الأتراك وفلسطين.. عدم الإكتراث فضيلة!

يوم زرتُ اسطنبول للمرة الأولى، سألني حامل حقائبي في المطار عن مكان قدومي، فقلت له بالتركية "من لبنان"، وكنت قد تعلمت بضع كلمات من الصنف الكثير الاستخدام، قبل مجيئي إلى تركيا عام 2016. وما كان منه إلاّ أن أجابني: "آه، من حيفا. أهلاً".

لم أفهم كيف قرّر هذا الرجل الأربعيني أن يربط بين دولة إسمها لبنان وبين مدينة حيفا الفلسطينية. “عاقبتهُ” بإكرامية زهيدة، فيما جلّ ما اكترثت له هو أن يساعدني على وضع حقائبي على عربته الجرّارة ومن ثم نقلها إلى سيّارة التاكسي.

وكأي زائر غريب قادم للمرة الأولى، يبدو التاكسي هو الوسيلة الأكثر ضمانة لإيصال الراكب إلى مقصده. بعد حين من الزمن، يُصبح التاكسي وسيلة للرفاهية، وتُفتح الشهية لاعتياد ركوب الميترو. هناك، في داخل تلك العِلب الحديدية الباردة، تسمع هذا أو ذاك يتكلمون في شؤون السياسة أو في شؤون عامة، أو حتى يُغرَمون ببعضهم البعض. أي نشاط غير الكلام في السياسة أو سرقة القبلات السريعة يمكنه تدفئة تلك العلب الباردة أصلاً؟

في شبكة مترو اسطنبول، اكتشفتُ سريعاً أن معظم الأتراك العاديين لا يفقهون شيئاً خارج بلادهم. مثلاً؛ للكثيرين منهم، لبنان وليبيا هما نفس الدولة، ويقعان في أفريقيا أو قرب الهند. أما فلسطين فتقع على حدود السعودية، فيما القدس، لبعضهم، تقع هناك أيضاً قرب المدينة المنوّرة ومكّة.

لكل ذلك أسبابه التربوية واللغوية والسياسية والعقائدية، لكن يُمكنك أن تستثني من هذا الجهل تُجارُ المدن الكبرى، المتآلفون مع السياح وأخبارهم.. وحتماً عملتهم الصعبة.

لا تُركّز مناهج التربية والتعليم التركية على الأحداث التي جرت وتجري خارج تركيا. مادة الجغرافيا في المدارس التركية تُعلِّم جغرافية تركيا بشكل شبه حصري، فيما مادة التاريخ العامة هي مادة للتاريخ التركي فقط، منذ سكن قبائل التُرك غرب الصين وصولاً إلى التاريخ الحديث، مروراً بهجرتهم إلى البحر المتوسط وقيامة السلطنة العثمانية والجمهورية الحالية. هذه الوطنية الزائدة وظيفتها تنشئة جيل يؤمن بالقومية التركية، ويرى بلاده مُميّزة وفريدة وبالتالي يفتخر بأصالة شعبه. في المقابل، هذه الوطنية الفائضة تجعل من معرفتهم بما يجري خارج “العالم التركي” مسألة صعبة ونادرة ولا أهمية لها!

لا يزال معظم الأتراك لا يتقنون سوى لغة واحدة دون غيرها. يعود هذا الأمر المستمر إلى اليوم، إلى باني الجمهورية مصطفى كمال “أتاتورك” الذي جعل من اللغة التركية الركن الأول للقومية التركية، وأبعد شعبه عن قصد عن شؤون الشرق، وجعلهم أكثر إنطواء على ذواتهم

وعندما تندلع حرب غير مسبوقة بين حركة “حماس” وإسرائيل، مثلما يحصل منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، ويرى الجمهور العربي عبر شاشات التلفزة بضعة آلاف من الأتراك يهبّون إلى الشوارع “نصرة للقضية الفلسطينية”، يتخيل لنا أن المجتمع التركي برمته قد استفاق وقرّر المبادرة وفعل شيء ما. ولكن، للأمانة، بضعة آلاف هو رقمٌ قليلٌ جداً من أصل 80 مليون تركي، فيما انحياز غالبية الأتراك للغتهم الأم دون غيرها، يجعلهم أسرى ما يبثه الإعلام المحلي من أخبار عن جرائم إسرائيل وما تقوم به “حماس”. فإن أراد الحُكم التركي، وهو المسيطر بشكل كبير على وسائل الإعلام، إنزالهم إلى الشارع أثار الغرائز ببث صور الجرائم الإسرائيلية، أما إن أراد منهم السكينة، فيتجاهل عن قصد هكذا حرب ولا يذكرها إلا عرضاً، وهذا ما حصل بالفعل، عندما لم يكترث الإعلام التركي لمشاهد الدمار في الأيام الأولى من عملية “طوفان الأقصى”، وذلك ريثما يُطلق رجب طيب إردوغان مبادرته ووساطته لوقف إطلاق النار. ولكن، بعد رفض إسرائيل تلك المبادرة وعدم اكتراث دول العالم لها، انتقل الإعلام التركي إلى بث مشاهد الموت والدمار من قطاع غزة، وتلاها نزول عشرات الآلاف إلى الشوارع في تركيا “دعماً للقضية الفلسطينية” بدعوة من حزب “العدالة والتنمية” الحاكم.

يُخطِئ من يظن أن العولمة تغلغلت في مفاصل حياة الإنسان التركي، هذا طالما لا يزال معظم الأتراك لا يتقنون سوى لغة واحدة دون غيرها. يعود هذا الأمر المستمر إلى اليوم، إلى باني الجمهورية مصطفى كمال “أتاتورك” الذي جعل من اللغة التركية الركن الأول للقومية التركية، وأبعد شعبه عن قصد عن شؤون الشرق، وجعلهم أكثر إنطواء على ذواتهم.

حتى في أحلك أيام السلطنة العثمانية وأكثرها انحطاطاً كان في اسطنبول مدارس تُعلّم اللغات العربية واليونانية والفرنسية والألمانية والبلغارية، كما جرائد تنطق باللغات العربية والكردية والروسية. أما اليوم، فلا جريدة محلية ناطقة بلغة غير التركية سوى مجلة “آغوس” الأرمنية.

إعادة تعريف الأتراك بما يجري حولهم مهمة شاقة عمل عليها الحزب الحاكم وزعيمه إردوغان، فأعاد تعريف الأتراك بشؤون الشرق من دون إهمال الغرب. كما تدخل بحماسة في الكثير من البلاد المشرقية كسوريا والعراق وليبيا وفلسطين وغيرها، لكن دون أن تنسحب هذه الحماسة على الأتراك.

إن إعادة تعريف الأتراك بما يجري حولهم في العالم العربي هو مصلحة عربية في المقام الأول، وليست تركية فقط. تماماً كما أن مصلحة تعريف الأتراك وكل الناس بالقضية الفلسطينية هي مسؤولية فلسطينية وعربية قبل أي أحد آخر. إن عدم إكتراث الأتراك بما يجري من حولهم يظنها الحكم التركي فضيلة تجعل شعبه بمنأى عن التأثر بغيره، لكن ذلك يصبح رذيلة موصوفة تجعل من الأتراك غرباء عن قضايا غيرهم.

إقرأ على موقع 180  أحداث الشرق الأوسط تداهم بايدن.. ماذا بعد؟

بالعودة إلى اسطنبول وزحتمها وسيّاحها و “متروهاتها”، يجرّ حامل الحقائب متع عشرات السياح الجدد، ويُوصلهم إلى التاكسي والمترو، فيصلون إلى مقصدهم.. تمضي الحياة هنا بشكل عادي، فيما يموت المئات وربما الآلاف يومياً تحت أنقاض بنايات غزة، من دون أن يعرف معظم الأتراك كثيراً عمّا يجري هناك.

Print Friendly, PDF & Email
تركيا ـ جو حمورة

كاتب لبناني متخصص في الشؤون التركية

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  عبدالناصر الفلسطيني.. مقدمات ثورة يوليو