأنهار، وليذهب العرب الى الجحيم كما ذهب الفلسطينيون الى الجحيم.

مصر وسوريا والعراق صارت مستوردة للقمح والمواد الغذائية الأخرى الأساسية بعد أن كانت مصدرة للقمح عبر التاريخ

إمكانية الحرب بين مصر وتركيا أصبحت ممكنة، وان مستبعدة، ذلك أن كلا البلدين يمارس الحرب عن طريق أذرعه في ليبيا. تتزامن هذه الإمكانية مع الإمعان في تدمير الطبيعة في البلدان العربية. لا شك أن بناء السدود بكثرة على هذه الأنهار سوف يغيّر الطبيعة الى الأسوأ. يتزامن تدمير الإنسان على وجه الأرض وتدمير الأرض ذاتها بتغيير طبيعتها. حصار حول مصر. الدولة العربية الأم. الحصار متعدد الأبعاد: عسكري ومائي، وما يتعلق بالوجود العربي. وهو ذو أبعاد اقتصادية واجتماعية ونفسية. شعور العرب بأنهم محاصرون سيجعلهم أقل قبولاً بالسلام وأكثر قبولاً بالحرب. القول أن وجودهم مهددٌ ليس فيه مبالغة. على الأقل سوف يشعر العرب أن الحصار حالة من حالات الاعتداء، وسيراودهم بأنهم يتعرضون لحرب إبادة، خاصة عندما يرون المخالفات الصريحة للقوانين الدولية التي تنظّم تقاسم المياه بين البلدان التي تتجاور، وتجري فيها الأنهار من منابعها الى مصباتها في البحار. الانتهاكات التي يرتكبها الجيران ليست أقل فداحة من الانتهاكات على أرض فلسطين. مشاركة الاسرائيليين في بناء سد النهضة الأثيوبي أمر يبعث على الريبة والظنون. تضخيم القوات المصرية، بنشر معلومات عن كون الجيش المصري هو الثامن في العالم، يذكر بالأمر نفسه قبيل حرب 1967، وكذلك تضخيم قوة الجيش العراقي قبل وبعد حرب الخليج الأولى ضد ايران. يتمنى المرء أن يكون ذلك صحيحاً، وأن يكون الجيش المصري بهذه القوة، لكن الشك بالنوايا أمر مبرر. هناك تشجيع على الولوج في حروب لا تعرف نتائجها، أو هي أكيدة بالنسبة للقوى العظمى التي تدير هذا العالم. من ينتصر في حروب من هذا النوع يعتمد على مستورداته من السلاح ونوعيته الى جانب التدريبات على استخدامه. تركيا عضو في حلف الأطلسي. حتى لو كانت المعلومات عن قوة جيش مصر صحيحة، فإن أعضاء “الناتو” مجبرون على مساعدة تركيا.
الأهم من كل ذلك أن مصر وسوريا والعراق صارت مستوردة للقمح والمواد الغذائية الأخرى الأساسية بعد أن كانت مصدرة للقمح عبر التاريخ. صارت هذه البلدان تستورد القمح والمواد الغذائية الأخرى. الأمن الوجودي العربي مهدد بجميع وجوهه.

إقرأ على موقع 180  ما بعد حرب غزة.. إدارة التهدئة ممر لحروب جديدة!

لا يستطيع المرء إلا أن يتضامن مع كل بلد عربي يحاول الحفاظ على وجوده. يعلم الأتراك والإيرانيون أن الود لهما مفقود عند العرب، سوى عند أقلية أو أقليات. يعلم العرب أن هناك شعوباً في أسيا الوسطى، تتكلم اللغة الفارسية أو التركية ولو بصيغة مختلفة؛ وأن هناك، ربما، روابط إثنية من نوع ما، وأن المدى الحيوي في أواسط أسيا له ما يبرره. لكن كلا الدولتين (تركيا وإيران) لا تجرؤان على الإقدام في أسيا الوسطى، ربما لاعتبار أن هذه المنطقة مدى حيوياً لروسيا، وهي حليفتهما، ولو نسبياً، وتخيفهما بالمطلق. الضعف العربي هو ما يجعل هذه المنطقة مستباحة لهما. هذه الاستباحة عامل أساسي في الحروب الأهلية العربية. يبدو أنهما والدول العظمى دولياً، خاصة الولايات المتحدة وروسيا، متواطئون على الضعف العربي. أما إسرائيل فهي مستفيدة استفادة كبرى من هذا التواطؤ.

ما يفعله جيران البلدان العربية هو فرض حالة من الحصار على العرب. حالة من الحصار التي تهدد الوجود العربي

فلسطين، من البداية الى النهاية، قضية عربية. منذ قيام دولة اسرائيل وقبل ذلك النضال ضد إسرائيل عربي. الحروب التي خاضتها اسرائيل كانت ضد العرب لا ضد إيران وتركيا. على العكس من ذلك، كانت علاقات إيران وتركيا مع إسرائيل في مراحل مختلفة ايجابية، علاقة صداقة. حتى في الزمن الراهن، ليس ما يؤكد لدى العرب أن علاقتهما مع إسرائيل ليس لها جوانب أخرى في الايجابية من إسرائيل والسلبية تجاه العرب، وذلك برغم كل التفاصيل. تقصف اسرائيل في البلدان العربية دون رد من القوى الاقليمية (إيران وتركيا) ومن القوى الدولية (روسيا والولايات المتحدة) برغم وجود جيوش لكل من هؤلاء في المناطق التي تقصف. كأن كلا من هذه الدول تستدعي الهجومات الاسرائيلية، بعلم منها أو من دونه.

يطبق الحصار على العرب. لا يلام أحد على الضعف العربي إلا العرب أنفسهم. قضية فلسطين قضية عربية. ليست قضية فلسطين جوهر القضية العربية إلا بمقدار ما يجعل العرب قضيتهم الخروج من الشرذمة وبناء مجتمعات عربية متماسكة وقائمة على الإنتاج، لا على الاستهلاك وحده. قضي على الزراعة وقبلها على الصناعة. أصبحنا مجتمعات تستهلك ولا تنتج. الأمر الفاضح هو أن البلدان العربية في معظمها تعتمد إجمالاً أو جزئياً على إستيراد القمح وغيره من المواد الغذائية من أجل القدرة على الإستمرار دون مجاعة.

ما يفعله جيران البلدان العربية هو فرض حالة من الحصار على العرب. حالة من الحصار التي تهدد الوجود العربي. سيكون ذلك سبباً في ظهور مزيد من التطرف. فهل يخدم ذلك هؤلاء الجيران، أم أنهم مصرون على أن يبدو الأمر وكأن هناك هجوم إسلامي الأيديولوجيا على العروبة؟ هجوم يمعن في تشتيت العرب وإضعافهم وغرقهم في دياجير الهزيمة.. وهل في ذلك إلا رعونة تركية – إيرانية، برعاية الدول الكبرى عالمياً؟

Print Friendly, PDF & Email
الفضل شلق

مثقف وكاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الجولاني للإمساك بـ"معبر الحمران".. نفط ومال وخيارات!