كبّد التقدم العسكرى المصرى الناجح على جبهة سيناء، وخصوصا فى الأسابيع الأولى للحرب، إسرائيل خسائر فادحة فى المعدات العسكرية مما جعل تل أبيب فى حالة ذعر، فلم تجد سوى الولايات المتحدة لتنقذها من خسائر فادحة متوقعة في حال استمر الحال على ما هو عليه!
راسلت رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون طالبة ما يعادل ٩٠٠ مليون دولار من معدات عسكرية عاجلة لتعويض الخسائر على الجبهة المصرية، وهو ما استجاب له نيكسون فورا، وبضغط من اللوبى اليهودى الأمريكى ارتفعت المساعدات العسكرية الأمريكية فى النهاية إلى ما تجاوز قيمة الـ٢ مليار دولار بشكل فورى وعاجل إلى إسرائيل وهو ما وافق عليه الكونجرس الأمريكى على الفور!
فى ظل هذه الأحداث المتصاعدة، وفى ظل محاولات إسرائيل إعادة التوازن على الجبهة المصرية بمساعدة أمريكية فاجأ الملك السعودى فيصل العالم كله بقيادة منظمة الدول العربية المنتجة للبترول بإعلانه فرض حظر على الصادرات البترولية إلى عدة دول جاءت فى مقدمتها الولايات المتحدة، بالإضافة إلى هولندا والبرتغال وجنوب إفريقيا وكندا واليابان وبريطانيا، بالإضافة إلى تخفيض إنتاج البترول بنسب تراوحت بين ٢٥٪ إلى ٦٠٪ فى الفترة بين نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٧٣ وإبريل/نيسان ١٩٧٤ وهو ما أصاب الاقتصاد العالمى بالصدمة ليكون هذا بمثابة أول استخدام ناجح للبترول كسلاح للمناورة فى العلاقات الدولية.
لم تكن فى الواقع هذه هى المرة الأولى التى يستخدم فيها العرب سلاح البترول، فقد حاولوا مرتين من قبل، المرة الأولى حينما حاول الملك سعود استخدام سلاح البترول ضد الدول الغربية بعد العدوان الثلاثى على مصر فى ١٩٥٦، والثانية حينما حاولت بعض الدول العربية إيقاف خطوط إمداد البترول بين شبه الجزيرة العربية ودول أوروبا الغربية رداً على حرب ١٩٦٧، ولكن فى كلتا المرتين لم يكن للسلاح أى تأثير كبير يذكر!
وبرغم أن الملك فيصل فى بداية حرب أكتوبر ١٩٧٣ لم يتحمس لاستخدام البترول كسلاح للضغط على الدول الغربية إدراكا منه أن هناك دولا أخرى غير عربية قد تتمكن من تعويض الإنتاج العربى، ولكنه فى النهاية قرر استخدام السلاح بشكل رمزى حينما اتخذ قرارا بتخفيض إنتاج البترول السعودى إلى العالم بنسبة ٥٪ فقط فى محاولة منه للضغط على الولايات المتحدة لتتخذ مواقف أقل انحيازا ضد الدول العربية، ولكن حينما لم تعر أمريكا اهتماما كبيرا للخطوة السعودية اعتقادا منها بأن الأخيرة لن تقدم على ما هو أكثر من هذا ــ كان هذا هو تقرير مستشار الأمن ووزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر ــ إلا أن هذا الاستهتار الأمريكى بالموقف السعودى دفع الملك فيصل لفرض الحظر التام على تصدير البترول للولايات المتحدة والدول سالفة الذكر، وربط رفع هذا الحظر بانسحاب إسرائيل إلى حدود ما قبل يونيو/حزيران ١٩٦٧ ومعه أدرك الساسة الأمريكيون خطأ الاستهتار بالموقف السعودى!
حتى اللحظة ما زال البترول واحدا من أهم الأسلحة التى يمكن استخدامها للمناورة فى العلاقات الدولية ومن المتوقع أن يظل الأمر كذلك لبضعة عقود قادمة
***
حاول كيسنجر تدارك الموقف ببرجماتية معهودة، فسافر إلى القاهرة فى ٦ نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٧٣ والتقى أنور السادات فى محاولة منه لإقناع الرئيس المصرى بأن الولايات المتحدة ستتخذ خطوات أكثر صرامة للضغط على إسرائيل للانسحاب من سيناء، وبعدها بـ٢٤ ساعة سافر كيسنجر للقاء الملك فيصل بالرياض لإقناعه برفع الحظر البترولى مقابل تعهد الولايات المتحدة بسياسة أكثر مرونة وأقل انحيازا لإسرائيل، ولكن الملك السعودى اشترط الحصول على ضمانات أولا وهو ما فشل كيسنجر فى تقديمه للملك السعودى فى التو ليتواصل الموقف السعودى فى حظر تصدير البترول إلى الولايات المتحدة حتى إبريل/نيسان من عام ١٩٧٤ حينما خاطب الرئيس السادات الملك السعودى لتأكيد أن الولايات المتحدة بالفعل بدأت تضغط على إسرائيل وتتخذ مواقف أكثر نزاهة بخصوص الصراع مع مصر، مما دفع الملك فيصل إلى إنهاء فرض الحظر أخيراً!
وبرغم أن حظر تصدير البترول إلى الولايات المتحدة وغيرها من الدول لم يدم لأكثر من ستة أشهر، إلا أن هذه المدة كانت كافية لإحداث هزات فى أسواق الإنتاج والتصدير والتجارة الدولية بشكل غير مسبوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهو ما أثّر بدوره على سوق العقارات وعلى معدلات التضخم والاستثمار والبطالة، وهو ما استقر فى دراسات العلاقات الدولية بمسمى «صدمة البترول الأولى» لتصبح واحدة من أهم فصول البحث والتدريس فى العلاقات الدولية حتى عصرنا هذا!
***
كان لهذا الاستخدام الناجح لسلاح البترول العربى لدفع الدول الغربية لاتخاذ مواقف أكثر دعما للدول العربية ثلاثة تأثيرات كبرى على تطور العلاقات الدولية منذ ذلك الحين:
تمثل التأثير الأول فى ظهور المملكة العربية السعودية كفاعل إقليمى قوى فى العلاقات الدولية، ورغم أن دور المملكة العربية السعودية فى العلاقات الدولية ظهر للمرة الأولى فى فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلا أن نظرة الدول الكبرى للمملكة ظلت محصورة فى كونها مصدرا للنفط الخام الذى يمكن شراؤه مقابل دفع الثمن بالدولار! بعبارة أخرى لم يكن يتم التعامل مع الرياض كقوة إقليمية بقدر ما كان يتم التعامل معها كمصدر سهل للحصول على مستلزمات الطاقة مقابل دفع المال! إلا أنه بعد ١٩٧٣ فقد أولت دول العالم وفى مقدمتها الولايات المتحدة اهتماما خاصا تطلب إنشاء علاقات استراتيجية مع الأسرة الحاكمة فى المملكة على كل المستويات والتأكد من الحصول على دعمهم وتأييدهم لسياسات الولايات المتحدة وضرورة إبقائهم دائما فى خانة الأصدقاء!
برغم أن حظر تصدير البترول إلى الولايات المتحدة وغيرها من الدول لم يدم لأكثر من ستة أشهر، إلا أن هذه المدة كانت كافية لإحداث هزات فى أسواق الإنتاج والتصدير والتجارة الدولية بشكل غير مسبوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية
أما التأثير الثانى فى العلاقات الدولية فقد تعلق بزيادة دور تيارات الإسلام السياسى المدعوم فكريا واقتصاديا من المملكة العربية السعودية آنذاك وهو الأمر الذى قوبل بالترحاب من قبل معظم الدول العربية بل وكذلك لم يجد ممانعة كبيرة من واشنطن، على أساس أن تيارات الإسلام السياسى يمكن دائما استغلالها لتحقيق هدفين، الهدف الأول هو الإبقاء على عامل الاستقرار لشعوب دول الشرق الأوسط خاصة فى ظل التصور الأمريكى المبدئى أن تيارات الإسلام السياسى هذه ستكون داعمة لشرعية الأنظمة السياسية العربية المحافظة وهو ما سعت إليه الولايات المتحدة دائما وثبت خطأ تلك الفرضية لاحقا! وكذلك رأت الولايات المتحدة أيضا فى تيارات الإسلام السياسى هذه فرصة سانحة لاستخدامها كشوكة فى ظهر الأنظمة العربية الشيوعية ــ الاشتراكية المناوئة لسياسات الولايات المتحدة من ناحية، وكذلك كورقة ضغط يمكن استخدامها لمواجهة المد الشيوعى من ناحية أخرى وهو ما دفع واشنطن لاحقا لدعم حركة المجاهدين فى أفغانستان ضد الغزو السوفيتى هناك ولهذا حديث تفصيلى لاحق!
أما التأثير الثالث والأخير لصدمة البترول الأولى كانت أيضا فى دفع الدول الغربية الكبرى فى البحث عن مصادر بديلة للبترول الشرق أوسطى، سواء بتطوير جهود البحث والتنقيب عن البترول داخل هذه الدول نفسها، أو بتبنى مشاريع علمية باحثة عن بدائل للبترول كمصدر للطاقة! ورغم أن هذه الأبحاث والجهود قد أتت بثمارها، إلا أنه وحتى اللحظة ما زال البترول واحدا من أهم الأسلحة التى يمكن استخدامها للمناورة فى العلاقات الدولية ومن المتوقع أن يظل الأمر كذلك لبضعة عقود قادمة!
(*) ملحوظة: اعتمدت المقالة فى بعض فقراتها على ورقة بحثية بعنوان «فك لغز صدمة البترول الأولى: التاريخ، والسياسة، والاقتصاد الكلى فى ٤٠ عاما» لجيوفانى كوفى الباحث الاقتصادى فى الوحدة الاستراتيجية لاختبار الضغوط فى بنك إنجلترا والمنشورة فى سبتمبر/أيلول عام ٢٠١٥ فى دورية تاريخ الفكر الاقتصادى والسياسى.
(**) ينشر بالتزامن مع “الشروق“