بغداد وبيروت معاً.. فوضى أم تسوية؟

الملفان اللبناني والعراقي أكثر ترابطاً من أي وقت مضى. تنوع سياسي وطائفي. صيغة سياسية هشة ورجراجة. حضور إيران والولايات المتحدة في البلدين هو حضور وازن ولو أنه غير متوازن. حضور النفوذ الإقليمي. ثمة قوى محلية تحاول التفلت من إحدى القبضتين الإيرانية والأميركية أو من الإثنتين معاً.

تزامن حراكا بيروت وبغداد في خريف العام 2019. في العراق، سقط مئات الشهداء وآلاف الجرحى، فضلاً عن عشرات المفقودين. في بيروت، سقط خمسة شهداء ومئات الجرحى. إستقال سعد الحريري ولم يكد يمضي شهر حتى إستقال عادل عبد المهدي. ولدت حكومة حسان دياب في بيروت ومن بعدها بأشهر قليلة ولدت حكومة مصطفى الكاظمي في بغداد. سقطت حكومة دياب غداة إنفجار مرفأ بيروت. جرت الإنتخابات النيابية في لبنان في الربيع الماضي وما زالت حكومة نجيب ميقاتي تتولى تصريف الأعمال. جرت الإنتخابات النيابية في العراق في خريف العام 2021، وما زالت حكومة الكاظمي تُصرّف الأعمال حتى يومنا هذا. لبغداد أسبقية الفراغ الرئاسي ولبيروت أن تشهد إرتفاع حظوظ هذا الإحتمال على ما عداه.. ولكن من يسبق الآخر في الذهاب إلى التسوية أو الفوضى؟

لنعد إلى العام 2010. في نهاية هذه السنة، وعلى مسافة أشهر من إنتخابات برلمانية عراقية شابتها الكثير من الشوائب، أفتت المحكمة الإتحادية “سياسياً” بكيفية تحديد الكتلة الأكبر أو الأكثر عدداً. فتوى أطاحت بأياد علاوي لمصلحة نوري المالكي. لم تمضِ أسابيع قليلة حتى سقط سعد الحريري في لبنان. إرتبك بشار الأسد. سقط إتفاق “السين السين” بقرار إيراني غير قابل للطعن. كان وصول المالكي في بغداد ونجيب ميقاتي في بيروت عنوان مرحلة سياسية جديدة: المواجهة.

عقد من الزمن كان كفيلاً بالقضاء على وظيفتين حيويتين للبنان: الساحة المتنفس والدور. الأخطر مع فقدانهما أن العالم بات ينأى بنفسه عن لبنان. من محمد بن سلمان إلى محمد السادس. لولا الضغط الدولي لما أمكن إنتاج حاضنة عربية ثلاثية مصرية ـ أردنية ـ عراقية

جاءت تطورات “الربيع العربي” ليصبح الإشتباك أكثر ضراوة ولا يقتصر على محور الرياض ـ طهران. إختلط الحابل بالنابل وتمددت النيران في كل الإتجاهات. في هذا الخضم تحديداً، وعدا عن الدلالات الإيرانية لقرار إقصاء العلاوي ـ الحريري، فإن لبنان فقد أول وظائفه الجيوسياسية. إنتهت الساحة ـ المتنفس. صارت الساحات ممتدة من مشرق العرب إلى مغربهم ولا سيما يمنهم غير السعيد.

في لحظة 17 تشرين/أكتوبر 2019، سقطت الوظيفة الثانية للبنان. تبدّد المركز المالي والمصرفي وكل ما إنعقد نصابه معه للبنان. تردت الخدمات الفندقية والإستشفائية وتراجع دور الجامعات. عقد من الزمن كان كفيلاً بالقضاء على وظيفتين حيويتين للبنان: الساحة المتنفس والدور. الأخطر مع فقدانهما أن العالم بات ينأى بنفسه عن لبنان. من محمد بن سلمان إلى محمد السادس. لولا الضغط الدولي لما أمكن إنتاج حاضنة عربية ثلاثية مصرية ـ أردنية ـ عراقية. تصوّروا مثلاً أن سفير الفاتيكان جوزف سبيتري الذي كان حتى الأمس القريب من أكثر السفراء حماسة للبنان وإستقراره، تبلغ في الأمس القريب قرار إنتقاله من بيروت في نهاية أيلول/سبتمبر المقبل، إلى مركز دبلوماسي جديد. هذا يعني أن بابا الفاتيكان الذي كان يُمني نفسه بزيارة لبنان في حزيران/يونيو الماضي، غضّ الطرف حالياً ليس عن الزيارة بل عن لبنان. القرار له دلالات كبيرة، كونه يأتي في خضم الإستحقاق الرئاسي.

حتماً سيتسنى للسفير الفاتيكاني ـ قبل أن يُغادرنا ـ أن يشهد لإلتئام البرلمان اللبناني في شهر أيلول/سبتمبر المقبل، في أول جلسة إنتخابية رئاسية ضمن المهلة الدستورية. معظم التقديرات تشي بأن الجلسة الأولى ستكون مكتملة النصاب دستورياً (أي أكثر من الثلثين ـ 86 نائباً ـ سيشاركون فيها). هذا يعني أن تحديد الموعد سيُطلق الصفارة الرئاسية أولاً. كشف مسار التعامل مع الدعوة بالحضور أو الغياب ثانياً. البدء بإعلان أسماء المرشحين ثالثاً. أول هؤلاء هو رئيس تيار المردة سليمان فرنجية الذي لن يكون قادراً على حصاد ثلثي الأصوات من الجلسة الأولى، وبالتالي يصبح رهانه معقوداً على الجلسة الثانية إذا توفر نصابها الدستوري، فيكون حصوله على 65 صوتاً (النصف +1) كافياً للفوز، لكن الأمر ليس سهلاً، طالما أن معادلة النصاب ستدفع بالجميع إلى مربع المرشح التوافقي. المرشح الثاني هو ميشال معوض. أقله، هذا ما يُفكر به رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. زغرتاوي مقابل زغرتاوي. وكل واحد منهما لم يتمكن من الفوز سوى بمقعدين نيابيين في الدائرة نفسها!

في هذه الأثناء، تزدحم صفوف المرشحين الجالسين في مقاعد الإحتياط، وأبرزهم ـ حتى الآن ـ مرشح الفرنسيين سليم ميشال إده. هؤلاء يُمنون أنفسهم بخيار التوافق الحتمي الذي سيجعل كل اللاعبين المحليين والخارجيين يختارون واحداً منهم.. ولا بأس في أن يجري تقطيع الوقت بحفلة علاقات عامة لا تستثني أحداً ولا سيما حزب الله الذي لم تجتمع قيادته حتى الآن، لمناقشة الإستحقاق الرئاسي وتحديد الخيارات المطروحة، في إنتظار تحديد موعد الجلسة الأولى وعندها “لكل حادث حديث”.

تشير المعلومات إلى أن الوسطاء الأوروبيين تحركوا مجدداً من خلال القناة القطرية وتم تبادل نصوص جديدة بين الجانبين الأميركي والإيراني. المناخات الإيجابية في واشنطن يقابلها حذر إيراني كبير حتى الآن.. وهذا يعني أن قمة جدة فشلت فشلاً ذريعاً!

يمكن القول بوجود مسار زمني عبارة عن ثلاثة أشهر، يبدأ في الأول من آب/أغسطس وينتهي مع خروج العماد ميشال عون من القصر الجمهوري في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل (النقاش يتمحور حالياً حول خروج “الجنرال” عند الثانية عشرة ظهراً أو الثانية عشرة ليلاً). ضمن هذا الفاصل الزمني، ثمة فرص معظمها خارجية.

إقرأ على موقع 180  خارطة الصراع في شرق الفرات: اللاعبون الدوليون والإقليميون

أول الفرص وأهمها بين واشنطن وطهران. لماذا؟

ثمة رواية دبلوماسية شبه مؤكدة أن الرئيس الأميركي جو بايدن أبلغ المشاركين في قمة جدة بأن عدم التجاوب مع مطالب بلاده في مجال الطاقة (زيادة الإنتاج وخفض الأسعار) سيجعل إدارته تمضي قُدماً في إتجاه إعادة تعويم الإتفاق النووي. كانت ردة فعل الخليجيين ـ قبل القمة وبعدها ـ الذهاب أبعد مما يتصوّر الأميركيون: نحن سننفتح على إيران وسنحاول تنظيم تفاهمات تتعلق بأمن الخليج وملفات المنطقة. وبالفعل، تشير المعلومات إلى أن الوسطاء الأوروبيين تحركوا مجدداً من خلال القناة القطرية وتم تبادل نصوص جديدة بين الجانبين الأميركي والإيراني. المناخات الإيجابية في واشنطن يقابلها حذر إيراني كبير حتى الآن.. وهذا يعني أن قمة جدة فشلت فشلاً ذريعاً!

ثاني الفرص هي سعودية ـ إيرانية، لماذا؟

فيما كانت بغداد تستعد لإستضافة الجولة السادسة من الحوار السعودي الإيراني الشهر المقبل، على مستوى وزراء خارجية البلدين، وبحضور مصطفى الكاظمي، لكن فجأة وقعت الواقعة.

يُحيلنا الملف السعودي ـ الإيراني إلى ما يجري في العراق منذ أيام. وهذا هو سبب الربط الذي جعل مقدمة هذه المقالة عراقية ـ لبنانية.

لم تمضِ أكثر من عشرة أيام على قمة جدة، حتى كان هناك من يحسم القرار داخل “الإطار التنسيقي” في العراق: “الدعوي” محمد شيّاع السوداني هو مرشحنا لرئاسة الحكومة.

قيل على الفور إن الترشيح رسالة إيرانية بإمتياز لكل من يعنيهم الأمر داخل العراق وخارجه. من الواضح أن مشاركة العراق في قمة جدة، برغم أنها كانت منسقة بكل تفاصيلها معهم، لم يكن وقعها إيجابياً في طهران.

لو جمعنا المسارين الأميركي ـ الإيراني والسعودي ـ الإيراني، يمكن للتحليل أن يأخذ مداه. تضع طهران في الحسبان إحتمال إكتمال عناصر الإتفاق النووي، قبل الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، لكنها قررت أن ترسم سقفاً لمطالبها يمنعها من تجاوز بعض الخطوط الحمر. هل حصولها على إتفاق على مسافة سنتين من إنتهاء ولاية بايدن وتحوله “بطة عرجاء” بعد خسارته المُحتمة للإنتخابات النصفية المقبلة أفضل أم إنتظار ست سنوات جديدة من الحصار والعقوبات، أي إلى ما بعد إنتهاء ولاية الرئيس الجمهوري المقبل في إنتخابات العام 2024؟

حتماً يشتهي الإيرانيون الإحتمال الأول، إلا أنهم يرسمون إستراتيجيتهم وفق أسوأ الإحتمالات. هذا ما جعلهم يُرجّحون كفة المالكي ـ ميقاتي قبل أكثر من عقد من الزمن، وهذا ما يجعلهم اليوم يتشددون أكثر في معظم ساحات الإقليم.. ولو أن إحتمالات التسوية قائمة..

بطبيعة الحال، كان بإمكان الإيرانيين أن يكونوا أكثر تحوطاً وسلاسةً، بالمبادرة إلى التشاور مع السيد مقتدى الصدر ـ ولو من خلال قنوات خلفية ـ لكن حصل العكس. كان الأخير قد أرسل ثلاث رسائل إلى “الإطار” وطهران. الأولى؛ في إحدى صلوات الجمعة وما رافقها من تحشيد كبير. الثانية، في إقتحام البرلمان والمنطقة الخضراء مرتين. الثالثة؛ قرار إقتحام مقر مجلس القضاء الاعلى والمحكمة الإتحادية في “التوقيت المناسب”، إحتجاجاً على تجاهل القضاء لكل التسريبات الأخيرة لنوري المالكي (ويكيليكس العراق).

عندما وافق محمد بن سلمان على إنعقاد الجولة الأولى من الحوار مع الإيرانيين في بغداد، إشترط أن يكون الكاظمي هو الضامن. إذا طار “الضامن” من يضمن أن بن سلمان سيوافق على حوار على أرض بغداد برعاية حزب الدعوة و”الإطار التنسيقي”، فهل الرسالة الإيرانية مقصودة ومدروسة؟

من الواضح أن الصدر، وهو الذي يملك القدرة على تحريك كتلة مليونية في الشارع يتصرف على عادته بكثير من الإرتجال والشعبوية وهو يريد القول لخصومه الداخليين وللإيرانيين “لا تجربوني.. أنا ملك الشارع”!

وبدل أن تؤدي زيارة قائد “قوة القدس” الجنرال إسماعيل قاآني إلى تبريد الموقف، زادته حماوة إلى حد خروجه عن السيطرة. استشعر الصدر أن الضيف الإيراني جاء للمساهمة في تثبيت محمد شيّاع السوداني وصولاً إلى تشكيل حكومة عراقية جديدة، (يجب أن يسبقها إنتخاب رئيس عراقي جديد هو من يُكلّف رئيس الحكومة حسب الدستور العراقي).

ومن يُدقق في المعطيات التي حملها قاآني إلى بغداد، ولا سيما بعد إجتماعه بمصطفى الكاظمي، وأيضاً في موقف قيادة حزب الله في لبنان من الحدث العراقي، يطرح السؤال الآتي: هل ما كانت تنوي طهران الإقدام عليه في بغداد يتصل برؤية سياسية ما للإقليم؟ وهل سنشهد تشدداً في باقي الساحات من صنعاء (تمديد الهدنة) إلى بيروت (ملف ترسيم الحدود البحرية نموذجاً) وسوريا (ملفا الشمال والجنوب)؟

عندما وافق محمد بن سلمان على إنعقاد الجولة الأولى من الحوار مع الإيرانيين في بغداد، إشترط أن يكون الكاظمي هو الضامن. إذا طار “الضامن” من يضمن أن بن سلمان سيوافق على حوار على أرض بغداد برعاية حزب الدعوة و”الإطار التنسيقي”، فهل الرسالة الإيرانية مقصودة ومدروسة؟

في المنطقة فرصة للتسوية وفرصة للإحتدام. الفرصتان متساويتان.. من يسبق الآخر.. لننتظر مشهد بغداد الذي ينذر بحرب أهلية شيعية شيعية لا تُذر ولا تُبقي إلا إذا نجحت طهران بسحب فتيل الإنفجار.. ولنترقب المشهد الرئاسي اللبناني. قد يكون الفراغ هو الممر الإلزامي لشطب مرشحين وتقدم مرشحين آخرين أبرزهم العسكر ولاعبو الإحتياط.. للبحث صلة.

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الحرب الباردة تشتعل مُجدداً