عطّل المصرفيون تقدم خطة حكومة حسان دياب في 2020، وها هم اليوم يحاولون الانقضاض على خطة سموها “خطة الشامي”، نسبةً إلى نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، على أساس أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي “منهم وفيهم”. صديق يمكن الاتصال به والتعويل عليه عند الحاجة، ولا يتردد عادة في مد يد العون لهم ما استطاع الى ذلك سبيلاً وفقاً لمصالحه ومصالحهم المتقاطعة. والدليل، أنه انصاع في الأيام الأخيرة لمطالبهم بوعد إيجاد صيغة ما لكبار المودعين ومتوسطيهم على حساب الدولة لا المصارف.
***
للتذكير، فان الخطة كانت تقضي بشطب 60 مليار دولار من خسائر مصرف لبنان، أي الجزء الأكبر من شهادات إيداع المصارف لديه، وهي عملياً أموال مودعين في القطاع المصرفي، تضاف إليها رساميل البنوك الواجب شطبها أيضاً، تمهيداً لإعادة الرسملة المصرفية. مع التزام بحفظ حقوق المودعين حتى 100 ألف دولار، ووعد “ما” بإيجاد حل “ما” لأصحاب الودائع التي تفوق ذلك المبلغ، مع التسليم بضرورة الشطب في نهاية المطاف، على قاعدة أن في الأزمات خاسرين لا محالة، ويستحيل وقوع أزمة يربح فيها الجميع! وكيف لا تتحمل المصارف جزءاً أساسياً من الخسائر وهي القطاع الوحيد الذي ضاعف رساميله وأرباحه وتوزيعاته 65 الى 70 مرة منذ أوائل التسعينيات الماضية حتى عشية الازمة، علماً بأن الجزء الأكبر من تلك المكاسب الهائلة أتى من فوائد الدين العام؟
***
يرفض المصرفيون شطب رساميلهم، أي انهم يرفضون تحمل مسؤوليتهم ولو بالحد الأدنى. ولخوض هذه المعركة الخاصة جداً، يتلطون خلف المودعين. كما انهم يتحايلون للفكاك من الإلتزام برد الودائع حتى 100 ألف دولار والتي تغطي 88% من المودعين ويساوي مجموعها نحو 28 ملياراً، أي ما يوازي قيمة ما تبقى من أصول لديهم. يريد أصحاب المصارف تحميل الدولة “الجمل بما حمل”، ويطلعون منها “متل الشعرة من العجين”، من دون خسارة رساميلهم ولا أصولهم. وفق هذا المخطط التنصلي يضعون المودعين في مواجهة الدولة التي عليها تسخير أصولها ومواردها في مدى جيلين أو ثلاثة لرد تلك الودائع لأصحابها!
***
صحيح أن المودع صاحب حق مطلق في ماله، ولا يجوز بتاتاً شطب مدخراته كما لو أنه مسؤول بين المسؤولين عن الأزمة. لكن المبلغ المهدور والمتبخر (ويحلو للبعض تصنيفه مسروقاً!) كبير جداً ولا طاقة للبنان عليه لا اليوم ولا غداً وفق كل الحسابات، لا سيما تلك التي أجراها صندوق النقد الدولي. والأجدى في هذه الحالة اجراء تدقيق جنائي في الودائع وبنيتها وهوية أصحابها ومصادر ثرواتهم لمعرفة صاحب الحق الحقيقي، وتمييزه عن الثري المتهرب من الضرائب، وجامع أمواله بصفقات الفساد، وكل العاملين بالشأن العام من سياسيين وضباط وقضاة وموظفين جمعوا ثروات بالملايين باستخدام نفوذهم وبلطجيتهم.. هذه الثروات تشطب بالحد الأدنى، ويلاحق أصحابها بالحد العادل الأقصى. كما تشطب تراكمات الفوائد الفاحشة فوق الودائع الأصلية، وتشطب ودائع أجانب هربوا أموالهم غير النظيفة من بلدانهم للتخفي وراء حجاب سرية لبنان المصرفية.
يرفض المصرفيون شطب رساميلهم، أي انهم يرفضون تحمل مسؤوليتهم ولو بالحد الأدنى. ولخوض هذه المعركة الخاصة جداً، يتلطون خلف المودعين. كما انهم يتحايلون للفكاك من الإلتزام برد الودائع حتى 100 ألف دولار والتي تغطي 88% من المودعين ويساوي مجموعها نحو 28 ملياراً، أي ما يوازي قيمة ما تبقى من أصول لديهم
بعد عملية تدقيق واسعة النطاق، وشطب ما يمكن أو يجب شطبه، تنتفي حجة أي كان أمام حقيقة رد الحقوق النظيفة لأصحابها، ولو وفق جدول زمني يمتد لسنوات طويلة ربما.
عندئد، والى جانت تمليك المودعين اسهماً في المصارف، فلا بأس لو تم التصرف بجزء من ايرادات الدولة على قاعدة العدالة القصوى التي لا نقاش فيها، وفرض الالتزام بها على المجتمع بأسره مهما كلف الأمر. أما القبول بما تطرحه المصارف لجهة فرض رد كل الودائع لأصحابها من إيرادات الدولة وأصولها ففيه لا عدالة فاجرة على أكثر من صعيد، خصوصاً أن تلك الإيرادات لكل اللبنانيين بأجيالهم المتعاقبة وليست لعدد قليل جداً منهم اليوم.
***
الأنكى، أن المصارف ترفض اعادة الرسملة من جديد، كما لو أنها لم تخسر وليست جزءاً من مسؤولية الإنهيار. وهي بذلك تضرب عرض الحائط أبسط القواعد الرأسمالية التي بنت المصارف مجدها عليها، وتغنت بها طيلة عقود وأجيال. ففي النظام الرأسمالي قاعدة بسيطة وبديهية تطبقها حتى أكثر الأنظمة توحشاً في ليبراليتها، وهي أن المصارف تعيد تكوين رساميلها لخسائر أقل بكثير من تضييع ودائع عملائها، فكيف بالأحرى اذا تعلق الأمر بعشرات المليارات التي غامرت المصارف واستثمرت معظمها في مصرف لبنان المعروف أنه يتلاعب بحساباته منذ ما بعد مؤتمر “باريس 2” في العام 2002 ، عندما ابتدع بند “موجودات أخرى” في ميزانيته لإخفاء وسخ خسارته تحت السجادة. وغضت المصارف النظر عن الألاعيب والهندسات وخطورتها طمعاً بالفوائد التي كانت تجنيها، والأرباح التي توزعها على مساهميها، والزيادات التي تعزز فيها رساميلها.
فالمودعون وضعوا أموالهم في المصارف، ولم يقرضوا الدولة. أما البنوك فغامرت واستثمرت تلك الأموال في سندات اليوروبوندز (10 مليارات دولار هي القيمة الإسمية الحالية لتلك السندات في دفاتر المصارف) واستثمرت في شهادات ايداع بالبنك المركزي بأكثر من 80 مليار دولار. غامرت برغم علمها بكل المخاطر التي كانت تشير إليها تقارير مؤسسات التصنيف الإئتماني الدولية، وتقارير أخرى لصندوق النقد والبنك الدوليين، لا سيما مخاطر ارتفاع العجوزات في الميزانية العامة للدولة والتي كانت تتطلب اقتراضاً متفاقماً على الدوام. فمنذ العام 2000 تجاوزت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي 100%، وهي نسبة الخطر الواجب الوقوف عندها وعدم تجاوزها كي لا تبلغ البلاد حافة الانهيار. فاذا بالمصارف تسهم في تغذيتها، بسندات الليرة والدولار، طمعاً بالفائدة، حتى وصلت تلك النسبة الى نحو 180%، في ما يشبه الإصرار على منح المدمن كوكاييناً لمجرد الربح منه!
***
وبعد المسؤولية التي تقع على عاتق المصارف تأتي مسؤولية المودع الكبير، فالصغير محفوظ حقه حتى 100 ألف دولار. أما صاحب الملايين أو عشرات أو مئات ملايين الدولارات فليس مدخراً عادياً. انه مستثمر محترف يضع أمواله في استثمارات يفترض انه يعرف مخاطرها. وهذه عادة اللاهث وراء الفوائد العالية لمضاعفة ثروته بسرعة، أو أنه يخفي أمواله في بلد السرية المصرفية لأن فيها “إن”.. وبالتالي يعلم ماهية المخاطر التي يركبها.
***
جمعية المصارف ترفض ما سبق جملةً وتفصيلاً، وتمارس الضغوط على نافذين من سياسيين وروحيين وأمنيين وقضاة.. لعلمها بما بينها وبينهم من مصالح متشابكة، وليقينها أن الطبقة السياسية لا تريد تدقيقاً جنائياً حقيقياً في حسابات مصرف لبنان وإدارات الدولة الأخرى، ولا في ميزانيات البنوك وقروضها وودائعها، ولا هي بوارد إعلاء سيف المحاسبة. لا بل يميل السياسيون المتسلطون والفاسدون الى العفو المالي العام أسوة بالعفو العام الذي أقروه لأنفسهم بعد انتهاء الحرب الأهلية. وهذا ما يحاولون تمريره، بشكل أو بآخر، في التشريعات التي طلب بعضها صندوق النقد الدولي لا سيما مشاريع قوانين إعادة هيكلة المصارف والكابيتال كونترول وتعديل قانون السرية المصرفية. وإذا أقرت التشريعات وفقاً للأصول المُعوّل عليها للمحاسبة يبقى أن لا إصلاح للقضاء، فتنضم التشريعات الجديدة الى أخرى قديمة لا يمكن تطبيقها بفعل فساد قُضاة أو رخاوتهم أمام الضغوطات أو أحابيلهم في تكييف القضايا كما يحلو للسياسي أو المصرفي تكييفها.
***
يريد أصحاب المصارف تحميل الدولة “الجمل بما حمل”، ويطلعون منها “متل الشعرة من العجين”، من دون خسارة رساميلهم ولا أصولهم. وفق هذا المخطط التنصلي يضعون المودعين في مواجهة الدولة التي عليها تسخير أصولها ومواردها في مدى جيلين أو ثلاثة لرد تلك الودائع لأصحابها!
البلاد عالقة في عنق الزجاجة كي لا يخسر المصرفيون ولا كبار المودعين، وكي لا يواجه السياسيون المحاسبة. لا يريدون شطب 60 مليار دولار، ولا شطب رساميل المصارف، وهنا نتحدث عن مصالح بالدولار لآلاف قليلة من الناس. في المقابل لا يعبأ هؤلاء بتبخر 30 مليار دولار من قيمة الودائع بالليرة، ولا يكترثون لهبوط قيم تعويضات نهاية الخدمة في الضمان الاجتماعي وصناديق المهن الحرة وصناديق التعاضد الأخرى، والتي فقدت جميعها بين 7 و8 مليارات دولار من قيمتها بفعل هبوط سعر الصرف، ولا يلتفتون الى خسارة أصابت رواتب الليرة 95% من قيمتها الشرائية، ولا إلى هبوط قيم الأصول المختلفة بين 60 و90%. بأنانيتهم يعطلون إطلاق خطة اقتصادية لعموم البلد تعيد الاقتصاد الى سكة التعافي والنمو، وتؤمن فرص العمل لأبنائه المتهافتين الآن على الهجرة بكثافة قلّ نظيرها حتى أيام الحرب الأهلية.
لكأن لسان حال المصرفيين: “نحن أولى، وليأت من بعدنا الطوفان”.. متكلين على سياسيين لا يقيمون وزناً إلا لمصالحهم، وعلى حاكم لمصرف لبنان لا يريد اقتراباً من مغارته على الأقل حتى انتهاء ولايته.. بعد ذلك ربما الطوفان يأتي فعلاً، لكن من يضمن أنه لن يجرف الجميع وعلى رأسهم المصرفيين!