عندما يصبح “الترانسفير” خشبة خلاص صهاينة لبنان!

في طفولتي، غالباً ما كان اللعب مع رفاقي يأخذني بعيداً عن البيت. بخاصّة، عندما كنّا نلعب "أبطال وحراميّة". أو "وقعت الحرب في..". أو "ballon-chasseur". وعندما ننتهي ويحين موعد الانصراف، كان يتملّكني الخوف. إذْ، حينذاك، كانت تبدأ مشكلتي. أيّ طريقٍ يجب أن أسلك، يا ترى، كي أصل إلى بيتنا؟

رهيباً كان ذاك الشعور. ولا سيّما، عندما أبدأ بالتهيّؤ “للقصاص العنيف” الذي كانت تنتظرني به أمّي على باب دارتنا. فهي لم تكن ترى في سبب تأخُّري في العودة إلى البيت، إلاّ شكلاً من أشكال التمرّد عليها. مسكينة يا أنا! فلم أكن أعرف أنّ مشكلة ضياعي في الطفولة، إنّما تعود إلى علّةٍ فيّي. سيشخّصها العلم، في ما بعد، كأحد أنواع صعوبات التعلّم. سمّاها Geographic dyslexia، أي “صعوبات الجغرافيا”. وتعني، ضعف معرفة الإنسان للمكان الذي يجد نفسه فيه. وعُسراً في فهم الاتّجاهات وتذكّرها. وبحسب الدراسات، فإنّ الإناث تعانين من هذه العلّة أكثر بكثير من الذكور. فهؤلاء يخلقون مع موهبةٍ خاصّة في “تعقّب الطريدة”! لماذا هذه التوطئة؟

لأنّني عندما كبرتُ، عرفتُ سبب خوفي عندما كنتُ أتوه عن درب بيتنا. كنتُ أشعر، بأنّني لن أستطيع العودة إلى البيت أبداً. وبأنّني سأبقى مشرّدة في العراء. أملٌ وحيد كان يبدّد قلقي وفزعي. سماع اسمي يتردّد في مكبّر الصوت المنصوب على سطح البلديّة في قريتنا. كان الصوت يعلن عنّي، “طفلةً ضائعة الرجاء ممّن يعرف عنها شيئاً أن يبلّغ ذويها”. يا إلهي.. كم يشبه فزع طفولتي، ذاك الذي كان ينتابني “شابةً مهاجِرةً” في باريس! كنتُ بعيدة آلاف الأميال عن بيتنا. ولا أعرف إلى درب عودتي سبيلاً!

الطغمة المتحكّمة بالبلد، حوّلت أهلَ لبنان إلى عبيد. بكلّ ما لكلمة “عبيد” من معنى. بعدما باتوا لا يمتلكون ذواتهم. ولا يستطيعون أن يسترجعوا ملكيّتهم لها لأنّهم عبيد. فمِن العسير أن يجد الإنسان ذاته، إذا لم يكن حرّاً. والحريّة تبدأ، مع الإنسان الذي امتلك ذاته. أجل، إنّه الدوران في حلقة مفرغة

نعم. شبيهٌ جداً شعور المهاجر بشعور الإنسان التائه على هذه الأرض. فالغربة، هي أقسى شعور يمكن أن يُحسّ به الكائن البشري. ولا يُدرِكه المغترب، إلاّ على مراحل. على شكل نوباتٍ متكرّرة من تبدّد الشخصيّة. والانفصال عن الواقع. ولا يُستكمَل الوعي به، إلاّ بمرور الوقت. والسبب عميق للغاية. ولا يقف عند حدود الحنين والشوق والحسّ الوطني و…ما شابه من مشاعر. إنّه فقدان الهويّة، باختصار. الهويّة التي هي ماهيّة الإنسان. إحساسه الذي يُنتِج لديه التكامليّة مع الآخر. ويعزّز قدرته على التوفيق بين المتناقضات. وإمكانيّة التماثل مع الغير للتواصل والاستمراريّة.

أمّا وأن يتملّك المرء شعورٌ بفقدان هويّته وهو في بيته. وهو على أرضه. وهو بين ناسه. فهي الفاجعة بعينها. إحساسٌ شبيه بنهاية الدنيا. يُسمّى “الاغتراب”. أي، الشعور بالغربة عن الذات داخل الوطن وأنت فيه. فيصبح الإنسان لا يعيش ذاته كمركزٍ لعالمه. أو كصانعٍ لأفعاله ومشاعره. إنّما يبدأ بنفي ذاته عن نفسه كفاعلٍ. فيتحوّل إلى موضوع. وإذّاك، يصير شخصاً غريباً عن محيطه. كائناً يتنحّى عن الناس. وعندما يشاهد نفسه عن بُعد، يشعر وكأنّها من خارج جسمه. هكذا يعرِّف الفيلسوف الألماني هيغل “الاغتراب”، المصطلح الذي اعتُبر فيلسوفنا أوّل مَن صكّه من الناحية المنهجيّة. والاغتراب، هو الوجه الآخر لتصدّع الأوطان. بحيث، يترتّب على هذا الشعور انحلال الرابطة بين الفرد والمجتمع. وعجزه عن احتلال المكان الذي ينبغي أن يحتلّه. فيُفضي ذلك، تلقائيّاً، إلى إحساسه بالتبعيّة. والانتماء إلى شخصٍ آخر. أو إلى آليّةٍ أخرى. فيصبح مرهوناً له أو لها. بل مستلَباً. ما يوّلد لديه شعوراً بالإحباط والتشيّؤ والتشظّي و.. العبوديّة. أَوَليس هذا ما يشعر به، راهناً، معظم اللبنانيّين؟ بلى.

الطغمة المتحكّمة بالبلد، حوّلت أهلَ لبنان إلى عبيد. بكلّ ما لكلمة “عبيد” من معنى. بعدما باتوا لا يمتلكون ذواتهم. ولا يستطيعون أن يسترجعوا ملكيّتهم لها لأنّهم عبيد. فمِن العسير أن يجد الإنسان ذاته، إذا لم يكن حرّاً. والحريّة تبدأ، مع الإنسان الذي امتلك ذاته. أجل، إنّه الدوران في حلقة مفرغة. وتعرفون، يا أصدقاء، أنّ الحريّة تشكّل التهديد المباشر لأيّ سلطة. وأنّ عبوديّة الإنسان واغترابه عن ذاته، شكّلا على الدوام الشرطيْن اللازميْن لاستمرار أيّ سلطة. وازدهارها، أيضاً. من هنا، فإنّ قوّة السلطة تتزايد، كلّما تزايد اغتراب الفرد عن ذاته.

لقد أسّست الطبقة السياسيّة سلطتها على تشظّي الذات اللبنانيّة وانمحائها. فضاع الناس في وطنهم. وتشتّتوا بين المراثي والملاحم. وبين شمسهم والدم المستباح. عندها، قرّروا أن يكسروا الأقفاص ويطيروا. فلا تتعجّبوا من عصفورٍ يهرب، وأنتم تقتربون منه وفي يدكم طعامٌ له. فالطيور، وعلى عكس بعض البشر، تؤمن بأنّ الحريّة أغلى من الخبز! لا أذكر أين قرأتُ هذه المقولة الجميلة. لكنّني أذكر تعريفاً للوطن قرأته في أحد مؤلّفات كاتب مصر الكبير نجيب محفوظ، فيقول: “وطن المرء ليس مكان ولادته. لكنّه المكان الذي تنتهي فيه كلّ محاولاته للهروب”.

إقرأ على موقع 180  روح الصين إن إحتلت.. عالمنا

لم تنتهِ بعد، محاولات اللبنانيّين للهروب من قبضة سفّاحي العصر. لا بل تضاعفت. فكلّ المواعظ تبدو سخيفة، أمام الجوع الذي دخل بيوتهم. إذْ شعروا أنّهم يسقطون نحو أعلى. عوضاً عن السقوط نحو أسفل. فليست قوانين المجتمع هي قوانين الجاذبيّة. بل تتحوّل، أحياناً، إلى نكوصٍ تجاه الخلف. نحو التوحّش والهمجيّة. اختاروا الهروب مرّة جديدة. وسمّوه اسماً ملطَّفاً: الهجرة. مئات الألوف من اللبنانيّين يهاجرون. مع كلّ أزمةٍ ومحنة. فعلوها في فتنة 1860. وعقب انتهاء الحرب العالميّة الأولى في 1918. بعد استقلال 1943. وخلال الحرب الأهليّة بين 1975 و1990. غداة اغتيال رفيق الحريري في 2005. وبعد انفجار مرفأ بيروت في 2020. لكنّ الهجرة الحاليّة للّبنانيّين لا تشبه هجراتهم السابقة. كيف؟

“وطن بلا شعب لشعبٍ بلا وطن”، هي المقولة التي همسوا بها لبعضهم البعض. كشعارٍ لجوهر المشروع الصهيوني اللبناني. وعليه، شرعوا بتنفيذ أخطر عمليّة ترانسفير للفقراء اللبنانيّين الجُدد. كتلك التي عاشها الفلسطينيّون، قبل أكثر من سبعين سنة. حدّد صهاينة لبنان أهدافهم بدقّة. فلا تظنّنّ أنّهم فاشلون. كلا. هم أدهى دهاة الأرض، عندما يتعلّق الأمر بمصالحهم الخاصّة

بعد أطوارٍ معقّدة لتاريخهم، اكتشف اللبنانيّون أنّ اللصوصيّة والإجرام هما الرابحان الوحيدان في البلد. بلدهم الذي صار مرادفاً للخواء. وكأنّ حُكّامنا مكلَّفون بإنجاز كلّ أنواع الاندثارات فيه. وضمن فترةٍ زمنيّة محدّدة. خطّطوا لمؤامرةٍ جهنّميّة. وهندسوا عمليّات ترحيلٍ قسريّة. لحشود “الفقراء الجُدد”. هكذا سمّى الصحافي جان عزيز اللبنانيّين الذين كانوا ينتمون إلى الطبقة الوسطى. تلك التي سحقتها مافيات الحُكم بعد ثورة 17 تشرين، لو تذكرون. وبشكلٍ ممنهج. فأمام المعضلات الأخلاقيّة التي غرقوا فيها، حَبَك أركان الحكم اللبناني خططهم لإحداث تغييرٍ ديموغرافي في لبنان. أو بمعنى أدقّ، للتخفيف من حجم الديموغرافيا اللبنانيّة.

“وطن بلا شعب لشعبٍ بلا وطن”، هي المقولة التي همسوا بها لبعضهم البعض. كشعارٍ لجوهر المشروع الصهيوني اللبناني. وعليه، شرعوا بتنفيذ أخطر عمليّة ترانسفير للفقراء اللبنانيّين الجُدد. كتلك التي عاشها الفلسطينيّون، قبل أكثر من سبعين سنة. حدّد صهاينة لبنان أهدافهم بدقّة. فلا تظنّنّ أنّهم فاشلون. كلا. هم أدهى دهاة الأرض، عندما يتعلّق الأمر بمصالحهم الخاصّة. فلقد عرفوا، بفطرتهم الشيطانيّة، كيف يصوّبون على أهدافهم. على الطبقة الوسطى من اللبنانيّين، بالذات. فهؤلاء مصدر الخطر، بالنسبة إليهم. فقرّروا جعلهم عبرة لمَن اعتبر. بعدما عجزوا عن تطويعهم.

إذاً، تفكيك هذه الطبقة وإنهاكها شكّلا البند الأوّل في “المخطّط السلطوي” لتهجيرها هجرةً أبديّة. يليها تطبيع الباقين وتدجينهم (معظمهم مدجَّنون). أمّا البند الثاني فيقول، إنّ إبعاد نحو ستمئة ألف لبناني (خلال خمس سنوات كحدٍّ أقصى) يساعد في تخفيف الاستهلاك ومن ثمّ الاستيراد، منطقيّاً. وهكذا، تتمّ المحافظة على الدولارات المتبقّية. والبند الثالث من خطّتهم، هو التعويل على زيادةٍ في تحويلات المغتربين اللبنانيّين الماليّة (أي مَن هجّرتهم السلطة).

كلمة أخيرة. يجد اللبنانيّون أنفسهم بين غربة واغتراب واحتراب. لم يرحلوا إلى أيّ مكان. بل رحل وطنهم عنهم. صحيحٌ أنّه قبل الانهيار، لم يكن لبنان بلداً نموذجيّاً لاحتضان مواطنيه. لكنّ ابتعادهم عنه، اليوم، له طابع التهجير أكثر منه طابع الهجرة الطوعيّة. ولا أخفيكم، أنّني أُستفَزّ كثيراً من التعليقات التي تمدح الأشخاص الذين تحلّوا بما يكفي من الذكاء، لكي يرحلوا عن هذه البلاد. فتراهم يقطعون، كلّ الركائز والمراسي التي تربطهم بالأرض. يعتقدون أنّهم، حين يقطعونها، سيتحرّرون. لكنّ تحرّرهم هذا، يشبه أكثر ما يكون كرةً ضخمةً ممتلئة بغاز الهليوم. وعند قطْع خيطها ترتفع.. وترتفع.. وترتفع. موحيةً بأنّها ترتفع نحو السماء. بينما هي ترتفع نحو العدم. إقتضى التنويه.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  يومُ موتك يا ريان أطول من دهر.. ماذا بعد؟