أشار الكاتب فى البداية إلى أننا نعيش أوقاتا عصيبة، فالمجتمع الدولى يواجه اضطرابات استثنائية وغير مسبوقة أدت إلى انقسامه بدلا من توحيده. لذلك، يتسم النظام العالمى الآن بانعدام الأمن، مما يؤدى إلى العزلة وعدم الاستقرار وظاهرة كراهية الأجانب.
أضاف الكاتب بأن ممارسة السياسة الخارجية فى مثل هذا المشهد ليس أمرا سهلا، خاصة بالنسبة للبلدان النامية، مثل الهند، التى تحتاج إلى السير بحذر حتى تتجنب الوقوع فى مرمى النيران بين القوى المتعارضة. تدرك نيودلهى تمامًا أن السياسة الخارجية القوية القائمة على السعى وراء المصالح الوطنية فى ظل الأوضاع الراهنة ليست مهمة سهلة. على سبيل المثال، اختبرت الحرب الروسية الأوكرانية قدرة الهند على الحفاظ على استقلالها الذاتى. إذ تمكنت نيودلهى من استيراد أنظمة الصواريخ S400 وموارد الطاقة التى تشتد الحاجة إليها من روسيا. ولكن عندما كان من مصلحة الهند نقل مخاوفها بدبلوماسية إلى الرئيس فلاديمير بوتين، فعل ذلك رئيس الوزراء ناريندرا مودى عندما التقى به على هامش قمة منظمة شنجهاى للتعاون فى سمرقند.
استطرد الكاتب فى مقاله مشيرا إلى احتفاظ نيودلهى بما فشل فيه الآخرون من المرونة والقدرة على الإقناع من خلال رفض الانحياز إلى جانب طرف ما فى المنافسة المشتعلة بين القوى العظمى. لا جدال فى أن الدبلوماسية الهادئة هى أكثر إقناعًا من غيرها.
أما الموقف الهندى إزاء باكستان فيتبع منهجا آخر غير المرونة والإقناع، حيث عاش كلا الطرفين عقودا من الإرهاب عبر الحدود، وموت المدنيين الأبرياء والهجمات الإرهابية فى 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2008 فى مومباى، ومجموعة كاملة من الأعمال الأخرى التى ارتكبت بدعم كامل من الحكومة الباكستانية والجيش، بالتالى وُلدَ تصور بأن إسلام أباد مدفوعة بنفسية معادية للهند. يستند هذا التصور إلى الأحداث المذكورة آنفا؛ ومن شأنه أن يؤثر على التفكير فى أن الحوار مع إسلام أباد لن يكون مثمرًا. على سبيل المثال، قال رئيس الوزراء الهندى السابق أتال بيهارى فاجبايى ذات مرة إنه كان من الصعب التحدث مع شخص يصافحك فوق الطاولة، بينما يركلك من الأسفل.
على الرغم من إدراك الهند للإدانة العالمية للإرهاب وضعف سجل إسلام أباد فى هذا الصدد، فإن باكستان تحظى بدعم من بكين. إذ علقت الصين اقتراحًا أمريكيًا فى مجلس الأمن الدولى لتصنيف ساجد مير، عضو فى منظمة لشكر طيبة الإرهابية، إرهابيًا عالميًا. إضافة إلى مساهمة الصين اليوم بنحو 72% من إمدادات الأسلحة الرئيسية لباكستان. وكذلك تصرفات الولايات المتحدة الغريبة بنفس القدر، فعند إعلان باكستان معاناتها من فيضانات مدمرة، زودتها واشنطن بطائرات F16!.
يعيش العالم حالة من الفوضى والتخبط فى القيادة. فالنفوذ الأمريكى يتراجع ولم يعد يُنظر إليه على أنه شريك موثوق؛ ويبدو أن روسيا تتأرجح على شفا الانهيار. أما صعود الصين فيُنظر إليه على أنه تهديد عالمى. لا تزال أوروبا منفصلة. لقد فقدت الأمم المتحدة فائدتها، لذا يخيم انعدام الأمن والتذبذب على المجتمع العالمى مثل الكفن
فى هذا السياق، يذكر الكاتب أن نيودلهى تتشارك مع المجتمع الدولى التصور أن الصين فى عهد شى جين بينج أصبحت عدوانية وعدائية ومهيمنة. وتدرك عدة دول، من الولايات المتحدة إلى أستراليا أن الصين الصاعدة ستهدد النظام العالمى. ومع ذلك، فهم يتعاملون معها كما تفعل الهند. تبلغ تجارة أستراليا مع الصين 250 مليار دولار مقارنة بـ 25 مليار دولار مع الهند. ففى عام 2020، بلغت تجارة السلع بين الولايات المتحدة والصين 560 مليار دولار. وفقًا لبيانات وزارة التجارة الهندية، بلغت التجارة فى 2020 ــ 2021 بين الهند والولايات المتحدة أقل بقليل من 120 مليار دولار، أى ما يعادل تقريبًا الصين، والتى بلغت 115.42 مليار دولار.
على صعيد آخر، تُطابق الصين نفوذها الاقتصادى مع طموحاتها العسكرية. هناك العديد من الأمثلة على تصور بكين لمصلحتها الوطنية مثل، نزاع بحر الصين الجنوبى، ومعاملتها لسكان الأويغور المسلمين، وسحق التهديدات الداخلية والانشقاق، ودعمها القاطع لباكستان، ومغامرتها فى أغسطس/أب 2020 لتغيير الوضع الراهن على الحدود مع الهند. إن التصورات الموثوقة لسلوك بكين، فى الماضى والحاضر، توضح أن الحوار بين بكين ونيودلهى يجب أن يستند إلى البراجماتية والتوقعات المحدودة.
***
لطالما كانت المصلحة الوطنية هى المحور الرئيسى للسياسة الخارجية، وخاصة للقوى العظمى. لذلك، اضطرت البلدان النامية إلى التنازل والتكيف مع القرارات المفروضة خارجيًا أو مواجهة عواقب وخيمة، بما فى ذلك اغتيال قادتها، واستبدال حكوماتها بقيادة أكثر مرونة، فأنشطة المخابرات الأمريكية فى هذا الصدد موثقة جيدًا.
فى حين أنه لا يوجد بلد يعترف باتباع سياسة خارجية غير أخلاقية، فإن الحقيقة هى أن المصلحة الوطنية والأخلاق لا تتوافق دائمًا. على سبيل المثال، يفضل أبطال الديمقراطية العظماء التعامل مع الديكتاتوريات والأنظمة الاستبدادية ويقبلون الانتهاكات الشديدة لحقوق الإنسان والحريات المدنية. إن تدخل الولايات المتحدة فى فيتنام، وفرض ديكتاتوريين لا يرحمون فى أمريكا اللاتينية، وتغيير النظام فى العراق، والانسحاب المتسرع والأحادى الجانب من أفغانستان، على سبيل المثال لا الحصر، لا يمكن تصنيفها على أنها أخلاقية أو مبررة أخلاقيا. فى الواقع، حتى رئيس وزراء بريطانيا السابق بوريس جونسون كان مُحبطًا بما يكفى عند الإشارة إلى الخروج الأمريكى من أفغانستان على أنه «غبى».
طبقا لما ورد ذكره آنفا، تدرك الهند أنه فى هذا العالم الممزق الذى نعيش فيه، تكمن قوة الدولة فى قدرتها على حماية مصلحتها الوطنية. لقد رفضت الهند الاستعانة بمصادر خارجية، لذلك هى ليست عضوًا فى أى تحالف أمنى. وعليه، إذا كان هناك عدوان عسكرى من قبل باكستان والصين، فإن الهند بحاجة إلى الاعتماد على مواردها الخاصة. ولذلك، تحتاج الهند، كجزء من مصلحتها الوطنية، إلى تعزيز قدرتها العسكرية، وفى الوقت نفسه، إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة لضمان تجنب المواجهة المسلحة أو الدخول فيها كملاذ أخير فقط.
وتفترض حماية المصلحة الوطنية التقليل إلى أدنى حد من الأخطار التى تُهدد المصلحة الوطنية والقضاء عليها فى النهاية. وبالتالى، كان التركيز الأساسى للدبلوماسية الهندية هو كسب الأصدقاء فى جميع أنحاء العالم. فى الواقع، كان هذا هو اللبنة الأساسية للسياسة الخارجية الهندية منذ الاستقلال. لقد خدمت هذه السياسة الهند بشكل جيد ولا تزال.
الآن، يعيش العالم حالة من الفوضى والتخبط فى القيادة. فالنفوذ الأمريكى يتراجع ولم يعد يُنظر إليه على أنه شريك موثوق؛ ويبدو أن روسيا تتأرجح على شفا الانهيار. أما صعود الصين فيُنظر إليه على أنه تهديد عالمى. لا تزال أوروبا منفصلة. لقد فقدت الأمم المتحدة فائدتها، لذا يخيم انعدام الأمن والتذبذب على المجتمع العالمى مثل الكفن. وبالتالى، هناك قلق بشأن كيفية وقف الاضطراب السائد، لا سيما فى مواجهة التحديات والتهديدات المتعددة.
ختاماً، هذه أوقات عصيبة لأى دولة وصياغة سياستها الخارجية فى ظل تلك الأوضاع المضطربة يُعتبر أمرًا صعبًا. لذا، تتطلب السياسة الخارجية القوية رؤية طويلة الأجل تولى أهمية للطريقة التى تقى بها الدولة نفسها من الخطر وفى ذات الوقت كيفية التعامل مع الآخرين، سواء من حيث السياسات المحلية أو الحوكمة، مثل سلوكها على المسرح الدولى والشئون العالمية.
(*) بالتزامن مع “الشروق“