حق الإجهاض.. نقاش في القانون والثقافة والقيّم

أخذ حُكم المحكمة العليا الأميركيّة (SCOTUS)، حول إلغاء الحق في اختيار الإجهاض أشكالاً عديدة وأبعاداً مديدة. لم يقتصر ردّ الفعل على قرار الإلغاء المثير للجدل على الولايات المتحدة فحسب؛ وإنّما امتدّت آثارهُ لتشمل كل دول العالم.

فتحَ قرار الإلغاء السالف ذكره والمزمع دخوله حيز التنفيذ لاحقاً على هامش منطوقه جدلاً واسعاً، اصطبغت ثناياهُ بالإيديولوجيا، وبتنا على غراره أمام مقابلة غير بريئة بين حقوق المرأة بما يتقرّر عنها من مكتسبات وامتيازات وبين ذكوريّة خفية أو معلنة؛ أطرافها نساءٌ ورجالٌ التبس عليهم الفرق الخافت بين القتل والاجهاض.
نحو فهمٍ قانوني مبسّط 
في البدء ثمة عوار قانوني شمل القرار من حيث أنّه حكمٌ يلغي امتيازاً ولا يمنحهُ! وهو من نوادر الأحكام القضائيّة أو التعديلات القانونيّة. إذّ جرى التقليد القانوني الدولي، حتى صار قاعدة وشرطاً في كل الدول أنّ الحقوق الممنوحة في ظل قانون قديم لا يمكن أن تُلغى بقانون جديد إلا في حال رفدها بحقوق أكبر. وأنّ الأحكام القضائيّة الصادرة عن محاكم الاستئناف لا يمكن أن تُصدر حكماً يُغلّظُ العقوبة. وأنّ المحاكم العليا أو محاكم النقض هي محاكم قانون، أيّ أنّها لا تُصدر أحكاماً وإنّما ترى في مدى تطبيق القضاة للقانون من عدمه.
المحكمة العليا في الولايات المتحدة تُوازي عندنا المحكمة الدستوريّة أو المجلس الدستوري، أيّ أنّ صلاحيّاتها تقتصر على مدى مطابقة القانون والقرارات والأحكام والأوامر للدستور الأميركي من عدمه. فضلاً عن أنّها، أيّ المحكمة العليا الأميركيّة، جهة استئناف مخوّلة للنظر في النزاعات القضائيّة بين الولايات الأميركيّة في بعض القضايا ذات الطابع الجنائي شرطَ اتّسامها بالحساسيّة والأهمية البالغة، حدّدها الكونغرس على وجه الحصر للنظر فيها من قِبل المحكمة العليا.
وقد يحدث تعارض بين المحاكم العليا في الولايات الأميركيّة وبين المحكمة العليا باعتبارها الجهة القضائيّة الأعلى منهم، وتكون فيه الغلبة لحكمها ترجيحاً واشتمالاً بحكم التراتب. ويحدث أن يكون هذا التعارض مثيراً للجدل كما حدث في فلوريدا؛ حيث أمرت المحكمة الفيديراليّة العليا سنة 2000 بضرورة استمرار عدّ الأصوات في الانتخابات الرئاسيّة حين كانت المواجهة محتدمة وعلى أشدّها بين بوش الابن وآل جور، كانت فلوريدا وقتذاك هي الحاسمة بعد تقارب الأصوات بين المترشّحين. تدخلت المحكمة العليا وأمرت بإيقاف عملية الفرز مُلغية بذلك قرار المحكمة العليا الفيدراليّة في فلوريدا الآمر باستئناف العدّ! رَجحت كفة بوش الابن عن آل جور بفضل هذا القرار التاريخي الذي عدّه الكثير “تجاوزاً تاريخياً”.

لا أحد مع الإجهاض في عمومه، فهو تجربة قاسية وموجعة تلجأ إليها المرأة اضطراراً. وبالتالي النقاش الحقيقي هو حول الحق في اختيار الإجهاض بشروطه وليس الحق في الإجهاض بإطلاقه، والفرق بينهما يكاد يكون حاسماً تماماً في الفهم

مفارقات أميركيّة
والحال أنّ هنالك مشكلة قضائيّة حقيقيّة في الولايات المتحدة: لديها معدل ما يسمى بـ العود (عودة المسبوق بحكم إدانة إلى ممارسة الإجرام مرةً أخرى) يصل إلى 44٪ في غضون عامٍ واحدٍ فقط، وهي نسبة مخيفة وملفتة للإنتباه، لا سيما أنّ السجون الأميركيّة معروفة بقسوتها والمحاكم هنالك شهيرة بأحكامها الثقيلة، حتى باتت شبحاً مقيماً لدى كبار المجرمين وتجّار المخدرات. كان بابلو اسكوبار يُفضّل الموت مُمَثلاً بجثته في كولومبيا على أنّ يتمّ إرساله إلى السجون الأميركيّة.
في أميركا هنالك مفارقات عديدة. نحصر الكلام هنا على الجانب الدستوري فقط، بحكم موضوع الحال ومناسبة المقال. الكثير لا يعرف بأنّ هنالك حزب في أميركا اسمه الحزب النازي الأميركي، ولديه موقع إلكتروني على الويب (يمكنُ لقرّاء 180 بوست المزمزة فيه قليلاً هنا) ترفض وسائل التواصل الاجتماعي التنصيص عليه في مساحاتها، وتعتبره مسيئاً يتوجّب التوبيخ والإنذار الإلكتروني مع أنّه ينشط على الأراضي الأميركيّة وبشكل قانوني أيضاً! بالتأكيد مفهوم حرية التعبير في الولايات المتحدة يختلف عن فهمها في أوروبا وفي كل أدبيات العالم..
المفارقة الأخرى دستوريّة جداً: للسلطات الأميركيّة الحق في استدعاء الميليشيات لقمع أعمال التمرد وليس لخلقها (البلطجيّة). وتقوم الولايات بتدريب هذه الميليشيات وتعيين ضبّاطها وفقاً لنظام فيدرالي معيّن يحدّده الكونغرس، ويُعتبر رئيس البلاد هو القائد الأعلى لهذه الميليشيات!
وجود هذه الميليشيات على الأراضي الأميركيّة يستمدّ شرعيته من الدستور، شأنها في ذلك شأن الحرس الوطني (يمكن الاطلاع على المواد والفصول والبنود الدستورية المنظمة لعمل الميليشيات في الدستور الأميركي هنا).
ومن الطرائف أنّ النائب الجمهوري الشهير تيد كروز حفظ الدستور الأميركي عن ظهر قلب في يفاعته، وفاخر بذلك، برغم أنّه إحدى النوائب الجمهوريّة التي عانى منها الديمقراطيون وغير الديمقراطيين وأحد أحدّ المتجاوزين للدستور.

الحق في الاختيار والحياة

أقرّت المحكمة العليا الحق في اختيار الإجهاض في ما يُعرف بقضية رو ضد وايد سنة 1973 وقامت بإلغائه بقرار في 2022. ويُعدّ القاضي المناهض لحريّة التعبير والحق في الاختيار صمويل أليتو نجم التسريب الأول، وربما صاحب “الفضل” الأبرز في الدفع بالمنع قبل أن يتمّ إصدار الحكم في شكله الرسمي. تدخلت المحكمة هنا بوصفها حامية للحق في الحياة الممنوح للجنين، وبصفتها وليّ أمره حتى بلوغه سن الرشد وتشكل شخصيّته القانونيّة. لكن يجب تحديد خطوط التماس وفكّها بين بعض المصطلحات حول هذا الموضوع تمهيداً لفهمه بشكل صحيح وكامل:
أولاً: ليس حق الإجهاض وإنّما الحق في اختيار الإجهاض للأم. لا أحد مع الإجهاض في عمومه، فهو تجربة قاسية وموجعة تلجأ إليها المرأة اضطراراً. وبالتالي النقاش الحقيقي هو حول الحق في اختيار الإجهاض بشروطه وليس الحق في الإجهاض بإطلاقه، والفرق بينهما يكاد يكون حاسماً تماماً في الفهم.
ثانياً: المواجهة الحالية بين أنصار الحق في الحياة وهو حقّ يتّصل بالكليات الكبرى التي كفل حمايتها القانون الدولي في شرعة حقوق الانسان، في مواجهة الحق في اختيار الإجهاض القانوني والآمن. وكلا الاتّجاهين يعتبران المسألة موضوع الدفاع؛ أخلاقيّة وقانونيّة ودينيّة لدى أنصار الحق في الحياة وأنصار الحق في الاختيار على حدّ سواء، لكن يختلفان في تحديد هوية كل معنى على حدة.
ثالثاً: يرفض أنصار الحق في اختيار الإجهاض استيلاء أنصار الحق في الحياة على مفاهيم ضخمة هي محل اتفاق بشري من قبيل: الحق في الحياة والحق الأخلاقي والحماية القانونيّة للأطفال.
رابعاً: يتّهم أنصار الحق في الإجهاض أصحاب الحق في الاختيار بأنّهم يشرّعون القتل ويرفعون الحماية القانونيّة عن الأطفال، فيما يردّ أنصار

عندما لا يكون الجنين قابلاً للحياة لا يمكن أن نسميه طفلاً، وبالتالي لا يمكن أن يُحمى قانونياً (ليس لهُ أوراق ثبوتيّة وغير مسجل في قيد النفوس وبلا صورة تحدّد هويته وبدون شهادة طبيّة توضّح وضعه الصحي في حين تتمتّع الأم بوضع مهني خاص، يعني هي مُقدّمة عن الجنين بالنظر إلى نوع الخطاب القانوني إزاء الأشخاص الطبيعيين)

الحق في الاختيار بأنّ الإجهاض مشروط بالتالي:
* الإجهاض القانوني هو إنهاء الحمل قبل أن يصبح الجنين قابلاً للحياة.
* إنّ القابلية للحياة تعني ببساطة قدرة الجنين على العيش خارج رحم الأم ولو بمساعدة اصطناعيّة موثوقة وقاطعة وليست تقريبيّة أو احتماليّة، بحيث يتوازى احتمال الموت مع إمكانية الحياة.
* تحديد قابلية الحياة بعد حوالي سبعة أشهر (28 أسبوعاً، حوالي 198 يوماً).
* عندما لا يكون الجنين قابلاً للحياة لا يمكن أن نسميه طفلاً، وبالتالي لا يمكن أن يُحمى قانونياً (ليس لهُ أوراق ثبوتيّة وغير مسجل في قيد النفوس وبلا صورة تحدّد هويته وبدون شهادة طبيّة توضّح وضعه الصحي في حين تتمتّع الأم بوضع مهني خاص، يعني هي مُقدّمة عن الجنين بالنظر إلى نوع الخطاب القانوني إزاء الأشخاص الطبيعيين)، لأنّه مجرد احتمال (كما يسميه القانون الكندي):
٠ قبل 12 أسبوعاً لا يوجد نشاط كهربائي في الجهاز العصبي.
٠ قبل 24 أسبوعاً لا توجد موجات دماغيّة.
٠ النبض غير دال على الحياة أيّ مجرد منعكس شرطي لنشاط الأم، تماماً مثل ردّة فعل الرِجل اللاإراديّة عند ضرب الركبة بمطرقة الطبيب.
٠ وعي النملة أكثر من وعي الجنين في هذا المرحلة: هل تشعر الحشرات بالألم؛ كلا. هل تعتبر الحشرات حيوانات محمية بالقانون؛ كلا. الحشرات جمادات متحرّكة (من الطرائف المثيرة للإعجاب بأنّ هنالك فقهاً في الإسلام للحشرات، إذ تتّفق المذاهب على ضبط قتل الحشرات في المناسك والحرم، وتحريم قتل غير الضارّ منها. واختلفوا في قتل الضار في موطنه بعيداً عن الإنسان، حيث يذهب أنصار المذهب المالكي إلى تحريم ذلك).
* استحالة حدوث فعل القتل أثناء التطوّر.
* القتل إنهاء حياة واقع حال وليس مشروع أو احتمال حياة.
* إذا كان الجنين شخصاً لماذا يعتمد كلياً على عضو شخص آخر للبقاء على قيد الحياة! ولأنّه كذلك؛ فهو عضو من الأم وجزء من جسدها، وللمرأة الحق الكامل في جسدها، فإذا لم ترده من دون الأسباب الطبيّة المتّفق عليها بين الطرفين، وهو غير قابل للحياة، فمن حقها الإجهاض الآمن سواءً بسبب الاغتصاب أو لانعدام الرغبة في حدوث الحمل القسري.
* تجريم الحق في الإجهاض لم يمنع حدوثه. وهذا التجريم أدى إلى لجوء النساء إلى وسائل غير طبيّة ومن دون رعاية ممّا أثّر على صحتهنّ كثيراً.
* إذا كان إجهاض الجنين في طور التخلّق (حوالي سبعة أشهر كما بيّنّا أعلاه) وهو ليس شخصاً كما سبقت الإشارة، يعني أنّه عضوٌ من أعضاء الأم أو يتّصل بأحد أعضائها ارتباطاً شرطياً (امتداداً سببياً)؛ هل يمكنُ بهذا المنطق المُرسل غير المؤسس أنّ نعتبر الذين لا يتبرّعون بأعضائهم لأشخاص على وشك الموت: قتلة!!
خامساً: يذهب الاتجاه المحافظ المناوئ للحق في الاختيار إلى الامتثال للأوامر الدينيّة المُحرّمة للإجهاض، برغم أنّ المسيحيّة والإسلام قد نظما الإجهاض وجعلاه مشروطاً ولم يحرّماهُ تماماً. عند المسلمين يُجاز الإجهاض للضرورة في غضون مدة أقصاها أربعة أشهر قبل نفخ الروح (عند الأحناف والشافعيّة والجعفريّة الإثنيّ عشريّة أربعة أشهر وعند الحنابلة والمالكيّة أربعين يوماً). وفي الدول الإسلاميّة نجد قانون الأحوال الشخصيّة التونسي والبحريني والتركي يجيز الحق في الاختيار من دون الضرورات الصحيّة في مدة ثلاثة أشهر.
وعند المسيحيّة ترتبط الحياة بالتنفس، في حين أن الجنين لا يتنفس أساساً. بل إنّ هنالك من يعتقد بعدم وجود أيّ دليل مسيحي على تحريم الإجهاض (للاستزادة، وهنا، وهنا).
وتبدو المشكلة هنا واضحة وجهيرة بين العلم والدين في مسألة اثبات وجود الروح. العلم لا يعترف بوجود الروح لانعدام وجود أدلة قويّة غير ظنيّة عليها، في حين يثبت الدين وجودها من دون أدلة ماديّة دنيويّة. هنا فضّ الاشتباك بين الاثبات والنفي بالاجتهاد ينهي السبب الديني في رفض الحق في الاختيار ويريح المؤمنين من محكمة الضمير.

يجب أن ينصرف النقاش إلى الجوهر: عدم اعتبار الجنين في طور التخلّق قبل ستة أشهره الأولى كائناً يتنفس وشخصاً طبيعياً مخاطباً بالقانون ويقع على المحكمة واجب حمايته

وقصارى القول، إنّ التعارض الملتبس بين الحق في الحياة والحق في الاختيار، ناجمٌ في الغالب الأعمّ عن عدم تلازم المعرفة الطبية بالثقافة القانونيّة، ذلك أنّ المسألة بعمومها حقوقيّة وطبيّة في آن معاً، يمكن لغير المختصين أن يدلفوها شرط أن يتوفّروا على قدرٍ معقول من الثقافتين. فمن بين الأخطاء التي وقع فيها الكثير ظنّ الناس بأنّه ليس للسلطة القضائيّة الحق في التدخل في الخيارات الشخصيّة للأفراد؛ والواقع أن المحكمة العليا الأميركيّة تدخلت ليس بوصفها طرفاً مناوئاً لحقّ الاختيار الشخصي وإنّما باعتبارها جهة مخوّلة بحماية الحق في الحياة للجنين. هنالك مبدأ قضائي عام يقول بأنّ القاضي وليّ أمر أيّ قاصر لا وليّ لأمرهِ. وبالتالي تعتبر المحكمةُ الجنينَ ما دون القاصر، ويمكن أن تصفهُ بعديم الأهلية الذي تدخل حمايته في صلب واجبات المحكمة. لذلك يجب أن ينصرف النقاش إلى الجوهر: عدم اعتبار الجنين في طور التخلّق قبل ستة أشهره الأولى كائناً يتنفس وشخصاً طبيعياً مخاطباً بالقانون ويقع على المحكمة واجب حمايته.
وممّا نفهمهُ مما سبق، أنّ القضية ليست فنيةً تماماً بحيث تراكمُ غموضاً متّصلاً كلما أوغلنا في أعماقها أكثر أو تمعنّا في جوانبها أطول، إنّها صراعٌ عقائدي ينطوي على اتّفاقٍ خفيّ مع الطبيعة من أجل درء التسليم بالمساواة بين الجنسين، ومهما كانت “جهنّم مبلّطة بالنوايا الحسنة”، فحُسن المقاصد في حدّ ذاته يتطلب التحرّي قبل تحديد الشكل المريح من المسألة، وإلا بتنا في حال المزيد من الشيء ذاته في كل مرة، غير قادرين على التحرّر من العواطف وإنتاج مواقف تتّسق مع المنطق ومبادئ العدالة وقواعد الإنصاف.
لن يفوتني أن أذكر بحجة طريفة قدّمها أنصار الحق في الاختيار مفادها: أنّ صفار البيض يعتبر مشروعاً متقدّماً لتخلّقِ صوص، ومع ذلك لا يكفّ أنصار الحق في الحياة عن تناوله بوصفه منتجاً حيوانياً صرفاً، وليس صوصاً مسكيناً يُذكر الكروش النهمة بقمع طفولة دجاجة مسكينة!

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  هل يُشعِل الديموقراطيون حرباً جديدة؟
ضيف حمزة ضيف

كاتب وصحافي جزائري

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  الإطار المعرفي للفكر الإسلامي: متى تحدثُ "الثورةُ الكانطيّة" (1)؟