فى المشهد الهوليوودى تفسيرات وتأويلات ذهبت باتجاهات متناقضة. بعضها أكدت أن المداهمة والتفتيش فى أنحاء المكان خضع لإجراءات أمنية وقانونية منضبطة بموافقة قاضٍ فيدرالى وفق معطيات مقنعة.
إنها إذن «دولة القانون» و«لا أحد فوقها» ــ بتعبير رئيسة مجلس النواب «نانسى بيلوسى»، فـ«الرئيس جو بايدن لا يتدخل فى أعمال العدالة ويحترم القانون» ــ بتعبير آخر للبيت الأبيض.
وبعضها الآخر ذهبت إلى اتهام البيت الأبيض بـ«تسييس العدالة» للحيلولة دون خسارة شبه مؤكدة للحزب الديمقراطى فى الانتخابات النصفية لمجلسى الكونجرس بالخريف المقبل وقطع الطريق على «ترامب» من العودة إلى البيت الأبيض إذا ما فاز بالانتخابات الرئاسية لعام (2024)، وهو احتمال غير مستبعد بالنظر إلى التراجع الفادح لشعبية «بايدن» فى استطلاعات الرأى العام.
إنها إذن إجراءات مسيسة وحملة مطاردة لأسباب لا علاقة لها بالقانون، على النحو الذى يحدث فى ديكتاتوريات العالم الثالث وجمهوريات الموز ــ كما يقول «ترامب» وأنصاره فى الحزب الجمهورى.
القوى الديمقراطية الشعبية والصحافية والبحثية التى راهنت على إزاحة «ترامب» تجد نفسها الآن فى أوضاع مزعجة خشية أن يعود إلى البيت الأبيض مجددا، أو أن تخسر أمريكا الصراع الجارى على القوة والنفوذ والمكانة فى عالم يتغير بأثر تصدعها الداخلى
وسط فوضى التفسيرات والتأويلات المتناقضة يتبدى مستقبل الولايات المتحدة معلقا على تفاعلات صاخبة فى بنية مجتمعها وتساؤلات قلقة عن المدى الذى سوف يذهب إليه انحدارها فى موازين القوى والحسابات الدولية بعالم يتشكل من جديد.
يصعب تصديق أن «بايدن» لم يكن على علم مسبق بالمداهمة، أو أن وزير العدل لم يخطره مسبقا.
أيا كانت قوة الحجج القانونية فإن التسييس لا يمكن نفيه فى واقعة المداهمة.
بالقدر نفسه فإن «ترامب» آخر من يحق له أن يتحدث عن ديكتاتوريات العالم الثالث وجمهوريات الموز، إذ أعرب أثناء ولايته أكثر من مرة بصيغ متعددة عن أمله أن يحكم بلاده على النحو الذى يجرى فى العالم الثالث، أو أن يكون بوسعه تمديد ولاياته بأكثر مما يتيحه الدستور الأمريكى.
لم يعترف بهزيمته الانتخابية أمام غريمه الديمقراطى «بايدن»، استخدم كل الأساليب المشروعة وغير المشروعة، القانونية وغير القانونية، لتغيير نتائج الانتخابات الرئاسية، خرق أية قواعد ديمقراطية أو شبه ديمقراطية، شجع أنصاره على حصار مبنى الكابيتول واقتحامه بالقوة لمنع اعتماد فوز «بايدن» بالرئاسة.
كانت تلك جريمة مروعة بحق أية قواعد ديمقراطية بنت صورة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية كقوة عظمى توافر لها، بالإضافة إلى إمكاناتها العسكرية والاقتصادية الهائلة، نموذج ديمقراطى تعددى ملهم وقوة ناعمة نافذة يلخصه سحر «هوليوود».
كل ذلك يوشك الآن أن يتبدد وسط التحولات الدولية العاصفة والعيوب الجوهرية فى بنية المجتمع الأمريكى وأخطرها العنصرية المتأصلة، التى عبر «ترامب» عن توحشها إلى حد وضع البلاد كلها على حافة المواجهة والتقسيم.
أحد التفسيرات المتماسكة نسبيا لما وراء مداهمة قصر «ترامب» أن «الدولة العميقة» بأجهزتها المختلفة لا تود أن تراه مرة أخرى فى البيت الأبيض على ما يؤكد مع أنصاره.
فـ«ترامب» صعد إلى المقعد الرئاسى من خارج المؤسسة بخطاب شعبوى مفرط استقطب به إحباطات الأكثرية البيضاء وتحميلها كل ما هو ملون مسئوليتها.
تمرد على المؤسسة وخرق قواعدها والتزاماتها، وتصرف كما لو أن سلطته مطلقة يفعل ما يشاء دون أن يرجع إلى أية جهة، أو يخضع لأية مراجعة.
على عكسه تماماً، «بايدن» هو أحد رموز المؤسسة الأمريكية، بكل آلياتها ومصالحها وما يعتريها من شبهات فساد.
برغم التناقض الظاهر بين الرئاستين فإنهما لقيا فشلا واحدا فى بناء صورة أمريكية جديدة لقوة عظمى قادرة على مواجهة عواصف المتغيرات فى بنية النظام الدولى والمجتمع الأمريكى نفسه.
انتهج «ترامب» سياسة داخلية شعبوية وسياسة خارجية شبه انعزالية تحت شعار «أمريكا أولا».
ما هو داخلى أفضى إلى رفع منسوب الاحتقان المجتمعى إلى حدود لا تحتمل.
وما هو خارجى أفضى إلى تراجع نفوذ الولايات المتحدة داخل التحالف الغربى الذى بدأ فى التفكك، وداخل حلف «الناتو» الذى أخذ فى الانكماش بأثر دعوة «ترامب» الملحة إلى ما أسماه: «الدفع مقابل الأمن».
كانت جائحة «كوفيد 19» كاشفة لمستوى الكفاءة الذى انحدرت إليه إدارة «ترامب» حتى بدت مؤتمراته الصحفية اليومية مادة للسخرية باتساع العالم كله!
هكذا فإن «ترامب» كاد يدخل بأمريكا إلى نسخة مستجدة من «جمهوريات الموز»، ويقحمها فى احترابات أهلية عرقية تمزق وحدتها، فيما «بايدن» يكاد يودع قوتها العظمى السابقة فى أرشيف التاريخ!
بالمقابل استهدفت إدارة «بايدن» استعادة هيبة أمريكا وأدوارها القيادية فى التحالف الغربى و«الناتو»، لكنها انزلقت بحماقات الاندفاع دون تحسب فى حرب استنزاف منهكة مع الدب الروسى بأوكرانيا.
فرضت عقوبات غير مسبوقة، شيطنت الرئيس «فلاديمير بوتين» وسعت لـ«إذلال روسيا» واصطيادها فى المستنقع الأوكرانى.
كانت تلك خيارات سياسية حمقاء حذر من مغبتها وزير الخارجية الأمريكى الأشهر «هنرى كيسنجر» دون أن يتوقف أحد فى إدارة «بايدن» ليسأل: إلى أين نحن ذاهبون؟
بالارتدادات العكسية تأكدت النتائج الكارثية للعقوبات الاقتصادية المفرطة، أخطرها الآن أن أوروبا على وشك أن تدخل إلى شتاء قارس بأثر أزمة الطاقة.
بدأت الحكومات الأوروبية تضع خطط طوارئ لتخفيض الإنارة، أو قطعها لأوقات معلومة فى مناطق حكومية أو مزارات سياحية وربما ميادين عامة بالعواصم الأوروبية الكبرى.
هذا مجرد مثال على التذمر المتوقع فى بنية المجتمعات الأوروبية على نهج إدارة «بايدن» فى الحرب الأوكرانية إلى حدود دخلت تداعياتها السلبية كل بيت.
هكذا فإن «ترامب» كاد يدخل بأمريكا إلى نسخة مستجدة من «جمهوريات الموز»، ويقحمها فى احترابات أهلية عرقية تمزق وحدتها، فيما «بايدن» يكاد يودع قوتها العظمى السابقة فى أرشيف التاريخ!
كانت الانتخابات الأمريكية السابقة أقرب إلى استفتاء على «ترامب» من أن تكون خيارا بين رجلين وبرنامجين.
بأثر الضجر من «ترامب»، سياساته ومواقفه، جرى انتخاب «بايدن»، الذى تغيب عنه أية كاريزما ويفتقد التركيز الضرورى فى ممارسة سلطاته، وشعبيته الآن عند أدنى مستوياتها.
القوى الديمقراطية الشعبية والصحافية والبحثية التى راهنت على إزاحة «ترامب» تجد نفسها الآن فى أوضاع مزعجة خشية أن يعود إلى البيت الأبيض مجددا، أو أن تخسر أمريكا الصراع الجارى على القوة والنفوذ والمكانة فى عالم يتغير بأثر تصدعها الداخلى.
(*) بالتزامن مع “الشروق“