كل من جلس على كرسي انطاكية كان مهجوساً بـ”اختراع حلمٍ” على طريق تحويله إلى مجدٍ. سِيَرُ كل البطاركة الموارنة من نفس الطبيعة. يساعدها في ذلك طبيعة لبنان الجيوبولوتيكية. وعلى هذا الإيقاع يمكن إدراج “مبادرة الحياد” التي أطلقها بطريرك انطاكيا وسائرالمشرق للموارنة مار بشارة بطرس الراعي من خارج المُتوقع. البعض قال أنها لتسد فراغاً في دوره. آخرون قالوا أن هدفه محض شخصي بدليل ما صدح به في حاريصا ليل الأحد الماضي في جموع كُلف باستحضارها واستدعائها أحد الآباء. وكان الهدف من الحفل المسائي التشابه مع مشهد تقاطر “الشباب المسيحي” إلى بكركي يوم عاد البطريرك الراحل نصرالله بطرس صفير عام 2001 من زيارة الى الولايات المتحدة إستقبله خلالها الرئيس الأميركي جورج بوش الابن وبعد إطلاق نداء المطارنة الموارنة في ايلول/سبتمبرمن العام 2000.
بلاد العسل والبخور ومنذ ولادتها عام 1920 قامت على تشابك وقائع داخلية مع أخرى خارجية. دائماً كان هناك داخل له متعلقات خارجية. ودائماً كان هناك خارج يسعى في الداخل. كل الطوائف بلا استثناء استدعت خارجاً ضد قريناتها. وخارجٌ كثير ساعد الطوائف ضد بعضها البعض. وهذا ما جعل لبنان ساحةً (الدولة ـ الحاجز حسب المؤرخ جورج قرم) أكثر من كونه وطناً. هكذا بقيت الجمهورية المُدعاة مجموعة انتماءات طائفية، ولم يكن يوماً دولةً بالمعنى المتعارف عليه دولياً.
إستدعاء مادة الإشتباك
كان الإنقسام الداخلي يغطي استنفاره بعضه على بعض بلا خجل وبلا مواربة. دعك من الدستور، ففي الجمهورية الأولى كان تمييزياً. أما في الثانية، فكان مثيراً للحساسيات المذهبية بسبب من قوة حضور الرئيس رفيق الحريري. وفي الجمهوريتين، كانت تطل نظرية الحياد كـ”حبل خلاص” إفتراضي للجمهورية وأهلها.
أغرب المفارقات في نظرية الحياد أنها شكلت مادةً للاحتراب وللتوتر، ولم تؤدِ الغرض منها، أي الإستقرار. وبهذا المعنى يُمكن قراءة السجال السياسي على ما بادر إلى طرحه في الخامس من تموز/يوليو الماضي البطريرك بشارة الراعي تحت عنوان “المبادرة” والتي نهضت على ثلاثية “تحرير الشرعية من الحصار” و”حياد لبنان” وتنفيذ “قرارات الشرعية الدولية”. الثلاثية هذه برمتها، وعلى امتداد التاريخ اللبناني، كانت على الدوام مادة الاشتباك بين المكونات الطائفية اللبنانية.
حتى نهاية شهر أيار/مايو المنصرم، كان البطريرك أسير هواجس تبدأ ولا تنتهي. أبرزها هاجس إقالته لأسباب كنسية ووطنية، بعدما وضع تحت المجهر الفاتيكاني جراء سيلٍ من التقارير المتعددة المصادرعن أداء سيد بكركي على كل المستويات الكنسية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية وتصدع أبنية الكنيسة في مجالات التربية والصحة والإستشفاء بعد اندلاع “ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر”. فقد كان غريباً ومُستهجناً على الفاتيكان كيف يمكن للكنيسة المارونية، وهي المالك العقاري الأهم والأضخم بعد الدولة، أن تنوء تحت وطأة الأزمة السياسية ـ الاقتصادية ـ الصحية. وكان السؤال أين ما تراكم على امتداد قرون؟ ليليه مباشرة جواب فطري “يروحوا يبيعوا المرسيدس عندهم”.. وليتمثلوا براعي أبرشية بيروت المارونية المطران بولس عبد الساتر.
منذ وصوله إلى منصبه قبل تسع سنوات، لم يترك بشارة الراعي بصمة حقيقية. لعل الخرق الوحيد الذي حققه هو إجتماعه السري بالأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في العام 2016 في إحدى كنائس الضاحية الجنوبية
نموذجا الراعي.. وصفير
هكذا، فإن ثمة أثقال تاريخية لا يجوز التقليل من أهميتها. كل بطريرك ماروني يكون عادةً محكوماً بصورة نمطية لمن سبقوه إلى الموقع الذي يحتله، أقله من لحظة ولادة الكيان (لبنان الكبير) في العام 1920 حتى إتفاق الطائف في الأمس القريب. من البطريرك الـ 72 إلياس الحويك إلى البطريرك الـ 76 نصرالله صفير مروراً بالبطريرك الـ 73 أنطون عريضة. لذلك، كان لافتاً للإنتباه توقف الراعي عند الحويك ولحظة تأسيس دولة لبنان الكبير، وعند عريضة ولحظة الاستقلال اللبناني في العام 1943. لكنه قرر أن يتجاوز البطريرك صفير ربما بسبب فقدان الود للأخير، علما ان صفير له بصمتان تاريخيتان عند الجمهور المسيحي وعند شريحة وازنة من الجمهور اللبناني، الاولى، مبادرته الشجاعة والمكلفة إلى تغطية إتفاق الطائف. والثانية، إطلاق نداء المطارنة الموارنة في العام 2000، وهو النداء الذي أسّس لإطلاق خطاب مناهضة الوجود السوري في لبنان، بذريعة عدم وجود ما يبرره، بعد إنسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني في أيار/مايو 2000.
ومنذ وصوله إلى منصبه قبل تسع سنوات، لم يترك بشارة الراعي بصمة حقيقية. لعل الخرق الوحيد الذي حققه هو إجتماعه السري بالأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في العام 2016 في إحدى كنائس الضاحية الجنوبية (كشفت عنه وقتذاك جريدة “الأخبار”)، وقوله له إنه لولا مشاركة حزب الله في الحرب السورية لكان تنظيم “داعش” في قلب جونية عاصمة كسروان معقل موارنة لبنان.
أزمة.. يليها سؤال “ما العمل”؟
فعلياً، أثبتت البطريركية المارونية في السنوات الأخيرة أنها مأزومة. أولاً، لا إنتاج للسياسة ولا للمبادرات السياسية. ثانياً، ثمة ملفات إقتصادية وإجتماعية ضاغطة وزادت وطأتها في ضوء تفجر الأزمة الإقتصادية والمالية في الشهور الأخيرة. ثالثاً، الحصار السياسي الذي يتعرض له لبنان والذي ترك أثره في كل الشوارع اللبنانية لا سيما في الشارع المسيحي المأزوم برئيس جمهوريته وكل قواه السياسية وشخصياته الوزارية والنيابية. رابعاً، ليس خافياً على أحد أن جهات إقليمية ودولية تمارس ضغوطاً وبأشكال مختلفة على الفاتيكان بعنوان “ما هو سر صمت الكنيسة المارونية في لبنان على هيمنة حزب الله على القرار اللبناني”. والسؤال الذي لا يني يتكرر هو:”ما العمل”؟.
تردد كثيرون على بكركي وطرحوا عليها أفكاراً. لا يستطيع أحد أن يقدم جواباً واضحاً عن توجيهات فاتيكانية أعطيت للبطريرك الراعي قبل إقدامه على طرح مبادرة الحياد. حتى أن ما قيل عن إجتماع لسفراء عرب وأوروبيين في إحدى العواصم الأوروبية، عشية خطاب الراعي الأول، “ليس دقيقاً”، بحسب شهادة أحد الدبلوماسيين العرب في العاصمة الفرنسية.
الأفكار التي كانت تُرمى أمام سيد بكركي، تطوع كل من القيادييَن المسيحييَن السابقيَن سجعان قزي وروجيه ديب تحويلها إلى ما يشبه المبادرة. زدْ على ذلك الدور الذي لعبه وزير قواتي سابق معروف بإنفتاحه على أطياف سياسية عديدة، حيث بكّر في الحديث والكتابة عن موضوع الحياد وزار بكركي أكثر من مرة، وعرض على سيدها صيغة الحياد الناشط وأن يكون حاسماً بموضوع عدم الحياد في الصراع مع إسرائيل وأن المطلوب هو حياد الأقوياء والشجعان وليس حياد الجبناء، مع التشديد على أهمية عدم جعل أية مبادرة بطريركية كأنها موجهة ضد بيئة حزب الله، ذلك أن من يريد حماية لبنان وتحييده “عليه أن يحول سلاح حزب الله إلى سلاح بخدمة لبنان أولاً وليس في خدمة أي مشروع إقليمي”.
هل أن ما أطلقه الراعي من دعوة إلى الحياد، يأتي في سياق تمهيد الأرضية اللبنانية لما يرسم من سيناريوهات للمنطقة، والمقصود هنا النموذج الفدرالي أو الكونفدرالي؟
حماية المنصب أم لبنان؟
صار مرجحاً أن الراعي إلتقط التوقيت الداخلي والخارجي. في الداخل، وجد أن طرحه يحظى بتأييد عند أغلبية الشارع المسيحي وباقي الشوارع الطائفية اللبنانية بإستثناء الشارع الشيعي الذي يُستنفرعادة في مواجهة أي مشروع يستهدف في طياته سلاح حزب الله. هكذا تعامل هذا الشارع مع”إعلان بعبدا”. وهكذا ينظر بالسلبية ذاتها إلى مبادرة الراعي.
كل القوى السياسية المعارضة للسلطة أيدت المبادرة، حتى أن رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ورئيس الحكومة حسان دياب عبرا عن تلعثم سياسي في ضوء ما صدر عنهما بعد زيارة الديمان في نهاية الأسبوع الماضي.
سياسياً، قام البطريرك الراعي بما عليه القيام به، لكن اين الاهلية المسيحية لحمل المبادرة التي يمكن أن تتحول إل نداء تاريخي، إلا إذا أراد الراعي أن يثبت أنه “صاحب القرار المسيحي”، اي محاولة إستنساخ الدور التاريخي للبطاركة الحويك وعريضة وصفير!
القوى السياسية المسيحية مربكة كون البطريرك الراعي تجاوزها وملأ فراغاً كبيراً، لكن إلى الآن يقع الراعي بين نقطتين: هل فعل ما فعل فقط لحماية منصبه، أم أنه يريد أن يذهب في ما قاله إلى النهاية؟
وإذا كانت فرضية “الحماية” هي الأرجح حتى الآن، إلا أن لسان حال المؤيدين للمبادرة هو كيفية تثبيت البطريرك الماروني أكثر فأكثر في جموحه نحو إشتباك بات الكل مدركاً أنه يستهدف حزب الله مباشرة وكل دعوة إلى الحياد أو التحييد أو تحرير القرار، هي دعوة للانخراط بوجه حزب الله. ومثل هكذا “مُنتج سياسي” كفيل في هذه اللحظة بأن يجد أسواقاً إقليميةً ودوليةً كافية لتصريفه وصولاً إلى تدعيم ودعم بكركي بما تحتاجه من عناصر للمضي في المبادرة، وفي الوقت نفسه، حتى تستفيد مادياً من أجل حماية جماعتها.
إرتجال أم تخطيط؟
بهذا المعنى، صار الراعي أسير مبادرته، وهو وجد إلتفافاً عربياً ترجم بالزيارة العلنية التي قام بها السفيرالسعودي وليد البخاري وبزيارة ثانية للبخاري ظلت بعيدة عن الأضواء وتخللها “دعم” يتجاوز المعنوي نحو “العملي والملموس”. وإذا صح ذلك، يكون في موقف البطريرك الماروني شيئاً من التحايل السياسي لتنفيس الاحتقان المسيحي العام من الأزمة الاجتماعية. فمع اطلالته السياسية وإطلاقه النار على حزب الله، برّر شيئاً من القصور الاجتماعي الكنسي بعد الحديث عن انهيار المستشفى المسيحية والمدرسة المسيحية والجامعة المسيحية والفندق المسيحي، ناهيك عن ارتفاع رهيب بمعدلات البطالة عند كل الفئات اللبنانية.
ويندرج في هذه الخانة الطلب من الأب فادي تابت التحضير للقاء حاريصا مساء الأحد الماضي ليجمع فيه “شباب الثورة”، وبدا أن الهدف من هذا التحشيد هو “إسناد” البطريرك الراعي شعبياً و”تكبير” صورته قبيل توجهه إلى الفاتيكان وفرنسا في الأسابيع القليلة المقبلة.
وبكل الأحوال، أمام الراعي مطبات عديدة في الداخل والخارج، فالحياد، كما أي عنوان وطني طرح في الماضي، يحتاج إلى توافق وطني لبناني، وهو أمر غير متوفر، أقله بوجود شريحة معترضة، وجاء بيان المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ليؤكد إجماع الطائفة الشيعية على رفض معادلة التحييد أو الحياد. وكما كان الحال في الطائف، فإن أي مشروع لبناني يحتاج إلى مروحة كبيرة من التوافق العربي والدولي، وهذا الأمر أيضاً غير متوفر، وهذا يعني أن أي توجه للراعي للسير بقضية الحياد إلى نهاية المطاف، سيصطدم بحقيقة أن من يُعبر عن الموقف الرسمي اللبناني (الرؤساء الثلاثة في لبنان) لن يوافق على نقل هذا الملف إلى الأمم المتحدة، لإسناده بقرار دولي قوامه إعلان لبنان دولة محايدة!
جاءت مبادرة الراعي لتملأ الفراغ والفضاء السياسي اللبناني. ما يجب أن يدركه حزب الله تحديداً أن ما كان يشكّل مظلة أمان طيلة سنوات مضت، بات اليوم يشكل عنصر قلق كبير عند فئات واسعة من المسيحيين، والمقصود هنا هو التفاهم الذي أبرم بين الحزب والتيار الوطني الحر في شباط/ فبراير 2006. لذلك، قرر الراعي أن يعزف على وتر “فك أسر الشرعية”، وهو يقصد بذلك تحرير رئاسة الجمهورية من “تفاهم مار مخايل”.
النقطة الأخيرة التي تستدعي التأمل لا الإرتجال: هل أن ما أطلقه الراعي من دعوة إلى الحياد، يأتي في سياق تمهيد الأرضية اللبنانية لما يرسم من سيناريوهات للمنطقة، والمقصود هنا النموذج الفدرالي أو الكونفدرالي؟