لم تُغيّر زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الشرق الأوسط، في تموز/يوليو الماضي السياسة الأميركية في المنطقة بشيء. فهي كانت تهدف بالأساس إلى خفض أسعار الطاقة في أعقاب الحرب في أوكرانيا التي تتهدد الاقتصاد العالمي، ولذلك تجاهل بايدن المسألة الفلسطينية، تاركاً الشعب الفلسطيني مُهمّشاً أكثر من أيّ وقت مضى.
لم يضع بايدن تنازلات سلفه دونالد ترامب لإسرائيل موضع تساؤل، ولم تلقَ المستوطنات الإسرائيلية أيّ إدانة رسمية. ما زالت القنصلية الأميركية في القدس الشرقية مغلقةً، وهذا يُعتبر تأييد للمطالبة الإسرائيلية بهذه المدينة المُتنازع عليها. كما لا يزال مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن مُغلقاً. ورغم أنّ الولايات المتحدة مُلتزمة بدعم حلّ الدولتين، لكنّها لم تعرض إطاراً لأي مفاوضات جديدة. صحيح أن بايدن أعاد المساعدات إلى الفلسطينيين، بيد أنّ ذلك سيُتيح فقط البقاء للسلطة الفلسطينية الحالية؛ الفاسدة وعديمة الفعالية.
لطالما كانت هذه اللامبالاة جزءاً من السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة، إلا أنّها تعكس اليوم التراجع الكبير للقضية الفلسطينية في العالم العربي. إذ تغيّر إدراك المسألة الفلسطينية على مدار العقد الأخير، بينما كان النظام الإقليمي في العالم العربي يتغيّر. لكن الرأي العام في كامل المنطقة يبقى مؤيداً للفلسطينيين بقوّة، ويبدو تأييده لـ”اتفاقات أبراهام” والتطبيع مع إسرائيل فاتراً على أقلّ تقدير. لكن التضامن لا يعني دوماً التعبئة.
لم يعد للقضية الفلسطينية القدر نفسه من التأثير على السياسات الوطنية مقارنةً بالذي كان في الماضي. إيديولوجياً، تكبّد الفلسطينيون ثمن تراجع الإيديولوجيات الوحدوية عربياً، سواء بما يخص القومية العربية أو الإسلام السياسي، والتي كانت تحثّ على دعم تقرير الفلسطينيين لمصيرهم. بالإضافة إلى ذلك، على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، فإنّ عدّة دول عانت؛ منذ بدء انتفاضات الربيع العربي؛ من نزاعات أو عمليات انتقال سياسي مضطربة. وصارت مجتمعات الدول العربية تصبّ اهتمامها أكثر على النزاعات المحلية لأجل الكرامة والعدالة، بدلاً من الشواغل الإقليمية على غرار فلسطين.
اجتماعياً، حال كذلك القمع وتفكك عدّة مجتمعات مدنية دون الحشد جماهيرياً في وجه الاعتداءات الإسرائيلية. بالتالي، تراجعت المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين من حيث عددها وإتساع نطاقها، باستثناء الأردن ربما نظراً إلى قربه جغرافياً. كما بات الرأي العام بالكاد يتناول أحداثاً كانت في السابق تثير ردود فعل شعبية قوية، على غرار تحليق مسيّرات تابعة إلى حزب الله فوق إسرائيل في الآونة الأخيرة. أخيراً، على الصعيد الجيوسياسي، لم تعد فلسطين تنظّم الأجندة الإقليمية، لأنّه لم يعد ثمة وجود لهكذا أجندة! فالنظام العربي القديم، القائم على توافق مُستدام تتولى الجامعة العربية تنسيقه، قد انهار عملياً.
تحفيز على التطبيع
رغم ذلك، فإنّ زمن التطبيع الجديد، المُتجسّد في “اتفاقات أبراهام”، لا يمثّل تقاطع مصالح عرضي بقدر ما هو هيكلة جديدة للديناميكيات الإقليمية. فقد برز تحفيز جديد على التطبيع في كلّ مرحلة.
رغم اللامبالاة الأميركية.. وتراجع الإهتمام الرسمي العربي.. يبقى الرأي العام في كامل المنطقة مؤيداً للفلسطينيين بقوّة.. ورافضاً لـ”اتفاقات أبراهام” والتطبيع مع إسرائيل
جاء الزخم الأول نحو التطبيع من المحور المُناهض للثورات. فبدفع من السعودية والإمارات خلال انتفاضات الربيع العربي، سعت الثورة المُضادة إلى إفراغ كافة الإيديولوجيات من معانيها؛ خصوصاً تلك المتعلقة بالقوميّة والإسلام السياسي العربيين، وكذلك الليبرالية والنشاط الديموقراطي. وكان هدفها تحصين الأنظمة الاستبدادية عبر تجفيف أيّ منبع للتعبئة الشعبية.
عقب ذلك، جاء الزخم الثاني نحو التطبيع من الرغبة في الاستجابة للسياسة الأميركية الخارجية في ظلّ إدارة ترامب. إذ أتاحت “صفقة القرن” فرصةً لحلفاء الولايات المتحدة القُدامى لتعزيز مكانتهم الجيوسياسية، وللحلفاء الجُدد لكسب نفوذ في واشنطن عبر إبراز مواقفهم المؤيدة لإسرائيل.
منذ رحيل ترامب دخلنا في مرحلة ثالثة، حيث تخلّت الدول العربية عن التزاماتها وتحالفاتها القديمة، وأخذت تسعى في ظلّ هيمنة أميركية متقهقرة، إلى تحقيق مصالحها الخاصة. إنّ بلّورة سلام منفصل مع إسرائيل تعود بالفائدة على كلّ “مُطبِّع” بصورة مختلفة، لكن أياً من هذه الفوائد لا ينبع فعلياً من الوعود السامية لـ”اتفاقات أبراهام” التي عليها، وفق واضعيها، أن تُحدِث موجة غير مسبوقة من الاندماج الاقتصادي والإزدهار في كافة أرجاء المنطقة.
في الخليج، مثلاً، ترى الإمارات في إسرائيل حليفاً في إطار الترتيبات الأمنية المُتبادلة والهادفة إلى مواجهة إيران التي ينظر إليها البلدان على أنّها تشكّل تهديداً وجودياً. كما أنّ الإمارات تعتبر أيضاً أنّ الصلات التكنولوجية والمالية الإسرائيلية حيويّة من أجل النفاذ الاقتصادي إلى إفريقيا. من جهته، يرى المغرب في إسرائيل شريكاً مفيداً في وجه تقدّم الجزائر في بعض القطاعات العسكرية. أما المسئولون السودانيون، فقد قفزوا في قطار التطبيع لأنّه أتاح حذف البلاد من لائحة الدول الداعمة للإرهاب، مانحاً إياهم إمكانية الانفتاح على التعاون الاقتصادي والعسكري مع الغرب.
نهاية التحالفات الدائمة
لم يتم إغفال المسألة الفلسطينية في إطار توافق إقليمي جديد، وإنّما لم يعد ثمةّ نظام إقليمي. فالتحالفات التقليدية جرى استبدالها بمشهد دائم التبدّل من النزاعات والتكتلات الظرفية، وكلّ دولة تنظر إلى النظام الإقليمي على أنّه بمثابة مائدة كبيرة، وأنه بمقدورها أن تأكل من هذه المائدة وتتخذ مواقف متناقضة. باتت المحاور الدائمة أقل من التحالفات المؤقتة. ونماذج التعاون هذه نفعية، لا تقوم على توافق إيديولوجي، وإنّما على تقاطعات مؤقتة لمصالح مُتماسة.
التطبيع الجديد لا يمثّل تقاطع مصالح عرضي بقدر ما هو هيكلة للديناميكيات الإقليمية: حلفاء أميركا القُدامى يريدون تعزيز مكانتهم الجيوسياسية، والجُدد يريدون كسب نفوذ في واشطن عبر إبراز مواقفهم المؤيدة لإسرائيل
على سبيل المثال، تتعاون تركيا مع روسيا لتسهيل عبور الحبوب عبر البحر الأسود، ولكنّها وافقت أيضاً، بعد التماسات أميركية متكررة، بالسماح لفنلندا والسويد الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. كذلك، تشارك تركيا في لقاءات ثُلاثية مع إيران وروسيا، في الوقت الذي تبيع فيه طائرات مسيّرة عسكرية إلى أوكرانيا. يظلّ المغرب من جهته قريباً من الغرب في توجهاته الاقتصادية والسياسية، ولكنّ الرباط اختارت عدم إدانة روسيا لغزوها أوكرانيا. كما أنّ “اللعبة الكبرى” الجديدة حول مكامن الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط انبثقت عنها شراكات جديدة وتوترات بين ليبيا، وتركيا، وقبرص، ومصر، وإسرائيل، واليونان. ويجري التباحث في شأن هذه التوترات بمعزل عن الضغوط الإقليمية الأوسع.
هذه البيئة تفسر أيضاً سبب عدم موافقة دولتين عربيتين خليجيتين على التطبيع مع إسرائيل: السعودية وقطر. بالنسبة إلى السعودية، فإن العائق الأساسي للتطبيع هو وصايتها على الأماكن المقدّسة في مكة والمدينة المنوّرة. فالتسامح إزاء التوسع الاستيطاني لإسرائيل في فلسطين سيعني التخلي رمزياً عن القدس التي تؤوي “ثالث الحرمين الشريفين”. ولا تريد قطر التطبيع للاحتفاظ بدورها كوسيط مُحايد، مع حفظ نفوذها عبر قوتها الناعمة. فالتطبيع سيحرم الدوحة من موقعها المتميز، فوق خلافات النزاعات الإقليمية.
في الوقت الذي تتكاثر فيه هذه التشكيلات الجيوسياسية؛ في أرجاء المنطقة؛ وتصير أكثر تعقيداً، نشأ في إسرائيل تقسيم فعّال للعمل بين الدولة والمستوطنين. فالمؤسسة السياسية الإسرائيلية تُطبّع العلاقات مع أكبر عدد ممكن من الدول العربية، وتثبت بذلك مشروع الدولة “اليهودية” الوحيدة كأمر واقع. وفي الأثناء، يقوم المستوطنون بعمليات تطهير عرقي ويواصلون احتلال وقضم الأراضي الفلسطينية. ولأنّ هؤلاء المستوطنين يستطيعون التحرك من دون الحاجة لتوجيهات رسمية للدولة، فيمكن للحكومة الإسرائيلية رسمياً نفي دعمها لتلك الممارسات.
من جانبه، يقدّم المجتمع الدولي الدعم لهذا الترتيب من خلال إبقائه رأس السلطة الفلسطينية المُحتضرة فوق سطح الماء بقليل. وكنتيجة نهائية يبرز نظام شبيه بـ”الأبارتايد”، تعمل فيه الدولة والمجتمع الإسرائيلي على تصنيف الفلسطينيين وتفرقتهم وإدارتهم كمجرّد أفراد. صحيح أن الأنظمة العربية تُندّد باحتلال فلسطين وعمليات الاستيطان، ولكنه تنديد خجول. وهي أيضاً تلعب على حبلين: إذ يبحث المسئولون عن المنافع المادية التي يُمكن جنيها من اتفاق سلام مع إسرائيل، تزامناً مع تعزيز الضغط على المؤيدين للفلسطينيين في المجتمعات المدنية. رغم ذلك، يتهدد هذه الاستراتيجية تطوران جديدان.
مسألة المقدّس
بدايةً، تطورت الأزمة الفلسطينية لتتحوّل إلى مسألة تتعلّق بحقوق الإنسان، بدلاً من كونها نضالاً من أجل التحرّر الوطني. وهي تدخل في إطار دفاع عالمي عن الحقوق المدنية والحق في الكرامة. وبما أنّ حلّ الدولتين جُعِل مستحيلاً بصورة منهجية على يد اليمين الإسرائيلي، فإنّ الإطار المرجعي الأساسي للفلسطينيين هو احترام حقوقهم في ظلّ الهيمنة الإسرائيلية. ويلقي الاستنكار الذي أثاره مقتل الصحافية الأميركية – الفلسطينية شيرين أبو عاقلة الضوء على مدى ذاك التطور. كذلك الأمر بالنسبة إلى موجة الدعم الدولي لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) التي تُقرّب النضال من أجل فلسطين من حملة مناهضة الأبارتايد في جنوب إفريقيا.
السعودية ترفض التطبيع حتى لا تخسر وصايتها على الأماكن المقدّسة في مكة والمدينة المنوّرة.. وقطر حتى تحفظ نفوذها الإقليمي عبر قوتها الناعمة ولا تخسر دورها كوسيط مُحايد
ثانياً، وبعد الأحداث الأخيرة التي شهدها حرم المسجد الأقصى، أصبح التركيز أكثر على البُعد الديني للنزاع حول القدس كمدينة مقدّسة. فمشكلة القدس لم تعد تعني بصورة حصرية موقعها كعاصمة أبدية لإسرائيل أو كعاصمة مستقبلية لفلسطين. بل صارت المسألة تتمحور حول المسجد الأقصى، بما في ذلك قبّة الصخرة. وقد كان هذا البُعد الروحاني شديد الحساسية الذي لا يهمّ الفلسطينيين فقط، بل المسلمين ككلّ، في قلب فشل مفاوضات “كامب ديفيد” في عام 2001. ولئن تم تغييبه في السنوات الأخيرة، فقد عاد بقوّة خلال الفترة الأخيرة مع الاستفزازات المتكرّرة للحجاج اليهود حول ما يُسمّونه “جبل الهيكل”.
في الوقت الذي يودّ فيه بعض السياسيين الإسرائيليين تأمين القدس في أسرع وقت، يراعي آخرون هذا البُعد المقدّس ويفضّلون بالتالي عدم احتلال المدينة إلا على مراحل، بغية تقليص احتمال اندلاع ثورة بدافع ديني. غير أنّ هؤلاء يقفون على النقيض من شركائهم؛ أي المستوطنين؛ الذين لا يتصرّفون بمنطق سياسي وإنّما بآخر ديني؛ بل مسيحانيّ(**)؛ ويسعون، بحماس ديني، وراء تحقيق ما يسمونه بـ:حلم يهودا الكبرى”.
هذه الإزدواجية بين السياسي والتديّن يُقلق الأنظمة العربية. فهم يُدركون المنطق الاستراتيجي القائم في استيلاء إسرائيل على أراضٍ فلسطينية، لكنهم عاجزون عن التعامل مع الصدمة الارتدادية الدينية التي يتسبّب بها احتلال القدس، وعاجزون أيضاً عن تقبل تحويل المسألة الفلسطينية إلى حملة عالمية للحقوق المدنية. تفسّر الخشيةَ من الصدمة الارتدادية تردُّدَ السعودية أمام التطبيع، إذ ليس بمقدورها التضحية بالقدس وفي الوقت نفسه الإدعاء بحماية مكّة والمدينة باسم الأمة الإسلامية.
لقد عانت فلسطين، بلا أدنى شك، من إنتكاسة شديدة في هذه المرحلة الجديدة. ورُغم ذلك، لن تتبدد القضية. الفلسطينيون في مأزق اليوم. غير أنّ التاريخ يُظهر أنّ مطالب التحرّر تبقى وتصمد، حتى في وجه استعمار لا يرحم. فإيرلندا الشمالية، مثلاً، نشأت كدولة مستقلة رغم الاستعمار البريطاني الذي دام أكثر من 500 عام. ومع ذلك، لم يحل اتفاق الجُمعة العظيمة كل التوتر الديني والقومي.
وبالمثل، ستستمر القضية الفلسطينية. فالتحرّر تطلّع إنساني أساسي، يصمد أمام كافة الضغوط الجيوسياسية والدينية التي تحكمه حالياً.
– بالتزامن مع “أوريان 21“
(*) هشام علوي، باحث مشارك في جامعة “هارفرد”، ورئيس “مؤسسة هشام العلوي لأبحاث العلوم الاجتماعية حول المغرب العربي والشرق الأوسط”.
(**) “المسيحاني” تعني المتعلق بالكائن المولود أو الذي سيولد يهودياً والذي سيغير العالم. وتعني أيضاً الاعتقاد بأنه سيكون هناك تغيير كامل في النظام الاجتماعي في بلد ما أو في العالم عندما تسيطر اليهودية.