اختار رونين بيرغمان عنوانا لهذا الفصل من كتابه الوصف الذي أطلقه شمعون بيريز على رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات وهو “ماكر كأفعى وساذج كطفل صغير”. يقول بيرغمان إن جهاز “الشين بيت” تمكن من الإمساك بيحيى عياش (إغتياله بعبوة زرعت في هاتف جوال لأحد المقربين منه) “بصفته المسؤول عن مقتل وجرح المئات من السكان (المستوطنين) وتسببه بأذى لا يحصى لدولة إسرائيل ولعملية السلام. وفي ذلك الوقت، كان هناك عدد من القياديين في حماس في الضفة الغربية وقطاع غزة يتحملون مسؤولية هجمات دموية على إسرائيل”. ويضيف بيرغمان “ثمة إختلاف جوهري بين هؤلاء القياديين وبين يحيى عياش، فمعظمهم كان يعمل من داخل الأراضي المحتلة (الضفة الغربية وقطاع غزة) باستخدام الأسلحة النارية في كمائن ضد الجنود على الطرقات فيما كان عياش مسؤولاً عن العمليات الانتحارية داخل “إسرائيل” (الأراضي المحتلة عام 1948) نفسها وكانت عملياته موجهة ضد المدنيين (المستوطنين). وقد إستمر أسلوب عياش الثوري حتى بعد موته، فقد تمكن خلال الأشهر الأخيرة من حياته من تدريب مجموعة من نشطاء حماس على طرق تصنيع العبوات الناسفة الصغيرة وعلى المتفجرات الفتاكة التي يمكن للانتحاري ان يستخدمها وعلى طرق تجنيد الانتحاريين واعدادهم، وكان من بين هؤلاء الذين درّبهم عياش واحد يدعى محمد دياب المصري، الذي بعد ان اصبح على لوائح المطلوبين لدى “الشين بيت” بات يعرف باسم “محمد ضيف” لأنه كان كل ليلة يبيت في مكان مختلف عن الذي كان فيه في الليلة التي سبقت. ومحمد هو من مواليد العام 1965 في مخيم خان يونس للاجئين في قطاع غزة، وهو ابن لعائلة نزحت من قرية تقع على مقربة من مدينة عسقلان عام 1948، وقد انضم ضيف الى صفوف حركة حماس تقريبا منذ تأسيسها في العام 1987 واعتقل للمرة الأولى في العام 1989 وحكم عليه بالسجن ستة اشهر لإدانته بالانتماء الى الجناح العسكري لحماس ولكن ما ان غادر السجن حتى عاد على الفور الى نشاطاته وشارك في كل التدريبات التي كان ينظمها عياش سرا على الشواطئ الرملية خارج غزة، وفي العام 1993 تم تعيينه مسؤولا عن عمليات “الإرهاب” داخل قطاع غزة”.
عندما ألح بيريز على عرفات قائلاً “إعتقل محمد ضيف على الفور”، نظر عرفات إليه بعينين مفتوحتين من الدهشة، وقال باللغة العربية “محمد شو”؟
وفي اليوم الذي دُفن فيه يحيى عياش، يقول بيرغمان، “جرى تعيين محمد ضيف قائدا لكتائب عزالدين القسام، الجناح العسكري لحماس، وفي تلك الليلة بدأ بتجنيد الانتحاريين، وفي الشهر الذي تلا بدأ بتنفيذ عمليات الرد على اغتيال عياش. وقد نفذ ضيف ورجاله أربع عمليات “إرهابية”، ففي 25 فبراير/شباط 1996 فجّر انتحاري نفسه في حافلة في مدينة القدس ما أدى الى مقتل 26 شخصا، وفي اليوم نفسه، فجّر انتحاري آخر نفسه في محطة مخصصة للجنود قرب عسقلان ما أدى الى مقتل ستة منهم وجرح ثلاثين آخرين. وبعدها بأسبوع في الثالث من مارس/آذار 1996، فجّر انتحاري نفسه في حافلة ركاب في القدس ما أدى الى مقتل 19 شخصا وجرح ثمانية، وفي اليوم التالي، في الرابع من مارس/ آذا، فجّر انتحاري نفسه قرب طابور من الناس كانوا ينتظرون قرب الة سحب الأموال في “مركز ديزنجوف” وهو مجمع كبير للتسوق في قلب تل ابيب ما أدى الى مقتل 13 شخصا وجرح أكثر من مئة”.
يضيف بيرغمان “تلمس شمعون بيريز، الذي كان قد خلف اسحق رابين في رئاسة الحكومة، تأثير هذه الجمات “الإرهابية” على الرأي العام “الإسرائيلي” وتأييده لعملية السلام وافاق تأثيرها على الانتخابات (التشريعية) التي كان مقررا ان تجرى في شهر مايو/أيار، فوّقع “الصفحة الحمراء” ضد محمد ضيف وامر “الشين بيت” بعمل كل ما هو ممكن للتخلص منه، ولكن ضيف تمكن من البقاء حياً، والسلطة الفلسطينية التي كان يفترض فيها ان تساعد “الشين بيت” في محاربة “الإرهاب” كجزء من محادثات السلام لم تفعل شيئاً. وزعم جبريل الرجوب، وهو أحد مسؤولي أجهزة الامن الفلسطينية ومن المقربين جدا من ياسر عرفات “لم يكن لدي القدرة، فقد اردت ان احارب إرهاب حماس، ولكن لم يكن لدي الرجال والمعدات ولا السلطة للقيام بذلك”. لكن يوفال ديسكين ضابط اتصال “الشين بيت” بالسلطة الفلسطينية لا يوافق على ذريعة الرجوب ويقول “جبريل كاذب فقد كان لديه كل المقدرة، ولكنه كان يتلقى أوامر من عرفات بان لا يحاول كثيراً”.
ويتابع بيرغمان، “قبل الهجمات الأربع الأخيرة، حاول بيريز دفع عرفات لاعتقال ضيف وأربعة وثلاثين من رجاله يشتبه بتورطهم بأعمال “إرهابية”، فقد سافر الى غزة لعقد اجتماع طارئ مع عرفات في 24 يناير/كانون الثاني وبرفقته رئيس جهاز “أمان” عامي يعالون (يلاحظ القارئ ان الاجتماع حصل زمنيا قبل شهر من الهجمات الأربع التي تحدث عنها بيرغمان أعلاه) الذي أخبر عرفات “عليك اعتقال هؤلاء الناس في الحال والا كل شيء سيغرق في الفوضى”. وعندما ألح بيريز على عرفات قائلاً “إعتقل محمد ضيف على الفور”، نظر عرفات إليه بعينين مفتوحتين من الدهشة، وقال باللغة العربية “محمد شو”؟ بالطبع كان عرفات يعرف ان التفجيرات الانتحارية جعلته يبدو بنظر شعبه انه ليس قادراً على السيطرة على السلطة الفلسطينية وبنظر الرأي العام الدولي جعلته يبدو وكانه يمد يد العون، ولو عبر غض النظر، عن “إرهاب القتلة”، كما كان يعرف ان عملية السلام ستموت اذا ما تواصلت عمليات تفجير “الإسرائيليين” في الحافلات ومجمعات التسوق، لذلك وبعد التفجير الرابع، شنّت قوات الامن التابعة له حملة اعتقالات شرسة ضد حماس تم خلالها تجميع حوالي 120 من كبار المسؤولين فيها، ولكن كان الأوان قد فات للقيام بمثل هذه الخطوة”.
وينقل بيرغمان عن بيريز قوله “كان عرفات يمتلك شخصية معقدة ووضع نفسي لم نكن معتادين عليه، فهو من جهة كان ماكراً كأفعى ومن جهة ثانية كان ساذجاً كطفل صغير. كان يريد ان يكون كل شيء في الوقت نفسه، كان يريد ان يكون رجل السلام ورجل الحرب، فمن جهة، كان لديه ذاكرة فريدة من نوعها تُمكنه من تذكر كل الأسماء وتواريخ الميلاد والاحداث التاريخية، ومن جهة ثانية، الحق والحقائق والصدق لا يثيرون اهتمامه دائماً. لقد جلسنا معا وأكلت من يده – المصابة بالاكزيما (مرض جلدي) وكان ذلك بحد ذاته عملا شجاعا. احضرت له معلومات عن كبار ارهابيي حماس في مناطق سلطته. وهو كان يعرف جيداً ان المعلومات دقيقة للغاية، ولكنه كان يكذب في وجهي بلا ان يرف له جفن، وعندما اقتنع معنا كان الأمر متأخراً، فقد دمرني الإرهاب وانهاني وأطاح بي”.
ويقول بيرغمان “لقد تحولت موجة “الإرهاب” في شهري فبراير/شباط ومارس/آذار عام 1996 الى دراسة حالة حول كيف يمكن للهجمات الانتحارية ان تغير مجرى التاريخ، ففي بداية هذه الموجة كان شمعون بيريز يتقدم على منافسه اليميني الصقر بنيامين نتنياهو (“بيبي”) في استطلاعات الرأي بحوالي عشرين نقطة، لكن في منتصف مارس/آذار، ضيّق نتنياهو الهوة بينهما لتصبح لمصلحة بيريز فقط بخمس نقاط مئوية وفي 29 مايو/أيار، ربح نتنياهو متقدماً على بيريز بنقطة واحدة. كل ذلك كان بفضل “الهجمات الإرهابية” التي لم يتمكن بيريز بكل بساطة من ايقافها، لقد تمكن مساعدو يحيى عياش من ضمان النصر للجناح اليميني “وإخراج عملية السلام عن مسارها” بحسب كلام نائب رئيس “الشين بيت” حينها يسرائيل حسون”.
بيريز: “كان عرفات يمتلك شخصية معقدة ووضع نفسي لم نكن معتادين عليه، فهو من جهة كان ماكراً كأفعى ومن جهة ثانية كان ساذجاً كطفل صغير. كان يريد ان يكون كل شيء في الوقت نفسه، كان يريد ان يكون رجل السلام ورجل الحرب، فمن جهة، كان لديه ذاكرة فريدة من نوعها تُمكنه من تذكر كل الأسماء وتواريخ الميلاد والاحداث التاريخية، ومن جهة ثانية، الحق والحقائق والصدق لا يثيرون اهتمامه”
ما يثير الدهشة، حسب رواية بيرغمان، “ان الهجمات توقفت لمدة سنة تقريباً بعد الانتخابات. يعتقد البعض ان توقفها كان نتيجة لحملة الاعتقالات التي شنّها عرفات ضد حركة حماس واعتقال العديد من أعضاء الجناح العسكري للحركة ويعتقد آخرون ان حماس لم يعد لديها أي سبب لتنفيذ عمليات انتحارية لان نتنياهو كان قد أوقف عملية السلام كلياً وهذا هو الهدف القريب للهجمات على أي حال. لم يفسخ نتنياهو اتفاقية أوسلو، ولكن حكومته راكمت عدداً لا يحصى من المصاعب أمام عملية السلام وعلى مدى ولايته كرئيس حكومة كانت عملية السلام تقريباً متوقفة. فهو لم يسارع الى استخدام القوة او القيام بأعمال عدائية وارتكز نهجه على عدم القيام بأي شيء وعدم القيام بأي مبادرة لا باتجاه الحرب ولا باتجاه السلام. اما عرفات فقد كان غاضباً جداً للتأخير المستمر في الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية. وفي رده على هذا التأخير، أطلق سراح عدد من نشطاء حماس الذين كان سبق لهم ان اعتقلهم. وفي 21 مارس/آذار عام 1997، هاجمت حماس مجددا في قلب تل ابيب عندما فجّر انتحاري نفسه في مقهى رصيف ليس بعيدا عن منزل رئيس الوزراء الأسبق ديفيد بن غوريون ما أدى الى مقتل ثلاث نساء واصابة أربعين شخصا بجروح البعض منهم كانت جروحهم خطرة. ولكن نتنياهو حافظ على ضبط النفس امام هذا الهجوم على الرغم من طلب مساعديه تنفيذ عمل عسكري في الأراضي الفلسطينية لكنه رفض ذلك وامر بعدم استخدام القوة”.