في الشهر الماضي، دخل برنامج إيران النووي أراضٍ جديدة خطيرة: تمتلك طهران الآن ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب (بنسبة 60%)، وهي تحتاج فقط لزيادة نسبة التخصيب إلى 90% لتحصل على اليورانيوم عالي التخصيب، وهي الخطوة الأهم في إتجاه أن يصبح لدى إيران قنبلة نووية. هذه العملية، المعروفة باسم “الاختراق”، ستستغرق الآن أسابيع فقط بسبب التقدم الذي أحرزته إيران منذ عام 2019، عندما بدأت طهران في التخلص من قيود اتفاق عام 2015 على أثر انسحاب الولايات المتحدة منه عام 2018.
إن عواقب ما أنجزته إيران في هذا المضمار عويصة. حتى الآن، كان أمام المجتمع الدولي متسعٌ من الوقت (شهورٌ إن لم يكن سنوات) لحل الأزمة بطريقة دبلوماسية، وبالتالي كبح أي إندفاعة إيرانية لصنع قنبلة نووية. لطالما احتفظت واشنطن بالخيار العسكري كملاذ أخير. صحيح أن هذا ساعد في ردع إيران؛ حتى الآن؛ عن محاولة صنع قنبلة. ولكن، وكما أعلن المبعوث الأميركي روبرت مالي الشهر الماضي، “طهران قد وصلت بالفعل إلى المرحلة التي يمكنها فيها إنتاج ما يكفي من الوقود الخاص بصنع قنبلة نووية حتى قبل أن نتمكن نحن من معرفة ذلك، ناهيك عن إيقافها”. والحقيقة أن واشنطن، التي طالما هدَّدت بأنها لن تسمح بـ”إيران نووية”، قد لا تكون قادرة على ذلك، وهذا واقع مُقلق للغاية.
الحل الأسهل؛ ويبدو أن واشنطن لا تزال تعول عليه؛ هو العودة إلى الإتفاق النووي الإيراني. فهذا من شأنه أن يكسب الوقت من خلال التراجع عن العديد من المكاسب التي حققتها طهران، ما يجعل الجدول الزمني لإيران لا يتجاوز ستة أشهر. وكانت المحادثات لإحياء الإتفاق قد تعثرت بعدما طالبت إيران وزارة الخارجية الأميركية بإزالة الحرس الثوري من قائمتها الإرهابية. ومع ذلك، فإن المشكلة أنه كلما طال أمد الجمود يقل احتمال التوصل إلى إتفاق وتتضاءل فوائده لكل من طهران وواشنطن، وهذا ما يُفسر العودة إلى المفاوضات المباشرة لكن هذه المرة ليس في فيينا بل في الدوحة، برعاية مباشرة من الإتحاد الأوروبي والقطريين.
وما يؤسف له أن المجتمع الدولي قد يواجه إيران على عتبة السلاح النووي في المستقبل المنظور. سيتعين على واشنطن أن تفكر بشكل خلاَّق في كيفية إدارة هذا الوضع إذا كانت تريد تجنب قنبلة إيرانية والعواقب السلبية التي ستتبع ذلك.
الإختراق والإنهيار
من المفيد التفكير في التحديات التي يفرضها الإختراق على أنها محكومة بثلاث “ساعات”. تقيس الساعة الأولى الوقت الذي ستستغرقه إيران لإنتاج مواد كافية لصنع قنبلة. وتقيس الساعة الثانية الوقت الذي سيستغرقه المفتشون الدوليون، أو العواصم الغربية لكشف تلك الأنشطة. والساعة الثالثة تقيس الوقت الذي يحتاجه المجتمع الدولي للرد. في الفترة الماضية كان وقت الساعة الأولى أطول بكثير من وقت الساعتين الثانية والثالثة. ولكن اليوم لم يعد هذا هو الحال.
وفقاً لمسؤولين أميركيين، ستحتاج إيران إلى “أسابيع قليلة” لإنتاج ما يكفي من المواد اللازمة لصنع قنبلة. وبعض الخبراء يقولون إن الأمر يحتاج فقط لعشرة أيام (الساعة الأولى). ومن المرجح أن يستمر هذا “الوقت” في الإنكماش مع تقدم برنامج إيران. المفتشون يزورون مواقع التخصيب الإيرانية مرة واحدة في الأسبوع (الساعة الثانية). وبالتالي، يمكن لإيران أن تُحدد وقت الإختراق حتى يصل المفتشون ويكتشفون بعد فوات الأوان أو قبل أيام فقط من إنتاج إيران ما يكفي من المواد لصنع قنبلة. يمكن لإيران أيضاً اختلاق ذريعة لمنع المفتشين من الوصول وإكمال عملية الإنتاج في غيابهم.
سيبلغ المفتشون قادة الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالوضع، ولكن هذه المعلومات يجب أن تصل أيضاً إلى واشنطن. من الممكن أن تكشف واشنطن، أو أحد حلفائها، الاختراق الإيراني من خلال جمع المعلومات الاستخبارية الخاصة بهم؛ لكن الأمر ليس مؤكداً. ومع ذلك، قد ترغب واشنطن في تحليل المعلومات ودعوة كبار المسؤولين لمناقشة الخيارات؛ وهي عملية قد تستغرق وقتاً أطول.
ومع اقتراب إيران من مرحلة الاختراق أو نهايتها، سيتعين على واشنطن الردّ بسرعة (الساعة الثالثة). لسوء الحظ، لن يكون هناك وقت للدبلوماسية، وستحتاج واشنطن إلى التدخل عسكرياً. حتى يكون الخيار العسكري مُتاحاً لا بد من توافر مجموعة عوامل أخرى. قد ترغب واشنطن في استخدام ذخائر ضخمة للوصول إلى المنشآت النووية الإيرانية؛ المخبأة عميقاً في جوف الأرض؛ حيث سيحدث هذا الإختراق، مثل قاذفات B-2 المتمركزة في ميسوري. وربما تستغرق الرحلة من ميسوري إلى إيران أكثر من 30 ساعة، وقد لا يُسعف الوقت لمنع حدوث اختراق في هذا السيناريو. كذلك ستتطلب تلك الرحلة طائرات للتزود بالوقود، فهل ستكون مثل هذه الطائرات مُتاحة في الوقت المناسب؟
هنا، تصبح الأمور أكثر تعقيداً؛ وقد يستغرق حلها وقتاً أطول. قد تضطر واشنطن لضرب عدة مواقع نووية، وأنظمة الرادار والدفاع الجوي الإيرانية لتقليل مخاطر إسقاط طائراتها، وقد تضطر لنصب أنظمة صواريخ لصد أي عمل انتقامي. سيكون من المستحيل تنفيذ بعض، وربما أغلب، هذه الخيارات في مثل هذه الأطر الزمنية الضيقة، ما قد يُجبر واشنطن على العدول عن أي تصرف من أساسه.
يمكن لإيران أيضاً استغلال الفترة التي تفصل بين عملية تفتيش وأخرى لتحويل موادها النووية إلى منشأة سرّية بدلاً من محاولة الاختراق في مواقع معروفة، وبالتالي قد تصل إلى نسبة تخصيب 90%. حالياً لا مؤشرات تثبت أن لدى إيران منشأة تخصيب سرّية. ولكن على عكس الماضي، عندما كانت إيران ستبدأ من الجيل الأول من أجهزة الطرد المركزي البطيئة واليورانيوم المنخفض التخصيب، تمتلك إيران الآن مخزونات متزايدة من المواد المُخصبة بنسبة 60 و20% وتتقن أجهزة طرد مركزي أكثر تقدماً. وهذا يعني أن إيران قادرة على بناء مصنع تخصيب أصغر قد يصعب اكتشافه، ما يُمكّنها من تخصيب المواد بنسبة 90% بسرعة أكبر بكثير من ذي قبل. أي أن واشنطن عليها أولاً إكتشاف موقع المنشأة السرّية والمواد النووية المفقودة إذا ما قررت إستخدام القوة العسكرية لوقف مسيرة إيران نحو سلاح نووي.
وبطبيعة الحال، فإن امتلاك المواد الإنشطارية اللازمة لصنع قنبلة ليس قنبلة بحد ذاتها. ستحتاج إيران لفترة أطول؛ ربما سنة أو سنتين؛ لبناء جهاز نووي وتركيبه على صاروخ. لكن إنتاج المواد الانشطارية يظل الجزء الأكثر مراقبة، وبالتالي الجزء الأكثر قابلية للكشف عنه، في صنع قنبلة. يمكن أن تتم أنشطة التسلح في مجموعة متنوعة من المرافق المتناثرة، والتي لا تخضع لأي مراقبة جديّة. قد تكافح واشنطن للكشف عن عمليات التسليح المتبقية بعد أن تكون طهران قد أنتجت المواد الانشطارية التي تحتاجها.
حتى لو لم تُنتج إيران قنبلة نووية أو مواد إنشطارية، فإن “طهران القادرة على حمل رؤوس نووية” ستظل تُولد تحديات سياسية خطيرة. ستصبح السياسة الخارجية الإيرانية أكثر جُرأة وعدوانية إذا اعتقدت طهران أن بإمكانها تعليق “سيف ديموقليس”(**) على رأس المجتمع الدولي. يمكن لإيران أيضاً تعزيز تحوطها النووي بطرق لا تتطلب برنامجاً كاملاً للأسلحة النووية، بما في ذلك عن طريق تطوير صواريخ باليستية عابرة للقارات. أخيراً، في مواجهة إيران على أعتاب قنبلة نووية والشكوك حول قدرة واشنطن على إيقافها، يمكن لدول المنطقة أن تشرع في جهود التحوط النووي الخاصة بها، ما يشكل تحدياً إضافياً لنظام حظر إنتشار السلاح النووي عالمياً. قد يحاول هؤلاء الحلفاء والشركاء أنفسهم الإستفادة من التهديد بالتحول إلى الطاقة النووية للضغط على الولايات المتحدة للحصول على ضمانات أمنية أقوى ومساعدات دفاعية؛ وهي إستراتيجية استخدمها حلفاء أميركا في آسيا. ستجد واشنطن نفسها عالقة بين خيارين غير مستساغين: إلتزامات عسكرية أعمق في الشرق الأوسط في وقت تفضل فيه تركيز الانتباه في مكان آخر، أو البقاء على مسافة والمخاطرة بمزيد من انتشار الأسلحة النووية والصاروخية.
إرجاع عقارب الساعة
مع إبقاء مصير الإتفاق النووي الإيراني معلقاً، ليس لدى طهران حافز كبير لوقف تقدمها النووي، وهو ما تعتقد أنه يضغط على الغرب. يصبح هذا صحيحاً بشكل مضاعف إذا إنهارت المحادثات الرامية إلى إحياء الإتفاق. وبينما تنتظر الدبلوماسية، يجب على واشنطن بالتالي التركيز على ما يمكنها التحكم فيه: الساعتان الثانية والثالثة – تسريع عملية الكشف والتعامل مع الوقائع.
ولزيادة احتمالات أن يكتشف المجتمع الدولي اختراقاً إيرانياً، يجب على واشنطن وحلفائها، وإذا أمكن، الصين وروسيا، أن يقنعوا إيران بأن تسمح بزيارات يومية للوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى مواقع التخصيب والتخزين، وأن تعاود تفعيل عمل أجهزة مراقبة التخصيب عبر الإنترنت (عندما لا يكون مسؤولو الوكالة حاضرين). كانت هذه الإجراءات سارية بموجب إتفاق 2015، لكن إيران تخلَّت عنها منذ إنسحاب الولايات المتحدة منه. بالإضافة إلى ذلك، يجب على واشنطن تكثيف جهودها لجمع المعلومات الاستخبارية والتنسيق مع الحلفاء للمساعدة في توفير أكبر وقت تحذير ممكن. عندما يكون الفاصل بين إيران وقدرتها على تصنيع قنبلة نووية عبارة عن أيام فقط تصبح كل ثانية مهمة. ستوفر هذه الإجراءات وقتاً ثميناً، وتساعد في ردّع حدوث إختراق.
ثمة أسباب للإعتقاد بأن إيران قد تتبنى مثل هذه الشروط. أولاً، هناك حجة قوية وغير سياسية مفادها أن هذه الاحتياطات الإضافية ضرورية للوكالة الدولية للطاقة الذرية للقيام بعملها الرقابي لأن إيران هي الدولة الوحيدة التي تُنتج اليورانيوم عالي التخصيب ولا تمتلك سلاحاً نووياً. ثانياً، يمكن أن تساعد هذه الإجراءات في توفير ضمانات حيوية للمجتمع الدولي بأن إيران لم تكن تسرع في الحصول على قنبلة، وبالتالي تقلّل من فرص توجيه ضربة عسكرية، وهو أمرٌ من المفترض أن تراه طهران في مصلحتها. ومع هذا الهامش الضيق من الخطأ، فإن أي تأخير في وصول المفتشين إلى المواقع الإيرانية يمكن أن يؤدي إلى سوء تقدير يجب أن تحرص إيران على تجنبه. أخيراً، لن تتطلب أي من هذه الخطوات من طهران وقف تقدمها النووي، مثل التخصيب بنسبة 60%، أو زيادة مخزونها من المواد، أو إضافة أجهزة طرد مركزي متقدمة، والتي تعتقد أنها توفر ضغطاً تفاوضياً مهماً.
إن وجود طهران ذات القدرة النووية من شأنه أن يخلق تحديات سياسية خطيرة
ستحتاج واشنطن وحلفاؤها أيضاً إلى تسريع قدرتهم على الرد. وعلى مجلس الأمن القومي تشكيل لجنة معدلة تجتمع فور تلقي معلومات تشير إلى حدوث اختراق إيراني. وكما هو الحال في أي أزمة، قد تكون المؤشرات غامضة وقد تكون البيانات متضاربة. ولمحاكاة هذا الواقع، يجب على هذه المجموعة أن تتدرب على عقد اجتماعات طارئة، وكيف تقيم الأنواع المحتملة من المعلومات التي قد يتلقونها، والمرور على السيناريوهات والخيارات لتحديد ما سيحدث في ظلّ قرارات معينة.
ومع ذلك، فإن الخطوة الأكثر تأثيراً التي يمكن أن تتخذها واشنطن هي اختصار وقت الرد العسكري. قد تكون هذه الخطوة هي الأصعب أيضاً. يتمثل أحد الخيارات في زيادة الجهوزية والتأهب والتأكد من أن جميع القدرات المطلوبة. تحتاج واشنطن لمراقبة المعلومات الاستخباراتية حول التهديدات الإيرانية المحتملة والتفكير ملياً في الخطوات التي يجب الكشف عنها وأيها يجب أن تبقى سراً حتى لا تؤدي عن غير قصد إلى سيناريو تأمل في تجنبه: اندفاع إيران نحو سلاح نووي. وبرغم أن طهران قد ترفض الفكرة، يجب على واشنطن أيضاً الضغط لإنشاء خط اتصال مباشر للمساعدة في إدارة الأزمات، وأن تكون منفتحة على تأجيل بعض الخطوات العسكرية في حال اختارت طهران، على الأرجح، ضبط النفس والشفافية في المجال النووي. الهدف، بعد كل شيء، ليس قصف إيران بل منع قنبلة إيرانية.
سيكون هذا النهج متوافقاً مع الجهود الأميركية للتوصل إلى تسوية دبلوماسية. لكنه سيتطلب أيضاً من واشنطن مواجهة الواقع غير المريح المتمثل في عدم قدرتها على تعليق آمالها فقط على إحياء الإتفاق النووي الإيراني لحل المعضلة الحالية. هذه الخيارات ليست مثالية، لكنها؛ في غياب اتفاق نهائي؛ قد تكون كل ما تبقى لواشنطن لمنع إيران مسلحة نووياً.
– بتصرف، النص بالإنكليزية على موقع “الفورين أفيرز“.
(*) مدير أول في مبادرة التهديد النووي. عمل في مجلس الأمن القومي ومجلس الاستخبارات الوطني الأميركيين.
(**) “سيف ديموقليس” استعارة شائعة الاستخدام من أيام الإغريق القدماء للإشارة إلى خطر وشيك وقريب يتعين على كل من لديه موقع قوة مواجهته.