يصف الدكتور كامل مهنا المؤسسات المدنية او ما يعرف بـ NGO بأنها أصبحت عنواناً للارتزاق وللتسول السياسي الرائج تحت معادلة أعطني مالاً وخذ مني ما تريد، ما أدى إلى تشويه العمل المدني الذي يؤطره مهنا بإطار الندية عندما يصل الموضوع للتمويل. مؤسسة عامل من اكثر الهيئات اللبنانية والعربية التي أصبحت تشكل رأس حربة في مواجهة سياسة الغرب الاستعمارية التي اعتادت نهج الاملاءات لتقديم المساعدات. لذلك، يرفع مهنا شعار “شركاء لا أوصياء”، حيث بلورت مؤسسة عامل بنوداً واضحة في مسيرتها الانسانية تبدأ برفع قضايا الشعوب العادلة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية والعمل مع الفئات الشعبية والنضال لأجل توزيع عادل للثروات في سبيل الحفاظ على كرامة الانسان بغض النظر عن عرقه أو دينه أو هويته.
هذا الكتاب يفسّر مكامن الخلل في ممارستنا المدنية من منطلق الحرص والدفع نحو النهوض وإعادة بناء مواطن وطن، إعادة بناء تحمل بكل ما في الكلمة من صعوبة ترميم بناء مهلهل ضعيف، ولأن مهنا ضد منطق الهدم فإن إعادة تصحيح ما خلّفته الصراعات الخارجية والداخلية من أعطاب احتاجت منه مساراً ومسيرة.
كامل مهنا طبيب، اعتاد تطبيب جراح الوطن بتخفيف آلام سكانّه من لاجئين ولبنانيين، حكيم بما يقوله ويمارسه، يصلح أن يكون مربّي، أسلوبه نادر في بناء الفرد الجماعي، بدءا من الحقوق المتساوية بين البشر مروراً باحترام قيمتهم الانسانية وصولا إلى ضرورة المشاركة بين الرجال والنساء وارساء الحوار والابتعاد عن كافة المظاهر العنفية الرمزية منها او الفعلية، أفكاره تبني الأوطان، حديثه الباحث عن الحلول لا عن المشاكل، عن الفعل لا التذمّر، عن التعاون لا المؤمرات.. لا أبالغ عندما أقول أن الصدفة التي جمعتني بهذا الانسان، أعادت لي كشابة لبنانية أملاً بإمكانية النهوض بهذا البلد، من خلال تأسيس مشاريع مماثلة ونشر مثل هذه التجارب.
المقدمة الأولى في الكتاب للمفكر الدكتور جورج قرم، ويشير فيها إلى أن “الكتاب غني بالتجارب المحلية والدولية، وأن مضمونه موازٍ للنضال المتواصل الذي يخوضه الدكتور مهنا والمؤسسة التي أنشأها أي “عامل”، من أجل تثبيت تجربته الوطنية على أرض الواقع، وتكريس نموذج عمل اجتماعي إنساني، لا يقل أهمية عمّا تقدمه مؤسسات المجتمع المدني الغربية”.
قدّم الدكتور مصطفى حجازي أيضاً للكتاب بشرح مسهب وواضح لماهية المجتمع الاهلي الذي يصبغ حياتنا ويحرّك لاوعينا ويدفعنا بدون إرادة لنكون كالدمى المحرّكة، مجتمع زرع فينا منذ نعومة أظافرنا ان الخارج عن القطيع يأكله الذئب، حتى أصبح خوفنا الفردي جماعياً، أصبح يشلّنا عن التقدّم، يجرّنا نحو التقوقع داخل حضن الأم الكبرى “الطائفة”، ولأن وطننا لبنان متزوج من أكثر من إمرأة، فإن أولاده محميون كلٌّ بعباءة أمه، والأب غائب إلاّ عن ملّذاته، مستقيل من واجباته، وكل أمّ تحاول حماية أطفالها، تحكي لهم عن أخيهم الذي يريد أن يقتلهم ليستأثر بثروة أبيهم، تحكي لهم عن قصص مشابهة، حتى أصبحوا كأخوة يوسف، أعمت عيونهم الأحقاد وجعلتهم يلقون بيوسف في البئر.
وضع حجازي في تقديمه أصبعه على جرحنا المكشوف المتمثل بالعصبيات الدينية والاجتماعية والعائلية. يقول: “المجتمع الأهلي يرمي إلى توثيق روابط العصبية المحلية طائفية كانت أم مذهبية وشدّ الأواصر بين أعضائها من خلال الخدمات التي يقدمها الميسورون للمعوزين والمتمكنون للعاجزين والمكشوفين، وهذه الخدمات تزيد من العزلة والتباين مع مكونات المجتمع العام، وبذلك هي تفرق ولا تجمع على الصعيد الوطني. انها تستفيد من مساعدات الدولة لتعزيز روابطها الداخلية أكثر مما تهدف إلى الاسهام في التنمية المجتمعية الكلية. ومن هنا ورغم اسهاماتها في خدمة جمهورها النوعي لا تُيسّر قيام مشروع وطني ينهض بالبلد حيث انها تحل إجمالا محل الدولة ومرجعيتها. بالاضافة إلى انه يكرس التبعية والاتكالية بدلا من الشراكة والتمكين”.
ما يحويه الكتاب من تجارب لمؤسسة عامل في حفظ الانسان وصون كرامته، كانت لتحمي الوطن بدل علاجه كما يفعل الطب الوقائي في تجنب الاصابة بالمرض، لو كانت مؤسسة عامل مجموعة مدارس تنتشر على سائر الأراضي اللبنانية تعيد بناء الأجيال، بناء انسان متسامح، مواطن ينتمي الى وطن أولاً، بما يعيد انتاج اجيال سليمة بعيدة كل البعد عن العصبيات والتقوقع
برغم هذا، فإن الدكتور مهنا لا ينفي الدور الذي لعبه المجتمع الأهلي لجهة تنظيم الحياة والتكافل بين الناس بل أنه يؤكّد استغلال عمل المجتمع المدني لأهداف تصب في الأدوار النمطية التي إعتادت مؤسسات المجتمع الأهلي فعلها حيث أصبحت المؤسسات المدنية تقدّم نفسها كنقيض بنيوي للدولة وأصبحت “عدّة الشغل” لكل من السلطة والمعارضة في استغلال الطبقات المحتاجة من خلال تقديم التنمية والرعاية المشروطة مقابل ولاءات صامتة وصمت اجتماعي على ممارسات فاسدة بينما يرتبط المجتمع المدني بمفهوم المواطنة، المساواة في الحقوق والواجبات والمرجع للسلطات التي تفوّض لإدارة البلد وأنظمته ومقدراته، وهو تفويض يرتبط بالمساءلة والمحاسبة حيث يضع المجتمع المدني الانسان المواطن في صدارة المرجعية، وهو ما يمثل النقلة النوعية من الانتماءات العصبية المحلية على اختلافها الى الانتماء الى كيان وطني عام جامع لكل شرائح المجتمع.
يقول مهنا “العمل المدني في معظم أنحاء العالم ارتبط بالفكر السياسي وتعزيز أفكار الديموقراطية وحقوق الانسان، حيث بدأ الترادف بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني من مفهوم سيادة الشعب وارادته الجماعية على استبداد النخبة بالاضافة إلى تزامن ظهوره عالميا مع بدء تراجع الخدمات التي تقدمها الدولة منذ نهاية السبعينيات الماضية حيث اقتصر نشاطه على الأعمال الخيرية والرعائية”.
أما في لبنان، فمنذ عام الاستقلال في 1943 لم توفق الدولة في بناء الدولة القادرة على تأمين الاندماج الاجتماعي للبنانيين، حيث كانت الطائفة هي المكوّن الأساس للدولة وكانت الدولة تستند إلى هذه العصبيات (الطوائف) لاكتساب شرعيتها وخلال سنوات الحرب ازدادت العصبيات الطائفية ودفعت الناس الى التقوقع في غيتوات جغرافية طائفية ولكن بعد انتقال لبنان إلى حالة السلم كانت الحاجة إلى المجتمع المدني أشدّ وأشمل من تضميد الجراح وإسعاف المصابين، أصبحت الغاية تخفيف حدّة العنف الذي خلّفته النزاعات العسكرية والطائفية والمذهبية، وبدأ التعاون بين القطاعين العام والمدني يتجلّى من خلال برامج العقود المشتركة التي تقوم بها وزارة الشؤون الاجتماعية في مجالي الرعاية والتنمية وهذا ما تمثله مؤسسة عامل كانموذج ريادي في تبني هذه الفلسفة التنموية التشاركية التمكينية في توزيع خدماتها على كل المناطق اللبنانية وعبر كل الطوائف والانتماءات.
وبرغم أن الكتاب سهل القراءة سلس الأفكار، إلاّ أنّ ما يحويه من تجارب لمؤسسة عامل في حفظ الانسان وصون كرامته، كانت لتحمي الوطن بدل علاجه كما يفعل الطب الوقائي في تجنب الاصابة بالمرض، لو كانت مؤسسة عامل مجموعة مدارس تنتشر على سائر الأراضي اللبنانية تعيد بناء الأجيال، بناء انسان متسامح، مواطن ينتمي الى وطن أولاً، بما يعيد انتاج اجيال سليمة بعيدة كل البعد عن العصبيات والتقوقع والاقصاء.. وعن كل منطق الخوف والتخويف.